المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ رَّقِيبٗا} (52)

وقوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد } قيل كما قدمنا إنها خطرت عليه النساء إلا التسع اللواتي كنَّ عنده ، فكأن الآية ليست متصلة بما قبلها ، قال ابن عباس وقتادة لما هجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً ، وآلى منهن ثم خرج وخيرهن فاخترن الله ورسوله ، جازاهن الله بأن حظر عليه النساء غيرهن وقنعه بهن وحظر عليه تبديلهن ، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء ، وقال أبيّ بن كعب وعكرمة قوله { لا يحل لك النساء من بعد } أي من بعد الأصناف التي سميت ، ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا { لا يحل لك النساء } معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا تأويل فيه بعد ، وإن كان روي عن مجاهد ، وكذلك روي أن تبدل اليهوديات والنصرانيات بالمسلمات ، وهذا قول أبي رزين وسعيد بن جبير ، وقال أبيّ بن كعب { من بعد } يعني لا يحل لك العمات والخالات ونحو ذلك ، وأمر مع ذلك بأن لا يتبدل بأزواجه التسع منه من أن يطلق منهن ويتزوج غيرهن قاله الضحاك ، وقيل بمن تزوج وحصل في عصمته أي لا يبدلها بأن يأخذ زوجة إنسان ويعطيه هو زوجته قال ابن زيد وهذا شيء كانت العرب تفعله .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول ضعيف أنكره الطبري وغيره في معنى الآية ، وما فعلت العرب قط هذا ، وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال من هذه الحميراء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه عائشة ، فقال عيينة : يا رسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة العرب جمالاً ونسباً فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية فقال هذا القول{[9551]} ، وقرأ أبو عمرو بخلاف «لا تحل » بالتاء على معنى جماعة النساء ، وقرأ الباقون «لا يحل » بالياء من تحت على معنى جميع النساء وهما حسنان لأن تأنيث لفظ النساء ليس بحقيقي ، وقوله تعالى : { ولو أعجبك حسنهن } ، قال ابن عباس نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس أعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب وفي هذه اللفظة { أعجبك حسنهن } دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها ، وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما »{[9552]} وقال عليه السلام لآخر : «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً »{[9553]} ، قال الحميدي يعني «صغراً » ، وقال سهل بن أبي حثمة رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك على أجار من أجاجير{[9554]} المدينة فقلت له أتفعل هذا ؟ فقال نعم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها »{[9555]} ، وقوله تعالى : { إلا ما ملكت يمينك } { ما } في موضع رفع بدل من { النساء } ، ويجوز أن تكون في موضع نصب على الاستثناء ، وفي النصب ضعف ، ويجوز أن تكون { ما } مصدرية والتقدير إلا ملك يمينك وملك بمعنى مملوك ، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول{[9556]} ، و «الرقيب » فعيل بمعنى فاعل أي راقب{[9557]} .


[9551]:اختصر ابن عطية رواية خبر عيينة بن حصن، وحتى لا يكون هناك تساؤلات ترد على الذهن عند قراءة الخبر بهذه الصورة أورده هنا كاملا كما رواه القرطبي في تفسيره وكذلك الإمام السيوطي في الدر المنثور.(أخرج البزار، وابن مردويه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل: تنزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي، وأزيدك، فأنزل الله عز وجل:{ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن}، قال: فدخل عيينة بن حصن الفزاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة رضي الله عنها، فدخل بغير إذن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عيينة فأين الاستئذان؟ فقال: يا رسول الله، وما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت، قال: من هذه الحميراء إلى جنبك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه عائشة أم المؤمنين، قال: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ قال: يا عيينة، إن الله قد حرم ذلك، قال: فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله، من هذا؟ قال: أحمق مطاع، وإنه-على ما ترين-لسيد قومه).ا.هـ.فعيينة دخل بدون استئذان، وقد نبهه النبي صلى الله عليه وسلم، وعيينة لم يعرض بدلا، وإنما عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يناسب مقامه في نظره بعد أن استصغر عائشة رضي الله عنها، والنبي صلوات الله وسلامه عليه نبهه إلى أن ذلك حرام، ثم وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه أحمق، ومن سماحة النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعامل مع الأحمق بما يناسبه.
[9552]:أخرجه الترمذي في النكاح، وكذلك النسائي، وابن ماجه، والدارمي، وأخرجه أحمد في مسنده4-245،246، ولفظه كما في المسند، عن المغيرة بن شعبة، قال:(أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له امرأة أخطبها، فقال: اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما، قال: فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبويها، وأخبرتهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنهما كرها ذلك، قال: فسمعت ذلك المرأة وهي في خدرها، فقال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تنظر فانظر، وإلا فإني أنشدك، كأنها عظمت ذلك عليه، قال: فنظرت إليها فتزوجتها، فذكر عن موافقتها)
[9553]:قال عنه القرطبي:"أخرجه الصحيح"، ثم نقل أيضا عن الحميدي قوله بلفظ: يعني صفراء أو زرقاء، وقيل: رمصاء، والرمص: وسخ يتجمع في موق العين، ويسمى الغمص إن كان سائلا، والرمص إن جامدا.
[9554]:الإجار: السطخ بلغة الشام والحجاز، والجمع: أجاجير وأجاجرة،قال ابن سيدة: الإجار والإجارة: سطح ليس عليه سترة، وفي الحديث( من بات على إجار ليس حوله ما يرد قدميه فقد برئت منه الذمة)، قال ذلك في اللسان، ثم استشهد بحديث محمد بن مسلمة هذا.
[9555]:أخرجه ابن ماجه في النكاح.
[9556]:عقب أبو حيان الأندلسي في(البحر المحيط) على كلام ابن عطية في إعراب[ما] بعد أن نقله فقال:"وليس بجيد؛ لأنه قال:"والتقدير: إلا ملك اليمين، وملك بمعنى مملوك"، فإذا كان بمعنى مملوك صار من جملة النساء؛ لأنه لم يرد حقيقة المصدر، فيكون الرفع أرجح، ولأنه قال:"وهو في موضع نصب"، ولا يتحتم أن يكون في موضع نصب ولو فرضنا انه من غير الجنس حقيقة، بل الحجاز ينصب، وتميم تبدل؛ لأنه مستثنى توجه العامل عليه، وإنما يكون النصب محتما حيث كان المستثنى لا يمكن توجه العامل عليه، نحو: ما زاد المال إلا النقص، فلا يمكن توجه الزيادة على النقص. ولأنه قال:"استثناء من غير الجنس"، وقال: ملك بمعنى مملوك" فناقض.ا هـ.
[9557]:وفي ذلك تحذير من تجاوز حدوده وتخطي حلاله وحرامه.