التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{لَّا يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِنۢ بَعۡدُ وَلَآ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكَ حُسۡنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ يَمِينُكَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ رَّقِيبٗا} (52)

ثم كرم - سبحانه - أمهات المؤمنين بعد تكريمه لنبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ . . . } .

أى : لا يحل لك ، - أيها الرسول الكريم - أن تتزوج بنساء أخريات من بعد التسع اللائى فى عصمتك اليوم ، لأنهم قد اخترنك وآثرنك على زينة الحياة الدنيا ، ورضين عن طيب نفس أن يعشن معك وتحت رعايتك ، مهما كان فى حياتك معهن من شظف العيش ، والزهد فى متع الدنيا .

وقوله : { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } معطوف على ما قبله .

أى : لا يحل لك الزواج بعد اليوم بغير من هن فى عصمتك ، كما لا يحل لك - أيضا - أن تطلق واحدة منهن وتتزوج بأخرى سواها ، حتى ولو أعجبك جمال من تريد زواجها من غير نسائك اللائى فى عصمتك عند نزول هذه الآية .

فالآية الكريمة قدا شتملت على حكمين : أحدهما : حرمة الزواج بغير التسع اللائى كن فى عصمته عند نزولهاز والثانى : حرمة تطليق واحدة منهن ، للزواج بأخرى بدلها .

وقوله : { بَعْدُ } ظرف مبنى على الضم لحذف المضاف اليه . أى : من بعد اليوم . و { أَزْوَاجٍ } مفعول به ، و { مِنْ } مزيدة لاستغراق الجنس . اى : ولا أنت بدل بهن أزواجا أخريات مهما كان شأن هؤلاء الأخريات .

وجملة : { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } فى موضع الحال من الفاعل وهو الضمير فى { تَبَدَّلَ } . أى : لا يحل لك الزيادة عليهن ، ولا أن تتبدل بهن أزواجا غيرهن فى آية حالة من الأحوال ، حتى ولو فى حال إجابك بغيرهن ويصح أن تكون هذه الجملة شرطية ، وقد حذف جوابها لفهمه من الكلام ، ويكون المعنى : ولو أعجبك حسنهن لا يحل لك نكاحهن .

وقوله : { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } استثناء من هذا الحكم . أى : لا يحل لك الزيادة عليهن ، ولا استبدال غيرهن بهن ، ولكن يحل لك ان تضيف اليهن ما شئت من النساء اللائى تملكهن عن طريق السبى .

وهذا الذى سرنا عليه من أن الآية الكريمة فى شأن أزواجه صلى الله عليه وسلم هو الذى سار عليه جمهور المفسرين .

قال ابن كثير : ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم - أن هذه الآية الكريمة نزلت مجازاة لأزواج النبى صلى الله عليه وسلم ورضا الله عنهن على حسبن صنيعين ، فى اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما اخترن رسول الله ، كان جزاؤهن أن قصره عليهن ، وحم عليه أن يتزوج بغيرهن ، أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن ، ولو أعجبه حسنهن ، إلا الإِماء والسرائر ، فلا حجر عليه فيهن .

ثم إنه - سبحانه - رفع عنه الحجر فى ذلك ، ونسخ حكم هذه الآية ، وأباح له التزوج ، ولكنه لم يقع منه بعد ذلك زواج لغيرهن ، لتكون المنة للرسول صلى الله عليه وسلم عليهن . روى الإِمام أحمد عن عائشة قالت : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء .

ومن العلماء من يرى أن قوله - تعالى - { مِن بَعْدُ } المراد به : من بعد من أحللنا لك الزواج بهن ، وهن الأصناف الأربعة اللائى سبق الحديث عنهن فى قوله - تعالى - : { ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ . . . } .

وهذا الرأى الثانى وإن كان أشمل من سابقه ، إلا أننا نرجح أن الآية الكريمة مسوقة لتكريم أمهات المؤمنين اللائى اخرنا لله ورسوله والدار الآخرة على الحياة الدنيا وزينتها .

هذا ، والنساء التسع اللائى حرم الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم الزيادة عليهن ، والاستبدال بهن ، هن : عائشة بنت أبى بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبى سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبى أمية ، وصفية بنت حيى بن أخطب ، وميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت جحش ، وجويرية بنت الحارث .

ثم ختم - سبحانه - الاية الكريمة بقوله : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } .

أى : وكان الله - تعالى - وما زال ، مطلعا على كل شئ من أحوالكم - أيها الناس - فاحذروا أن تتجاوزا ما حده الله - تعالى - لكم ، لأن هذا التجاوز يؤدى إلى عدم رضا الله - سبحانه - عنكم .

وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة ، قد ذكرت ألوانا متعددة من مظاهر تكريم الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم ومن توسعته عليه فى شأن أواجه ، وفى شأن ما أحله له من عدم التقيد فى القَسْم بينهن ، وفى تقديم أو تأخير من شاء منهن . .

كما أنها قد كرمت أمهات المؤمنين تكريما عظيما . لاختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة على الحياة الدنيا وزينتها .