اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ رَّقِيبٗا} (52)

قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكَ النساءُ } قرأ أبو عمرو «لا تَحِلُّ » بالتأنيث اعتباراً باللفظ والباقون بالياء لأنه جنس والمفصل أيضاً{[43799]} ، وقوله «مِنْ بَعْدُ » أي من ( بعد ){[43800]} اللائي نصصنا لك على إحْلاَلِهِنَّ كما تقدم{[43801]} ، وقيل : من بعد إباحة النساء المسلمات دون الكِتَابِيَّات{[43802]} .

فصل :

قال المفسرون : من بعد أي من بعدهن : قال ابن الخطيب : والأولى أن يقال لا تحل لك النساء من بعد اختيارهن الله ورسوله ورضاهن بما تؤتيهن من الوصل والهجران{[43803]} ، وقال ابن عباس وقتادة : من بعد هؤلاء التسعة{[43804]} خيرتهن فاخترنَك ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خيرهن فاخْترن الله ورسوله شكر الله لهن ، وحُرِّمَ عليه النساء سواهن ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن ، واختلفوا في أنه هل أبيح له النساء من بعد ، قالت عائشة : ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحل له النساء . وقال أنس : مات على التحريم ، وقال عكرمة : معنى الآية لا تحل لك النساء إلا اللاتي أحللنَا لك أزواجَك ، الآية ثم قال : لا تحل لك النساء من بعد اللاتي أحللنا لك بالصفة التي تقدم{[43805]} ذكرها .

وقيل لأبي بن كعب : لو مات نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحل له أن يتزوج ، قال : ( و ){[43806]} ما يمنعه من ذلك ؟ قيل : قوله عز وجل : { لاَ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ } قال : إنما أحَلَّ اللَّهُ ضَرْباً من النساء فقال : { يا أيها النبي إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } قال : { لاَ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ } ( و ){[43807]} قال أبو صالح : أمر أن لا يتزوج أعرابية ولا غريبة ويتزوج من نساء قومه من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء ثلاثمائة . وقال مجاهد : معناه لا تحل لك اليَهُودِيَّاتُ بعد المسلمات{[43808]} { وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ } بالمسلمات غيرهن من اليهود والنصارى يقول : لا تكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أحلَّ له ما ملكت يمينه من الكتابيات أن يَتَسرى بهنَّ ؛ وروي عن الضحاك معنى { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ } ولا أن تبدل بأزواجك اللاتي هن في حبالك أزواجاً غيرهن بأن تطلق فتنكح غيرهن فحرم عليه طلاق النساء اللواتي كن عنده وجعلهن أمهات المؤمنين وحرمهن على غيره حين{[43809]} اخترنه ، فأما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه{[43810]} .

وقال ابن زيد في قوله : { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } كانت العرب في الجاهلية يتبادلونَ بأزواجهم{[43811]} يقول الرجل : بادِلْنِي بامرأتك وأبادِلك بامْرأتي ، تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي{[43812]} ، فأنزل الله - عز وجل - { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } يعني تبادل بأزواجك غيرك بأن تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت ، فأما الحَرَائِرُ فلا ، روى عطاء بن{[43813]} يَسَارِ عن أبي هُرَيْرَةَ قال : «دخل عُيَيْنَةُ بن حصن على النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير إذن وعنده عائشة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يا عيينة أين الاستئذانُ ؟ قال يا رسول الله : ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت ، ثم قال : مَنْ هذه الحميراء التي{[43814]} جنبك ؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين فقال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق{[43815]} ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قد حرم ذلك فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله ؟ قال : هذا أحمق مُطَاع وإنه على ما تَرَيْن لسيدُ قومه » قوله : «وَلَوْ أَعْجَبَكَ » كقوله : «أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ على فَرَسٍ » أي في كل حال ولو على هذه الحال المنافية قال الزمخشري{[43816]} : قوله «حسنهن » في معنى الحال .

فصل :

معنى { ولو أعجبك حسنهن } أي ليس لك أن تطلق أحداً من نسائك وتنكح بدلها أخرى ولو أعجبك جمالها . قال ابن عباس{[43817]} يعني أسماء بنت عميْس الخَثْعَمِيَّة{[43818]} امرأة جعفر بن أبي طالب فلما استشهد جعفر أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَخْطِبَها فنهي عن ذلك . وقال بعض المفسرين{[43819]} ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه ( الصلاة{[43820]} و ) السلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه مَوْقِعاً كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها . وهذه مسألة حكمية وهي أن النبي عليه ( الصلاة{[43821]} و ) السلام وسائر الأنبياء{[43822]} في أول النبوة يشتد عليهم برحاء الوحي ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم متحدِّثون{[43823]} مع أصحابهم لا يمنعهم من ذلك مانع ، ففي أول الأمر أحل الله من وقع في قلبه تفريغاً لقلبه ، وتوسعاً لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله ، ثم لما استأنس بالوحي نسخ ذلك إما لقوله عليه ( الصلاة{[43824]} و ) السلام الجمع بين الأمرين ، وإما لأنه بدوام الإنزال لم يبق له مألوفٌ من أمور الدنيا فلم يبق له التفات إلى غير الله فلم يبق له حاجة إلى إخلاء{[43825]} المتزوّج بمن وقع بصره عليها .

