البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ رَّقِيبٗا} (52)

{ لا يحل لك النساء من بعد } : الظاهر أنها محكمة ، وهو قول أبيّ بن كعب وجماعة ، منهم الحسن وابن سيرين ، واختاره الطبري .

ومن بعد المحذوف منه مختلف فيه ، فقال أبيّ ، وعكرمة ، والضحاك : ومن بعد اللواتي أحللنا لك في قوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } .

فعلى هذا المعنى ، لا تحل لك النساء من بعد النساء اللاتي نص عليهن أنهن يحللن لك من الأصناف الأربعة : لا أعرابية ، ولا عربية ، ولا كتابية ، ولا أمة بنكاح .

وقال ابن عباس ، وقتادة : من بعد ، لأن التسع نصاب رسول الله من الأزواج ، كما أن الأربع نصاب أمته منهن .

قال : لما خيرن فاخترن الله ورسوله ، جازاهن الله أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن ، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء .

وقال مجاهد ، وابن جبير : وروي عن عكرمة : من بعد ، أي من بعد إباحة النساء على العموم ، ولا تحل لك النساء غير المسلمات من يهودية ولا نصرانية .

وكذلك : { ولا أن تبدل بهن من أزواج } : أي بالمسلمات من أزواج يهوديات ونصرانيات .

وقيل : في قوله { ولا أن تبدل } ، هو من البدل الذي كان في الجاهلية .

كان يقول الرجل : بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي ، فينزل كل واحد منهما عن امرأته للآخر .

قال معناه ابن زيد ، وأنه كان في الجاهلية ، وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية ، وما فعلت العرب قط هذا .

" وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين دخل عليه بغير استئذان ، وعنده عائشة .

من هذه الحميراء ؟ فقال : «عائشة » ، فقال عيينة : يا رسول الله ، إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالاً : ونسباً ، فليس بتبديل ، ولا أراد ذلك ، وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية "

ومن في { من أزواج } زائدة لتأكيد النفي ، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم .

وقيل : الآية منسوخة ، واختلف في الناسخ فقيل : بالسنة .

قال عائشة : ما مات حتى حل له النساء .

وروي ذلك عن أم سلمة ، وهو قول علي وابن عباس والضحاك ، وقيل بالقرآن ، وهو قوله : { ترجي من تشاء منهن } الآية .

قال هبة الله الضرير : في الناسخ والمنسوخ له ، وقال : ليس في كتاب الله ناسخ تقدم المنسوخ سوى هذا .

قال ابن عطية : وكلامه يضعف من جهات . انتهى .

وقيل : قوله { إنا أحللنا لك أزواجك } الآية ، فترتيب النزول ليس على ترتيب كتابة المصحف .

وقد روي عن ابن عباس القولان : إنها محكمة ، وإنها منسوخة .

{ ولو أعجبك حسنهن } ، قيل : منهن أسماء بنت عميس الخثعمية ، امرأة جعفر بن أبي طالب .

والجملة ، قال الزمخشري ، في موضع الحال من الفاعل ، وهو الضمير في { تبدل } ، لا من المفعول الذي هو { من أزواج } ، لأنه موغل في التنكير ، وتقديره : مفروضاً إعجابك لهن ؛ وتقدم لنا في مثل هذا التركيب أنه معطوف على حال محذوفة ، أي { ولا أن تبدل بهن من أزواج } على كل حال ، ولو في هذه الحال التي تقتضي التبدل ، وهي حالة الإعجاب بالحسن .

قال ابن عطية : وفي هذا اللفظ { أعجبك حسنهن } ، دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها . انتهى .

وقد جاء ذلك في السنة من حديث المغيرة بن شعبة ، وحديث محمد بن مسلمة .

{ إلا ما ملكت يمينك } : أي فإنه يحل لك .

وأما إن كانت موصولة واقعة على الجنس ، فهو استثناء من الجنس ، يختار فيه الرفع على البدل من النساء .

ويجوز النصب على الاستثناء ، وإن كانت مصدرية ، ففي موضع نصب ، لأنه استثناء من غير جنس الأول ، قاله ابن عطية ، وليس بجيد ، لأنه قال : والتقدير : إلا ملك اليمين ، وملك بمعنى : مملوك ، فإذا كان بمعنى مملوك صار من حملة النساء لأنه لم يرد حقيقة المصدر ، فيكون الرفع هو أرجح ، ولأنه قال : وهو في موضع نصب ، ولا يتحتم أن يكون في موضع نصب .

ولو فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة ، بل الحجاز تنصب وتميم تبدل ، لأنه مستثنى ، يمكن توجه العامل عليه ، وإنما يكون النصب متحتماً حيث كان المستثنى لا يمكن توجه العامل عليه نحو : ما زاد المال إلا النقص ، فلا يمكن توجه الزيادة على النقص ، ولأنه قال : استثناء من غير الجنس .

وقال مالك : بمعنى مملوك فناقض .

{ وكان الله على كل شيء رقيباً } : أي راقباً ، أو مراقباً ، ومعناه : حافظ وشاهد ومطلع ، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطي حلاله وحرامه .