فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (152)

{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون 152 وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون 153 } .

{ ولا تقربوا الفواحش } أي المعاصي ومنه ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ، والأولى حمل لفظ الفواحش على العموم في جميع المحرمات والمنهيات فيدخل فيه الزنا وغيره ، ولا وجه لتخصيصه بنوع من الفواحش وإن كان السبب خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

{ ما ظهر } أي ما أعلن به { منها } واطلع عليه الناس { وما بطن } ما أسر ولم يطلع عليه إلا الله أي علانيتها وسرها ، قال ابن عباس : كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأسا في السر ويستقبحونه بالعلانية فحرم الله الزنا في السر والعلانية .

{ ولا تقتلوا النفس } اللام للجنس أي لا تقتلوا شيئا من الأنفس { التي حرم الله } قتلها { إلا بالحق } أي إلا بما يوجبه الحق والاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا في حال الحق أو لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، ومن الحق قتلها قصاصا وقتلها بسبب زنا المحصن ، وقتلها بسبب الردة ونحو ذلك من الأسباب التي ورد الشرع بها ، وإنما أفرد قتل النفس بالذكر تعظيما لأمر القتل وأنه من أعظم الفواحش والكبائر .

{ ذلكم } إشارة إلى جميع ما تقدم مما تلاه عليهم قاله أبو حيان . إلى الأمور الخمسة { وصاكم } أي أمركم { به } وأوجبه عليكم وفيه من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإحسان .

ولما كان العقل هو مناط التكليف قال : { لعلكم تعقلون } أي لكي تفهموا ما في هذه التكاليف من الفوائد النافعة في الدين والدنيا فتعملوا بها .

{ ولا تقربوا مال اليتيم } أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه { إلا بالتي } أي الخصلة التي { هي أحسن } من غيرها وهي ما فيه صلاحه وحفظه وتنميته وتثميره وتحصيل الربح له فيشمل كل وجه من الوجوه التي فيها نفع اليتيم وزيادة في ماله ، والاستثناء مفرغ ، وقيل المراد بالتي هي أحسن التجارة .

{ حتى } أي إلى غاية هي أن { يبلغ } اليتيم { أشده } فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه وقيل بالعكس وقيل هو اسم مفرد لفظا ومعنى ، وقيل هو جمع ، وعلى هذا فمفرده شدة كنعمة أو شد كفلس وأفلس أو شد كصر وأصر ، أقوال ثلاثة في مفرده وأصله من شد النهار أي ارتفع قال سيبويه واحده شدة .

قال الجوهري : وهو حسن في المعنى لأنه يقال أبلغ الكلام شدته ، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل ، وقيل الأشد استحكام قوة الشباب والسن حتى يتناهى في الشباب إلى حد الرجال .

واختلف أهل العلم في الأشد فقال أهل المدينة بلوغه وإيناس رشده ، وقال عبد الرحمن بن زيد : هو البلوغ ، وقيل إنه انتهاء الكهولة ، والأولى في تحقيقه أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد ، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكا مسلك العقلاء لا مسلم أهل السفه والتبذير ، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فجعل بلوغ النكاح وهو بلوغ سن التكليف مقيدا بإيناس الرشد ، ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا .

قال الشعبي ومالك : الأشد الحلم حين تكتب له الحسنات وعليه السيآت وقال أبو العالية : حتى يعقل وتجتمع قوته ، وقال أبو حنيفة : خمس وعشرون سنة ، وقال الكلبي : هو ما بين ثمان عشرة سنة إلى ثلاثين سنة ، وقيل إلى أربعين وقيل إلى ستين ، وقال الضحاك : عشرون سنة ، وقال السدي : ثلاثون سنة ، وقال مجاهد : ثلاث وثلاثون سنة ، وهذه الأقوال إنما هي في نهاية الشد لا في ابتدائه والمختار في تفسيره ما ذكرناه .

{ وأوفوا الكيل والميزان } وهما الآلة التي يكال بها ويوزن ، وأصل الكيل مصدر ثم أطلق على الآلة ، والميزان في الأصل مفعال من الوزن ، ثم نقل لهذه الآلة كالمصباح والمقياس لما يستصبح به ويقاس { بالقسط } أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء وترك البخس .

{ لا نكلف نفسا إلا وسعها } أي طاقتها في كل تكليف من التكاليف ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن فلا يخاطب المتولي لهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان فإن أخطأ في الكيل والوزن والله يعلم صحة نيته فلا مؤاخذة عليه كما ورد في الحديث ومع ذلك يضمن ما أخطأ فيه كما في كتب الفروع .

{ وإذا قلتم } بقول في خبر أو شهادة أو جرح أو تعديل { فاعدلوا } فيه وتحروا الصواب ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد ، ولا تميلوا إلى صديق ولا على عدو ، بل سووا بين الناس فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به { ولو كان } الضمير راجع إلى ما يفيده { وإذا قلتم } فإنه لا بد للقول من مقول فيه أو مقول له أو مقول عليه أي ولو كان المقول فيه أو له أو عليه { ذا قربى } أي صاحب قرابة لكم ، وقيل إن المعنى ولو كان الحق على مثل قراباتكم ، والأول أولى ، ومثل هذه الآية قوله : { ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } .

{ وبعهد الله } أي بكل عهد عهده الله إليكم { أوفوا } ومن جملة ما عهده إليكم ما تلاه رسوله بأمره في هذا المقام ، ويجوز أن يرد به كل عهد ولو كان بين المخلوقين لأن الله سبحانه لما أمره بالوفاء به في كثير من الآيات القرآنية كان ذلك مسوغا لإضافته إليه .

{ ذلكم } إشارة إلى ما تقدم ذكره من الأمور الأربعة { وصاكم } أي أمركم { به } أمرا مؤكدا { لعلكم تذكرون } أي تتعظون بذلك فتأخذون ما أمركم به .

ولما كانت الخمسة المذكورة قبل قوله : { لعلكم تعقلون } من الأمور الظاهرة الجلية مما يجب تعقلها وتفهمها ختمت بقوله لعلكم تعقلون ، ولما كانت هذه الأربعة خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والذكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله : { لعلكم تذكرون } قاله أبو حيان .