التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ رَّقِيبٗا} (52)

( 1 ) آتيت أجورهن : دفعت مهورهن . وقد سمي المهر أجرا في آية سورة النساء [ 23 ] . مع كلمة فريضة كما جاء في الآية : { فآتوهن أجورهن فريضة } .

( 2 ) وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك : وما أصبح ملك يمينك من السبي الذي يسره الله لك .

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ( 1 ) وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ( 2 ) مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( 50 ) تُرْجِي( 3 ) مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ( 4 ) مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ( 5 ) فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ( 51 ) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا ( 52 ) } .

في الآيات :

خطاب للنبي بشأن أنكحته على سبيل التشريع يؤذن فيه :

1 أن الله قد أحل له زوجاته اللائي تزوج بهن سواء أكن اللائي أدى مهورهن من بنات أعمامه وعماته وأخواله وخالاته المهاجرات معه أم اللائي وهبن أنفسهن له ، أم اللائي هن ملك يمينه مما أفاءه الله عليه من سبي الأعداء .

2 وأن هذا مباح له على وجه التخصيص دون سائر المؤمنين الذين شرع لهم ما شرع في آيات أنزلها قبل هذه الآيات حتى لا يكون في حرج وإشكال من أمر زوجاته وحياته الزوجية والله غفور رحيم .

3 أن الله قد أحل له كذلك أن يتصرف بما يتراءى له معهن في المعاشرة الجنسية فيترك أو يهمل أو يؤجل من يشاء منهن ويؤوي إليه للنكاح من يشاء منهن ويعود إلى من ترك وأجل منهن .

4 وأن هذا أدعى إلى إدخال السرور على أنفسهن وعدم حزنهن ورضائهن بما يفعله معهن جميعهن . والله يعلم ما في قلوب الناس وميولهن ويأمر بما فيه المصلحة ويوسع لهم من حمله .

5 وأنه ليس له بعد الآن أن يتزوج بامرأة زواجا بعقد ولا يترك إحدى زوجاته ليأخذ مكانها غيرها ، ولو أعجبه حسنها باستثناء ملك اليمين الذي يظل مباحا له ، والله رقيب على كل شيء .

تعليق على الآية

{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } الخ

والآيتين التاليتين لها

والذي يتبادر لنا استلهاما من فقرة { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أن هذه الآيات نزلت بعد آيات سورة النساء [ 3 و18 28 ] التي احتوت تشريعات في صدد الأنكحة وعدد الزوجات التي يستطيع الرجل جمعهن في عصمته وما يحلّ له وما لا يحل الخ وبمناسبتها . فقد كان تعدد الزوجات جاريا من دون تحديد فتعددت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كما تعددت زوجات غيره . فلما نزلت آيات النساء المذكورة وبخاصة الآية الثالثة التي اعتبر نصها تحديدا شرعيا للتعدد { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ( 3 ) } . بحيث لا يزيد عدد الزوجات التي يستطيع المسلم أن يجمعهن في عصمته معا عن أربع باستثناء ملك اليمين احتفظ الذين كان عندهم أكثر من أربع زوجات بأربع منهن وسرّحوا العدد الزائد . وبرزت مشكلة زوجات النبي اللائي كن أكثر من العدد المحدد محرجة له ولهن ، ونعتقد أن هذا مفتاح القضية في هذا المقام . فقد كان في إمكان زوجات المسلمين الزائدات عن العدد اللائي سرحهن أزواجهن بعد نزول الآية أن يتزوجن فلم يكن هناك ضرر عظيم من تسريحهن ، فاقتضت حكمة التنزيل أن لا يكون هذا سائغا لنساء النبي بسبب ما صار لهن من شرف وكرامة ، فأوحى الله بهذه الآيات لحلّ المشكلة على النحو الذي شرحناه . ولعل النبي أراد أن يطلق الزائدات منهن تقيدا بالتحديد القرآني كما فعل المسلمون ، فكان هذا مما أزعج أمهات المؤمنين وأحزنهن لما سوف يكون من أمر المطلقات منهن ، وقد حرموا من استمرار شرف النسبة إلى النبي وانسد عليهم باب الحياة الزوجية وفقدوا السند والكفيل ، فاحتوت الآية الأولى ما احتوته من إباحة احتفاظ النبي صلى الله عليه وسلم بهن جميعا .