قوله : { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ } فيه أوجه :

أحدها : أنه مستثنى من النساء فيجوز فيه وجهان : النصب على أصل الاستثناء والرفع على البدل وهو المختار{[43826]} ، والثالث : أنه مستثنى من «أزواج » قاله أبو البقاء{[43827]} ، فيجوز أن يكون في موضع نصب على أصل الاستثناء ، وأن يكون في موضع جر بدلاً مِن «هُنَّ » ( على{[43828]} ) اللفظ ، وأن يكون في موضع نصب بدلاً مِن «هُنَّ » على المحل{[43829]} ، وقال ابن عطية إن كانت ( ما{[43830]} ) مصدرية فهي في موضع نصب لأنه من غير الجنس{[43831]} وليس بجيد ؛ لأنه قال بعد ذلك{[43832]} والتقدير : إلا ملك اليمين ، و «ملك » بمعنى مملوك انتهى . وإذا كان بمعنى مملوك صار من الجنس وإذا صار من الجنس لم يكن منقطعاً على أنه على تقدير انقطاعه لا يتحتم نصبه ، بل يجوز عند تميم الرفْعُ بدلاً والنصب على الأصل كالمتصل بشرط صحة توجه العامل إليه{[43833]} كما تقدم تحقيقه{[43834]} ، وهذا يمكن توجه العامل إليه ، ولكن اللغة المشهورة لغةُ الحِجَاز وهو لزوم النصب في المنقطع مطلقاً ، كما ذكره أبو محمد آنفاً{[43835]} .

فصل :

قال ابن عباس ملك بعد هؤلاء مَارِيَة{[43836]} ، و { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً } حافظاً عالماً بكل شيء قادراً عليه ، وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء ، روي عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إِذَا خَطبَ أَحَدُكُمْ المَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِها فَلْيَفْعَلْ »{[43837]} .


[43799]:الإتحاف للبناء 356، والسبعة لابن مجاهد 523 وحجة ابن خالويه 291 والتيسير في القراءات 179 والنشر 2/349 وقد قال فيه: "فقرأ البصريان بالتاء على التأنيث" والدر المصون 4/399.
[43800]:ما بين القوسين ساقط من "أ" وزيادة من "ب".
[43801]:يشير إلى الآية 50 من نفس السورة.
[43802]:هذا قول مجاهد وغيره وانظر: بحر أبي حيان 7/243 و 244.
[43803]:انظر: تفسيره 25/222.
[43804]:في "ب" التسع وهو الصواب نحوياً وانظر: زاد المسير 6/409.
[43805]:انظر هذه الأقوال في تفسير البغوي 5/270.
[43806]:زيادتان عن "أ" و "ب".
[43807]:زيادتان عن "أ" و "ب".
[43808]:ذكره الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير 6/410.
[43809]:في "ب" إذ.
[43810]:المرجع السابق.
[43811]:في "ب" يقول الرجل للرجل.
[43812]:وهو نفس رأي أبي هريرة رضي الله عنه، انظر: المرجع السابق ومعالم التنزيل للبغوي 5/271 وتفسير الخازن 5/271.
[43813]:المرجعان السابقان الأخيران.
[43814]:في "ب" إلى جنبك وكذلك في المرجعين الأخيرين.
[43815]:وفيهما: وتنزل لي عن هذه.
[43816]:قال في الكشاف 3/271: ولو أعجبك في موضع الحال من الفاعل وهو الضمير في "تَبَدَّلَ" لا من المفعول الذي هو "من أزواج" لأنه موغِل في التنكير وتقديره: "مفروضاً إعجابك بهن".
[43817]:معالم التنزيل للبغوي 5/271.
[43818]:هي الخثعمية من المهاجرات الأول وأخت ميمونة لأمها لها ستون حديثاً، انظر: الخلاصة 488 وفي "ب" الحنفية وهو تحريف.
[43819]:وهو الفخر الرازي.
[43820]:زيادتان من "ب".
[43821]:زيادتان من "ب".
[43822]:انظر: التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي 25/222.
[43823]:في الفخر: "يتحدثون".
[43824]:زيادة من "ب" على "أ" و الفخر.
[43825]:في تفسير الفخر: "إحلال التزوج".
[43826]:ذكره ابن الأنباري في البيان 2/272 ومشكل الإعراب لمكي 2/200 وإعراب القرآن للنحاس 3/322 والتبيان 1059.
[43827]:التبيان المرجع السابق 1060.
[43828]:ما بين المعقوفين ساقط من "ب".
[43829]:هذا شرح لعبارة أبي البقاء قاله السمين في الدر المصون 4/399.
[43830]:سقطت من "ب".
[43831]:نقله عنه أبو حيان في بحره 7/245.
[43832]:هذا هو اعتراض أبي حيان عليه في البحر 7/245.
[43833]:بقية معنى كلام أبي حيان في البحر 7/245 على ابن عطية.
[43834]:لعله يقصد قول الله-عز وجل-: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس} وهي الآية "98" من نفس السورة "يونس".
[43835]:وأبو محمد هنا هو ابن عطية فتلك كنيته.
[43836]:زاد المسير 6/410.
[43837]:ذكره الخازن والبغوي في تفسيرهما 5/271.