الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ رَّقِيبٗا} (52)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{لا يحل لك النساء من بعد} أزواجك التسع اللاتي عندك لا يحل لك أن تزداد عليهن.

{ولا أن تبدل بهن} يعني نساءه التسع {من أزواج ولو أعجبك حسنهن}..

{إلا ما ملكت يمينك} الولاية...

{وكان الله على كل شيء} من العمل {رقيبا}: حفيظا...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى:"لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد نسائك اللاتي خيرتهنّ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة... عن ابن عباس، قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ "إلى "رَقيبا" قال: نُهيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج بعد نسائه الأُوَل شيئا...

وقال آخرون: إنما معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء بعد التي أحللنا لك بقولنا "يا أيهَا النبّيّ إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ" إلى قوله "اللاّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرأةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبِيّ". وكأنّ قائلي هذه المقالة وجهوا الكلام إلى أن معناه: لا يحلّ لك من النساء إلا التي أحللناها لك...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من غير المسلمات فأما اليهوديات والنصرانيات والمشركات فحرام عليك...

وأولى الأقوال عندي بالصحة قول من قال: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد بعد اللواتي أحللتهن لك بقولي: "إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ اللاّتي آتَيْتَ أُجُورَهُنّ" إلى قوله: "وَامْرأةً مُؤْمنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَها للنّبيّ".

وإنما قلت ذلك أولى بتأويل الآية، لأن قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ" عَقيب قوله: "إنّا أحْلَلْنا لَكَ أزْوَاجَكَ" وغير جائز أن يقول: قد أحللت لك هؤلاء، ولا يحللن لك إلا بنسخ أحدهما صاحبه، وعلى أن يكون وقت فرض إحدى الآيتين، فَعَلَ الأخرى منهما. فإذ كان ذلك كذلك ولا برهان ولا دلالة على نسخ حكم إحدى الآيتين حكم الأخرى، ولا تقدّم تنزيل إحداهما قبل صاحبتها، وكان غير مستحيل مخرجهما على الصحة، لم يجز أن يقال: إحداهما ناسخة الأخرى. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن لقول من قال: معنى ذلك: لا يحلّ من بعد المسلمات يهودية ولا نصرانية ولا كافرة، معنى مفهوم، إذ كان قوله "مِنْ بَعْدُ" إنما معناه: من بعد المسميات المتقدم ذكرهنّ في الآية قبل هذه الآية، ولم يكن في الآية المتقدم فيها ذكر المسميات بالتحليل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر إباحة المسلمات كلهنّ، بل كان فيها ذكر أزواجه وملك يمينه الذي يفيء الله عليه، وبنات عمه وبنات عماته، وبنات خاله وبنات خالاته، اللاتي هاجرن معه، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ، فتكون الكوافر مخصوصات بالتحريم، صحّ ما قلنا في ذلك، دون قول من خالف قولنا فيه...

وقوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ وَلَوْ أعْجَبَكَ حُسْنُهُنّ"، اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد المسلمات، لا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة، ولا أن تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من الكوافر... وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا أن تبدّل بأزواجك اللواتي هنّ في حبالك أزواجا غيرهنّ، بأن تطلقهنّ، وتنكح غيرهنّ...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ولا أن تطلق أزواجك فتستبدل بهنّ غيرهنّ أزواجا.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لما قد بيننا قبل من أن قول الذي قال معنى قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ" لا يحلّ لك اليهودية أو النصرانية والكافرة، قول لا وجه له.

فإذ كان ذلك كذلك فكذلك قوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ" كافرة لا معنى له، إذ كان من المسلمات من قد حرم عليه بقوله "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ" الذي دللنا عليه قبل...فإن قال قائل: أفلم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج امرأة على نسائه اللواتي كنّ عنده، فيكون موجها تأويل قوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ مِنْ أزْوَاجٍ" إلى ما تأوّلت، أو قال: وأين ذكر أزواجه اللواتي كنّ عنده في هذا الموضع، فتكون الهاء من قوله: "وَلا أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ" من ذكرهن وتوهم أن الهاء في ذلك عائدة على النساء، في قوله: "لا يَحِلّ لَكَ النّساءُ مِنْ بَعْدُ"؟ قيل: قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّج من شاء من النساء اللواتي كان الله أحلهنّ له على نسائه اللاتي كن عنده يوم نزلت هذه الآية، وإنما نُهي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية أن يفارق من كان عنده بطلاق أراد به استبدال غيرها بها، لإعجاب حسن المستبدلة له بها إياه إذ كان الله قد جعلهنّ أمّهات المؤمنين وخيرهن بين الحياة الدنيا والدار الآخرة، والرضا بالله ورسوله، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فحرمن على غيره بذلك، ومنع من فراقهنّ بطلاق، فأما نكاح غيرهنّ فلم يمنع منه، بل أحلّ الله له ذلك على ما بين في كتابه. وقد رُوي عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقبض حتى أحلّ الله له نساء أهل الأرض.

حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جُرَيج، عن عطاء، عن عائشة قالت: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء تعني أهل الأرض...

فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت من أن الله حرّم على نبيه بهذه الآية طلاق نسائه اللواتي خيرهنّ فاخترنه، فما وجه الخبر الذي رُوي عنه أنه طلق حفصة ثم راجعها، وأنه أراد طلاق سودة حتى صالحته على ترك طلاقه إياها، ووهبت يومها لعائشة؟ قيل: كان ذلك قبل نزول هذه الآية.

والدليل على صحة ما قلنا، من أن ذلك كان قبل تحريم الله على نبيه طلاقهن، الرواية الواردة أن عمر دخل على حفصة معاقبَها حين اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، كان من قيله لها: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك، فكلمته فراجعك، فوالله لئن طلّقك، أو لو كان طلّقك لا كلّمته فيك، وذلك لا شك قبل نزول آية التخيير، لأن آية التخيير إنما نزلت حين انقضى وقت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على اعتزالهنّ.

وأما أمر الدلالة على أن أمر سَوْدة كان قبل نزول هذه الآية، أن الله إنما أمر نبيه بتخيير نسائه بين فراقه والمُقام معه على الرضا بأن لا قَسْم لهن، وأنه يُرْجِي من يشاء منهنّ، ويُؤْوي منهنّ من يشاء، ويُؤْثر من شاء منهنّ على من شاء، ولذلك قال له تعالى ذكره: "وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلكَ أدْنَى أنْ تَقَرّ أعْيُنُهُنّ وَلا يَحْزَنّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنّ كُلّهُنّ"، ومن المحال أن يكون الصلح بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم جرى على تركها يومها لعائشة في حالِ لا يومَ لها منه.

وغير جائز أن يكون كان ذلك منها إلا في حالِ كان لها منه يومٌ هوَ لها حقّ كان واجبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أداؤه إليها، ولم يكن ذلك لهنّ بعد التخيير لما قد وصفت قبل فيما مضى من كتابنا هذا.

فتأويل الكلام: لا يحلّ لك يا محمد النساء من بعد اللواتي أحللتهنّ لك في الآية قبلُ، ولا أن تُطَلق نساءك اللواتي اخترن الله ورسوله والدار الاَخرة، فتبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسن من أردت أن تبدّل به منهنّ، إلا ما ملكت يمينك. و"أن" في قوله "أنْ تَبَدّلَ بِهِنّ" رفع، لأن معناها: لا يحلّ لك النساء من بعد، ولا الاستبدال بأزواجك، و"إلا" في قوله: "إلاّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ" استثناء من النساء. ومعنى ذلك: لا يحلّ لك النساء من بعد اللواتي أحللتهنّ لك، إلا ما ملكت يمينك من الإماء، فإن لك أن تَمْلك من أيّ أجناس الناس شئت من الإماء.

وقوله: "وكان اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ رَقِيبا" يقول: وكان الله على كل شيء ما أحلّ لك، وحرّم عليك، وغير ذلك من الأشياء كلها، حفيظا لا يعزُب عنه علم شيء من ذلك، ولا يؤوده حفظ ذلك كله.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

لمَّا اخْتَرْتَهُنَّ أثبت اللَّهُ لهن حُرْمة، فقال: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْدُ} فكما اخترْنَكَ فلا تَخْتَرْ عليهن امرأةً أخرى تطييباً لقلوبهن، ونوعاً للمعادلة بينه وبينهن، وهذا يدل على كَرَمِه -والحِفَاظ كَرَمٌ ودَيْن.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{وكان الله على كل شيء رقيبا} أي حافظا عالما بكل شيء قادرا عليه، لأن الحفظ لا يحصل إلا بهما.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أمره بما يشق من تغير العوائد في أمر العدة، ثم بما قد يشق عليه صلى الله عليه وسلم من تخصيصه بما ذكر خشية من طعن بعض من لم يرسخ إيمانه، وختم ذلك بما يسر أزواجه، وصل به ما يزيد سرورهن من تحريم غيرهن عليه شكراً لهن على إعراضهن عن الدنيا واختيارهن الله ورسوله فقال: {لا يحل لك النساء} ولما كان تعالى شديد العناية به صلى الله عليه وسلم لوّح له في آية التحريم إلى أنه ينسخه عنه، فأثبت الجار فقال: {من بعد} أي من بعد من معك من هؤلاء التسع -كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه، شكراً من الله لهن لكونهن لما نزلت آية التخيير اخترن الله ورسوله، فتكون الآية منسوخة بما تقدم عليها في النظم وتأخر عنها في الإنزال من آية {إنا أحللنا لك أزواجك} وفي رواية أخرى عنه من بعد {اللاتي أحللنا لك} بالصفة المتقدمة من بنات العم وما معهن، ويؤيدها ما تقدمت روايته عن أم هانئ رضي الله عنها.