كذلك يتبادر لنا من روح الآية الثانية وصلتها بالأولى حتى كأنما هي استمرار لها أنها في صدد التحديد بأسلوب خاص ، وأنها احتوت شبه إيعاز للنبي بالاكتفاء بمعاشرة أربع من نسائه معاشرة جنسية في وقت واحد وإرجاء الأخريات بدون تعيين مع إعطائه حق معاشرة إحدى المرجآت تطييبا لنفسها وإزالة لحزنها من الهجر على أن يرجئ واحدة من اللائي كان يعاشرهن وهكذا دواليك . والفقرة الأخيرة من هذه الآية مما يصح أن يكون قرينة على ذلك . ولقد روى الزمخشري في كشافه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاشر بعد هذه الآيات أربعا فقط من نسائه وهن : عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة رضي الله عنهن .

وروى الطبري أن النبي آوى أربعا وأرجأ خمسا بدون أسماء . والروايات لم ترد في الصحاح . ونص الآية يجعل النبي في الخيار في الإرجاء والإيواء ومعاودة الإيواء بمن أرجأ . بحيث يسوغ التوقف في هذه الروايات ، والقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد من أنه طبق الآية نصا وروحا والله أعلم .

ولقد روى الطبري والبغوي عن ابن رزين أنه لما نزلت آية التخيير أشفقت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلقهن فقلن : يا نبي الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا . والذي نرجحه أن هذا كان منهن كما خمّنا حين نزلت آية تحديد العدد وفكر النبي في تطليق الزائد عن العدد ، وأن في الرواية لبسا ؛ لأن ظرف التخيير انقضى في موقف آخر باختيار نساء النبي البقاء في عصمته كما شرحناه في سياق آية التخيير ، ولم يكن هناك محل خوف من طلاق بعد نزول التخيير إذا ما اختار نساء النبي الله ورسوله والبقاء عنده وهو ما وقع . ولقد روى المفسران أن إحداهن سودة أعلنت تنازلها عن يومها لعائشة ليبقيها في عصمته . والراجح أن ذلك كان بعد نزول التحديد وقبل نزول آية الإذن للنبي باستبقاء جميع نسائه ؛ حيث نزلت لتهدئة اضطرابهن وتسكين حزنهن وتطمين قلوبهن .

ولقد رأينا المفسرين يديرون الكلام في سياق الآية [ 50 ] على مفهوم كونها مطلقة ، وبسبيل إعلان كون الله تعالى قد أحلّ له فيها نوع النساء الموصوفات فيها دون غيرهن اللائي لا يتصفن بهذه الصفات{[1694]} . وقد أوردوا حديثا عن بنت عمّه أبي طالب جاء فيه : " خطبني رسول الله فاعتذرت له فعذرني . ثم أنزل الله الآية ، فلم أعد أحلّ له لأني لم أهاجر معه وكنت من الطلقاء " . وقد روى هذا الحديث الترمذي أيضا عن أم هانئ بنت أبي طالب{[1695]} ونحن نتوقف في هذا ونرجح استئناسا بفحوى الآية وروحها أنها بسبيل إقرار ما كان قد تم من زيجات النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية استدراك أمر التحديد بالنسبة إليه . ولعلّ في نص الآية إما قرينة بل دليلا على ما نقول . ولقد روى الطبري مع اشتراكه في القول المذكور آنفا عن أبيّ بن كعب كلاما قد يكون فيه تأييد حيث قال ما مفاده : إن الله قد أحل في الآية للنبي النساء اللاتي كان تزوجهن مما ذكرت الآية أوصافهن ، في حين أحلّ للمؤمنين مثنى وثلاث ورباع بدون تحديد أوصاف والله تعالى أعلم .

ولقد كان في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم على ما تكاد تتفق عليه الروايات حين نزول الآيات عشر زوجات هنّ عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وأم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث وزينب بنت خزيمة وزينب بنت جحش وسنية النضيرية وميمونة بنت الحارث رضي الله عنهن . وماتت زينب بنت خزيمة في حياته وبقيت التسع الأخرى إلى أن توفاه الله تعالى . ولم يتزوج أحدا بعد هذه الآيات{[1696]} . وقد يكون في هذا دليلا آخر مؤيدا .

ولقد احتوت الآية [ 52 ] تشريعا استثنائيا سلبيا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم مقابل التشريع الاستثنائي الإيجابي الذي احتوته الآية [ 51 ] على ما يتبادر لنا . فبعد أن أبيح له في الآية [ 51 ] الاحتفاظ بزوجاته جميعهن حرّم عليه في الآية [ 52 ] التزوج بالمرة باستثناء ملك اليمين . ونصّ الآية صريح بأن الحظر مؤبد أي أنه يظل قائما لو ماتت بعض نسائه أو جميعهن أو طلقهن . هذا في حين أن المسلمين يستطيعون أن يغيروا مع الاحتفاظ بالعدد المحدد ويتزوجوا تمام العدد المحدد .

ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير بعض أحاديث في صدد هذه الآية . منها حديث عن عائشة وآخر عن أم سلمة قالتا فيهما : " ما مات النبي حتى أحل الله النساء " . ومنها حديث عن أبي بن كعب يفيد أن الآية لم تحرم الزواج على النبي بالمرة ، وإنما حرمت عليه ضربا من النساء من غير النوع الذي أحله الله له في الآية [ 50 ] والأحاديث ليست من الصحاح .

ونص الآية فيما نرى ، وبخاصة جملة { من بعد } صريح بالنهي إطلاقا ؛ ولذلك فنحن نتوقف فيها . ولقد قال ابن كثير فيما قال أيضا : عن غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم قالوا : إن هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول الله حينما نزلت آية التخيير [ 28 ] فقصره عليهن وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن مما فيه توثيق لما قلناه . هذا مع التنبيه على أن هذه الأقوال إنما يحتمل صدورها من هؤلاء العلماء تعليقا على مدى الآية دون كونها سببا لنزولها . فإننا ما نزال نرى أن هذه الآية والآيتين السابقتين لها قد نزلت بعد آيات سورة النساء وبخاصة التي يحدد فيها عدد الزوجات اللائي يجوز جمعهن في عصمة الرجل وبمناسبتها ؛ لأن هذا هو المتسق مع نصوصها وبخاصة مع جملة { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } .

ولقد قال بعض المفسرين{[1697]} في مدى تعبير { وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } : إن فيه إشارة إلى عادة عربية قبل الإسلام ؛ حيث كان العرب يتبادلون الزوجات فيتنازل واحد عن زوجته لآخر مقابل تنازل هذا عن زوجته له . والذي يتبادر لنا أن القصد منه هو نهي النبي عن تطليق إحدى نسائه لأجل أخذ غيرها مكانها تقيدا بالعدد الذي أباحه الله له . أو بعبارة ثانية عدم التزوج بعد الآية باستثناء ملك اليمين كما قلنا قبل قليل .

وصيغة الجملة { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } صيغة أسلوبية ولا تعني في مقامها على ما يتبادر لنا أن ذلك بالنسبة للمستقبل . ونص الآية [ 50 ] التي وردت فيها هذه الجملة يفيد بقوة أن المرأة التي وهبت نفسها هي من جملة ما شملته جملة { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } إلخ .

ولقد تعددت الروايات في شخصية هذه المرأة منها أنها ميمونة بنت الحارث التي تزوجها النبي في ظرف زيارته الكعبة في السنة السابعة من الهجرة بناء على الاتفاق الذي تمّ بينه وبين قريش في الحديبية ، ومنها أنها زينب بنت خزيمة المعروفة بأم المساكين ، ومنها أنها خولة بنت حكيم أو أم شريك بن جابر . والاثنتان الأوليان هما من زوجات النبي فعلا دون الأخريين على ما يستفاد من الأسماء المروية التي أوردناها آنفا . ويبدو أن رواية كونها ميمونة هي الأقدم والأوثق . وقد نبّه المفسرون على أن هبة التي وهبت نفسها للنبي ليست بمعنى التملك أو الزواج بدون عقد ومهر ، وهو في محله . وقد روى ابن هشام أن العباس عمّ النبي هو الذي زوجها للنبي وأصدقها عنه أربعمائة درهم{[1698]} .

ولقد كان استثناء القرآن النبي صلى الله عليه وسلم من تحديد الزوجات الوارد في حق سائر المؤمنين موضع انتقاد وغمز من قبل الأغيار بزعم أنه يضع لنفسه قوانين خاصة كما كانت كثرة زوجاته موضع غمز ونقد أيضا بزعم أن ذلك يدل على شدة شهوانيته .

ولقد رد كتاب المسلمين على هذا وذاك ردودا متنوعة وجيهة . منها أن النبي صلى الله عليه وسلم في تعدد زوجاته لم يكن شاذا عن بيئته وعن الطبيعة البشرية . ومنها أن لأكثر زوجاته ظروفا غير دواعي الرغبة الجنسية ؛ إذ توخى في بعضها تكريم صاحبيه أبي بكر وعمر وفي بعضها توثيق الرابطة بين الإسلام وبعض القبائل كزيجته بجويرية المصطلقية التي كان من نتائجها إسلام جميع قبيلتها وفي بعضها تكريم الزوجات التي مات أزواجهن في الحبشة أو استشهدوا في الجهاد مثل أم حبيبة وأم سلمة{[1699]} وسودة . ومنها أن نصف زوجاته كنّ من المتقدمات في السنّ وأمهات أولاد كبار ممن تقل الرغبة الجنسية فيهن عادة . وجوهر ومدى الردود صحيحان كل الصحة{[1700]} .

