المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (234)

قوله عز وجل : { وَالذَّيِنَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجاً يَتَرَبَّصْنَ بأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً }

قال بعض نحاه الكوفيين : الخبر عن { الذين } متروك( {[2222]} ) والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهن يتربصن ، ومذهب نحاة البصرة أن خبر { الذين } مترتب بالمعنى( {[2223]} ) ، وذلك أن الكلام إنما تقديره يتربص أزواجهم ، وإن شئت قدرته . وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن ، فجاءت العبارة في غاية الإيجاز ، وإعرابها مترتب على هذا المعنى المالك لها المتقرر فيها ، وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى : وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون ، ولا أعرف هذا الذي حكاه لأن ذلك إنما يتجه إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد . مثل قوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] ، وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظة( {[2224]} ) . فيحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر ، وحسن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله : { فلا جناح عليكم } ، إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها الرجال الذين منهم الحكام والنظار ، وعبارة المبرد والأخفش ما ذكرناه ، وهذه الآية هي في عدة المتوفى عنها زوجها ، وظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الحرائر غير الحوامل ولم تعن الآية لما يشذ من مرتابة ونحوها( {[2225]} ) ، وحكى المهدوي عن بعض العلماء أن الآية تناولت الحوامل ثم نسخ ذلك بقوله : { وأولات الأحمال }( {[2226]} ) [ الطلاق : 4 ] ، وعدة الحامل وضع حملها عند جمهور العلماء ، وروي عن علي بن ابي طالب وابن عباس وغيرهما أن تمام عدتها آخر الأجلين( {[2227]} ) ، والتربص الصبر والتأني بالشخص في مكان أو حال ، وقد بين تعالى ذلك بقوله : { بأنفسهن } ، والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : متظاهرة أن التربص بإحداد وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه ، والتزام المبيت مسكنها حيث كانت وقت وفاة الزوج . وهذا قول جمهور العلماء وهو قول مالك وأصحابه . وقال ابن عباس وأبو حنيفة فيما روت عنه وغيرهما : ليس المبيت بمراعى ، تبيت حيث شاءت . وقال الحسن بن أبي الحسن : «ليس الإحداد بشيء ، إنما تتربص عن الزواج ، ولها أن تتزين وتتطيب » .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف( {[2228]} ) . وقرأ جمهور الناس «يُتوفون » بضم الياء ، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «يَتوفون » بفتح الياء ، وكذلك روى المفضل عن عاصم ، ومعناه يستوفون آجالهم( {[2229]} ) ، وجعل الله الأربعة الأشهر والعشر عبادة في العدة فيها استبراء للحمل ، إذ فيها تكمل الأربعون والأربعون والأربعون ، حسب الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره( {[2230]} ) ثم ينفخ الروح ، وجعل الله تعالى العشر تكملة إذ هي مظنة لظهور الحركة بالجنين وذلك لنقص الشهور أو كمالها ولسرعة حركة الجنين أو إبطائها ، قاله سعيد بن المسيب وأبو العالية وغيرهما ، وقال تعالى : { عشراً } ، ولم يقل عشرة تغليباً لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها ، وعشر أخف في اللفظ( {[2231]} ) ، قال جمهور أهل العلم : ويدخل في ذلك اليوم العاشر وهو من العدة لأن الأيام مع الليالي ، وحكى منذر بن سعيد - وروي أيضاً عن الأوزاعي - : أن اليوم العاشر ليس من العدة بل انقضت بتمام عشر ليالٍ ، قال المهدوي : «وقيل المعنى وعشر مدد كل مدة من يوم وليلة » ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «أربعة أشهر وعشر ليال » .

قوله عز وجل :

{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

أضاف تعالى الأجل إليهنّ إذ هو محدود مضروب في أمرهن ، والمخاطبة بقوله { فلا جناح عليكم } عامة لجميع الناس ، والتلبس بهذا الحكم هو للحكام والأولياء اللاصقين( {[2232]} ) والنساء المعتدات ، وقوله عز وجل { فيما فعلن } يريد به التزوج فما دونه من التزين واطراح الإحداد . قال مجاهد وابن شهاب وغيرهما : أراد بما فعلن النكاح لمن أحببن إذا كان معروفاً غير منكر( {[2233]} ) .

قال القاضي أبو محمد : ووجوه المنكر في هذا كثيرة ، وقال بعض المفسرين : { بالمعروف } معناه بالإشهاد ، وقوله تعالى : { والله بما تعملون خبير } وعيد يتضمن التحذير ، و { خبير } اسم فاعل من خبر إذا تقصى علم الشيء .


[2222]:- أي غير موجود، لأن القصد الإخبار عن الأزواج لا عن الرجال الذين يتوفون.
[2223]:- مراده أن الخبر موجود بالمعنى لا باللفظ، والذي يصحح ذلك أحد أميرين – إما التقدير في أول الكلام – «وأزواج الذين يتوفون» – أو التقدير في آخره - «فالزوجات يتربصن أو يتربص أزواجهن بعدهن».
[2224]:- فقوله تعالى: [يتربّصن] خبر معناه الأمر وحاصله أن ما حكاه المهدوي من الإعراب إنما هو فيما فيه لفظ الأمر لا فيما فيه معناه. وقوله تعالى (والسارق) من الآية (38) من سورة (المائدة).
[2225]:- يعني أن الآية لم تتعرض للمرتابة لندرتها وكثرة السلامة من الريبة.
[2226]:- من الآية (4) من سورة (الطلاق).
[2227]:- هو مسلك حسن، لما فيه من الجمع بين الدلائل، إلا أن السنة جاءت بخلاف ذلك.
[2228]:- لأنه خلاف السنة الصحيحة، ففي البخاري ومسلم عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكحل ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار). يعني لا تمس طيبا إلا نبذة. أي قطعة صغيرة من قسط وأظفار إذا طهرت من الحيض أو النفاس. وثوب العصب نوع من البرود الخشنة، والقسط والأظفار نوعان من البخور، وكان الحسن البصري – رحمه الله – تعلق بحديث أسماء بنت عُمَيس أنها استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تحد على جعفر بن أبي طالب –وهي زوجة- فأذن لها ثلاثة أيام، ثم بعث إليها أن تطهّري واكتحلي. وهو حديث شاذ كما قاله الإمام أحمد رحمه الله.
[2229]:- قراءة شاذة، وهي على حذف المفعول به، وحذفه كثير في القرآن.
[2230]:- فأربعون ثلاث مرات: هي أربعة أشهر كاملة – وحديث ابن مسعود في تكوين الجنين معروف ومشهور.
[2231]:- يعني إنما أُنث لأن المراد: «وعشر مدد»، واليوم والليلة مدة معلومة من الزمان.
[2232]:- أي الأقربين.
[2233]:- أي إذا كان يعرف شرعاً ولا ينكر، كاختيار الزوج، وتقدير الصداق، وما إلى ذلك مما يرجع إلى مصلحة نفسها، وأما العقد فلا تتولاه – بل هو للأولياء اللاصقين بها، وأما ما كان منكراً من القول أو الفعل كالتبرج والتَّشَوُّف إلى الرجال في العدة فللأولياء اعتراضه وإنكاره، ووجوه المنكر في هذا كثيرة كما قال ابن عطية رحمه الله.