محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُواْ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ} (198)

{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين 198 } .

{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } قال الراغب : كانت العرب تتحاشى من التجارة في الحج ؛ حتى إنهم كانوا يتجنبون المبايعة إذا دخل العشر ، وحتى سمّوا من تولّى متجرا في الحج : الداج دون الحاج ؛ فأباح الله ذلك ؛ وعلى إباحة ذلك ، دل / قوله : { وأذّن في الناس بالحج } . . . إلى قوله { ليشهدوا منافع لهم } {[1155]} وقوله : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } {[1156]} .

وقد روى البخاري{[1157]} عن ابن عباس قال : ( كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } في مواسم الحج ) .

ففي الآية ترخيص لمن حج في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق وهو المراد بالفضل هنا ومنه قوله تعالى : { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } {[1158]} . أي : لا إثم عليكم في أن تبتغوا في مواسم الحج رزقا ونفعا وهو الربح في التجارة مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج . . . ! { فإذا أفضتم من عرفات } أي : دفعتم منها { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } أي : بالتلبية ، والتهليل ، والتكبير ، والثناء ، والدعوات . و{ المشعر الحرام } : موضع بالمزدلفة ، ميمه مفتوحة وقد تكسر ، وقد وَهَمَ من ظنه جبيلا بها . سمى به لأنه معلم للعبادة وموضع لها كذا في ( القاموس وشرحه ) .

ونقل الفخر عن الواحديّ في ( البسيط ) : إن { المشعر الحرام } هو المزدلفة . سماها الله تعالى بذلك ، لأن الصلاة والمقام والمبيت به ، والدعاء عنده . واستقربه الفخر قال : لأن الفاء في قوله { فاذكروا الله } . . . إلخ تدلّ على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات ، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة . انتهى .

/ قال البيضاوي : ويؤيد الأول ما روى جابر{[1159]} : ( أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر يعني بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام ) ، أي : فإنه يدل على تغاير المزدلفة والمشعر الحرام لمكان مسيره صلى الله عليه وسلم منها إلى المشعر الحرام . ! وإنما قال ( يؤيد ) لأنه يجوز أن يؤول المشعر الحرام في الحديث بالجبل ، إما بحذف المضاف ، أو بتسمية الجزء باسم الكل أفاده السيلكوتي .

قال ابن القيّم في ( زاد المعاد ) في سياق حجته صلى الله عليه وسلم : ( فلما غربت الشمس واستحكم غروبها أفاض من عرفة بالسكينة من طريق المأزمين ، ثم جعل يسير العنق وهو ضرب من السير ليس بالسريع ولا البطيء فإذا وجد فجوة وهو المتسع نص سيره أي : رفعه فوق ذلك وكان يلبي في مسيره ذلك لا يقطع التلبية ، حتى أتى المزدلفة فتوضأ ، ثم أمر المؤذن بالأذان فأذّن ، ثم أقام فصلى المغرب قبل حط الرحال وتبريك الجمال ؛ فلما حطوا رحالهم أمر فأقيمت الصلاة ثم صلى العشاء الآخرة بإقامة بلا أذان ، ولم يصل بينهما شيئا ؛ فلما طلع الفجر صلاها في أول الوقت ، ثم ركب حتى أتى موقفه عند المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة وأخذ في الدعاء والتضرّع والتكبير والتهليل والذكر حتى أسفر جدا ، وذلك قبل طلوع الشمس ) . انتهى المقصود منه .

قال بعض الأئمة : ما أحق الذكر عند المشعر الحرام بأن يكون واجبا أو نسكا ، لأنه مع كونه مفعولا له صلى الله عليه وسلم ، ومندرجا تحت قوله : ( خذوا عني مناسككم ) ، فيه أيضا النص القرآني بصيغة الأمر : { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } .

{ واذكروه كما هداكم } بدلائل الكتاب ، أي : اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة ! فمفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال ، كما تقول : اخدمه كما أكرمك ، / يعني : لا تتقاصر خدمتك عن إكرامه . وفيه تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحج ! { وإن كنتم من قبله } أي : من قبل الهدى { لمن الضالين } الجاهلين بالإيمان والطاعة ، و{ إن } هي المخففة ، و( اللام ) هي الفارقة .


[1155]:[22/ الحج/ 27].
[1156]:[73/ المزمل/ 20].
[1157]:أخرجه البخاري في: 25 ـ كتاب الحج، 150 ـ باب التجارة أيام الموسم والبيع في أسواق الجاهلية، حديث 904.
[1158]:[62/ الجمعة/ 10] ونصها: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون 10}.
[1159]:أخرجه مسلم في: 15 ـ كتاب الحج، حديث 147 (طبعتنا).. وهذا الحديث، ينبغي لمن ينوي الحج، أن يجعل دراسته هِجِّيرَاهُ.