ومما يصح أن يضاف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما تزوج لأول مرة في شبابه تزوج بمن تزيد عنه في السن سنين كثيرة . وظلّ مقتصرا عليها طيلة حياتها التي بلغت فيها سن الشيخوخة أو كادت . وكان من أسرة رفيعة ويستطيع أن يخطب ويتزوج بالأجمل والأفتى قبل زوجته وبعدها لو كان دافعه شهوانيا وحسب ، رغم أن هذا ما تبرره البيئة والتقاليد والطبيعة كما قلنا . وكان ينبغي على الغامزين لو يشعرون بشيء من الإنصاف والحياء أن يتبينوا كل ذلك في ظرف التخيير الذي شرحناه في سياق الآية [ 28 ] والذي بدا فيه رسول الله في أروع صورة من التسامي ونبذ لذائد الحياة ، وأن يتذكروا أنه كان في قدرته بعد نبوته ثم بعد هجرته بخاصة أن يتزوج بالأفتى والأجمل والأغنى وليس بالمطلقات والأرامل وأمهات الأولاد والمتقدمات في السن .

ونقول على سبيل المساجلة : إن النبي لم يكن في حاجة إلى تشريع خاصّ لو لم يكن هناك ظروف قاهرة . وكان بإمكانه أن يستغني عن المتقدمات في السن وذوات الأولاد وغير الجميلات لو كانت دواعيه هي الرغبة الجنسية وحسب . وقد شرحنا هذه الظروف في سياق تفسير الآية [ 51 ] التي تضمنت إشارة إليها . وهي ظاهرة الصواب والحكمة والسمو لا يكابر فيها منصف . ولقد تضمنت هذه الآية بالإضافة إلى ذلك إيعازا بعدم مباشرة أكثر من العدد المحدد على ما شرحناه كذلك فكان فيه توفيق بين هذه الظروف والتحديد القرآني . يضاف إلى هذا أن الآية [ 52 ] قد حرمت التزوج على النبي بالمرة بعدها ، حتى ولو لم يبق في عصمته زوجة من زوجاته بالطلاق أو الموت على ما رجحنا أنه المتبادر منها . وفي هذا ردّ مفحم آخر على الغامزين .

هذا ، والآيات كما رجحنا قد تضمنت استدراكا لآية سورة النساء [ 3 ] التي اعتبرت تشريعية في تحديد عدد الزوجات الذي يصح للمسلم جمعه في عصمته في وقت واحد . فمما يرد بالبال أنها نزلت بعد أن تمّ ترتيب آيات سورة النساء وعقب الآية السابقة لها فرأى النبي أن توضع في سياقها الذي وردت فيه في هذه السورة بإلهام من الله . وفي هذا صورة من صور تأليف آيات وسور القرآن . والله تعالى أعلم .


[1694]:انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.
[1695]:أنظر التاج، ج 4 ص 186 و 187 وكلمة الطلقاء أطلقها النبي على أهل مكة الذين استسلموا يوم الفتح وأسلموا ومن عليهم. ولم يعد من هاجر منهم إلى المدينة يعد هاجرا لأن النبي قال: (لا هجرة بعد فتح). على ما أوردناه في سياق الآية [77] من سورة الأنفال.
[1696]:كان تحته بالإضافة إلى زوجاته المذكورة أمتان ملك يمينه هما ريحانة القرظية ومارية القبطية. وقد تسرى بالثانية بعد نزول الآيات. أنظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن وانظر ابن هشام ج 4 ص 321 ـ 326.
[1697]:انظر الخازن والبغوي.
[1698]:أنظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير والطبري والطبرسي ثم ابن هشام ج 4 ص 324 وابن سعد ج 3 ص 169.
[1699]:أورد ابن كثير في سياق الآية [155] من سورة البقرة حديثا رواه الإمام أحمد عن أم سلمة جاء فيه "إن النبي صلى اله عليه وسلم خطبها بعد انتهاء عدة حدادها على زوجها أبي سلمة الذي مات شهيدا في الحرب، فقالت له: أنا امرأة قد دخلت السن وأنا ذات عيال وأنا امرأة شديدة الغيرة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عنك، وأما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي".
[1700]:أنظر كتاب حياة محمد لهيكل طبعة ثانية ص 303 و 317 وتاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم ج 1 ص 130 ـ 136، وحقائق الإسلام وأباطيل خصومه لعباس محمود العقاد ص 196 ـ 199.