ولما كان ربما فهم أن المراد الحصر في عدد التسع، لا بقيد المعينات، قال: {ولا أن تبدل بهن} أي هؤلاء التسع، وأعرق في النفي بقوله: {من} أي شيئاً من {أزواج} أي بأن تطلق بعض هؤلاء المعينات وتأخذ بدلها من غيرهن بعقد النكاح بحيث لا يزيد العدد على تسع، فعلم بهذا أن الممنوع منه نكاح غيرهن مع طلاق واحدة منهن أولاً، وهو يؤيد الرواية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن المتبدل بها لا تكون إلا معلومة العين، والجواب عن قول أم هانئ رضي الله عنها أنه فهم منها، لا رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عند موت واحدة منهن فلا حرج في نكاح واحدة بدلها.

ولما علم من هذا المنع من كل زوجة بأيّ صفة كانت، أكد المعنى وحققه، وصرح به في قوله حالاً من فاعل "تبدل ": {ولو أعجبك حسنهن} أي النساء المغايرات لمن معك، وفي هذا إباحة النظر إلى من يراد نكاحها لأن النظرة الأولى لا تكاد تثبت ما عليه المرئي من حاق الوصف؛ ولما كان لفظ النساء شاملاً للأزواج والإماء، بين أن المراد الأزواج فقط بقوله: {إلا ما ملكت يمينك} أي فيحل لك منهن ما شئت، وقد ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة رضي الله عنها من سبي بني قريظة، واستمرت في ملكه مدة لا يقربها حتى أسلمت، ثم ملك بعد عام الحديبية مارية رضي الله عنها أم ولده إبراهيم عليه السلام.

ولما تقدم سبحانه في هذه الآيات فأمر ونهى وحد حدوداً، حذر من التهاون بشيء منها ولو بنوع تأويل فقال: {وكان الله} أي الذي لا شيء أعظم منه، وهو المحيط بجميع صفات الكمال {على كل شيء رقيباً} أي يفعل فعل المراعي لما يتوقع منه من خلل على أقرب قرب منه بحيث لا يفوت مع رعايته فائت من أمر المرعى، ولا يكون الرقيب إلا قريباً، ولا أقرب من قرب الحق سبحانه، فلا أرعى من رقبته، وهو من أشد الأسماء وعيداً.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وهذا شكر من اللّه الذي لم يزل شكورًا لزوجات رسوله رضي اللّه عنهن، حيث اخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، أن رحمهن وقصر رسوله عليهن فقال: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} زوجاتك الموجودات.

{وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي: ولا تطلق بعضهن فتأخذ بدلها؛ فحصل بهذا، أمنهن من الضرائر، ومن الطلاق، لأن اللّه قضى أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، لا يكون بينه وبينهن فرقة.

{إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي: السراري فذلك جائز لك؛ لأن المملوكات في كراهة الزوجات، لسن بمنزلة الزوجات، في الإضرار للزوجات.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع، على أن حذف ما أضيفت إليه {بعدُ} ينادي على أنه حذْفُ معلوم دل عليه الكلام السابق فتأخّرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يُتردد فيه، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو: إمّا أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبله، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله: {إنا أحللنا لك أزواجك} [الأحزاب: 50] الخ. وإمّا أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان، أي من بعد هذا الوقت، والأول الراجح.

و {بعد} يجوز أن يكون بمعنى (غير) كقوله تعالى: {فمن يهديه من بعد الله} [الجاثية: 23] وهو استعمال كثير في اللغة، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله: {ولا أن تبدل بهن من أزواج} أي غيرهن، وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال: « نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات» فقال: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك} فأحل الله المملوكات المؤمنات {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي} [الأحزاب: 50]. ومثل هذا مروي عن أُبَيّ بن كعب وعكرمة والضحاك. ويجوز أن يكون {بعدُ} مراداً به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيَتعينُ تقدير لفظ يدل على شيء سابق.

وبناء {بعدُ} على الضم يقتضي تقدير مضاف إليه محذوفٍ يدل عليه الكلام السابق على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في « شرحه على قطر الندى»، فيجوز أن يكون التقدير: من بعدِ مَن ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر: من غير مَن ذكرن، أو يقدر من بعدِ من ذُكرن، فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذُكرن (وكن تسعاً)، أو مَن اخترتهن.

ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتاً، أي بعد اليوم أو الساعة، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخاً لقوله: {إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله: خالصة لك} [الأحزاب: 50].

وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت: « ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء». وقال حديث حسن. (وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة) فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها: ما مات، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين ناسخة للإِباحة التي عنتها عائشة ولذلك فالإِباحة إباحة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أمّ سلمة.

و {النساء} إذا أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج، أي الحرائر دون الإماء...

أي لا تحل لك الأزواج من بعد مَنْ ذُكِرْن.

وقوله: {ولا أن تبدل بهن} أصله: تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً، يقال: بَدَّل وتبدَّل بمعنى واحد، ومادة البدل تقتضي شيئين: يعطي أحدهما عوضاً عن أخذ الآخر، فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطَى بالباء أو بحرف {مِن}، وتقدم عند قوله تعالى: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} في سورة البقرة (108).

والمعنى: أن من حصلتْ في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحلّ لك أن تطلقها، فكنى بالتبدل عن الطلاق لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرءَ لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى، وهذه الكناية متعينة هنا لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخرُ الآية أولَها وسابقتها، فإن الرسول أحلت له الزيادة على النساء اللاتي عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن، فإذا كانت المستبدَلَة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرَّم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاماً في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها بغيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنّى به عن الطلاق وملاحظاً فيه نية الاستبدال. فالمعنى: أن الرسول أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلْن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة.

والمعنى: ولا أن تطلق امرأة منهن تريد بطلاقها أن تتبدل بها زوجاً أخرى.

وضمير {بهن} عائد إلى ما أضيف إليه {بعد} المقدَّر وهن الأصناف الثلاثة.

والمعنى: ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها.

فالباء داخلة على المفارقة.

و {مِن} مزيدة على المفعول الثاني ل {تبدل} لقصد إفادة العموم. والتقدير: ولا أن تبَدَّل بهن أزواجاً أُخرَ، فاختص هذا الحكم بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله: {إلا ما ملكت يمينك}. وأما التي تهَب نفسَها فهي إن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الأزواج، فشملها حكمهن، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف.

وقرأ الجمهور {لا يحل} بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غيرُ صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم.

وجملة {ولو أعجبك حسنهن} في موضع الحال والواو واوه، وهي حال من ضمير {تبدل}. و {لو} للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير وتسمى وصلية، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأوْلى، وقد تقدم في قوله تعالى: {ولو افتدى به} في آل عمران (91).

والمعنى: لا يحلّ لك النساء من بعدُ بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حالة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك.

وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدّد له أصنافاً معينة وفيهن غناء.

وقد عبرت عن هذا المعنى عائشة رضي الله عنها بعبارة شيقة، إذ قالت للنبيء: ما أرى ربَّك إلا يُسارِع في هواك. وأُكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله: {وكان الله على كل شيء رقيباً} أي عالماً بِجَرْي كللِ شيء على نحو ما حدّده أو على خلافه، فهو يجازي على حسب ذلك. وهذا وعد للنبيء صلى الله عليه وسلم بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم.

والاستثناء في قوله: {إلا ما ملكت يمينك} منقطع. والمعنى: لكن ما ملكت يمينك حلالٌ في كل حال. والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ {النساء} في قوله: {لا يحل لك النساء} ما يرادف لفظ الإِناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

{وكان الله على كل شيء رقيبا... شعور أزواج الرسول عليه السلام برقابة الله عليه وعليهن ضمانة إضافية لهناء عيشهن، وإحسان بالغ من الله إليهن.

وقوله تعالى في نفس السياق: {ولو أعجبك حسنهن}، توكيد لوصف (البشرية) الذي لا يعد وصمة وإنما يعد كمالا، في حق (الإنسان الكامل) الذي هو الرسول الأعظم، فقد اصطفاه الله لرسالته واختار أن يكون (بشرا رسولا)، وفيه إشارة إلى أن النظر إلى المخطوبة عند خطبتها جائز، وإلى أن حسن المرأة من جملة الدوافع الطبيعية للزواج بها، وإن اعتبار هذا العنصر لا حرج فيه في نظر الإسلام، لكن يجب أن يكون مدعما بعنصر (التدين) الذي هو صمام الأمان، من تقلبات القلوب وطوارئ الزمان.