الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ ٱلۡكَيۡلَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُواْۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (152)

{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } يعني علانية { وَمَا بَطَنَ } يعني السرّ قال المفسّرون : كانوا في الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأساً في السرّ فحرّم الله تعالى الزنا في العلانيّة والسر وقال الضحاك : ما ظهر الخمر وما بطن { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } [ نهى وهي ] نفس مؤمن أو معاهد { إِلاَّ بِالْحَقِّ } يعني بما أباح قبلها وهي الارتداد والقصاص والرجم .

وروى مطر الوراق عن نافع بن عمر عن عثمان رضي الله عنه أشرف على أصحابه وقال : علام يقتلونني فإنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يحل دم أمرىء مُسلم إلاّ بإحدى ثلاث : رجل زنا بعد إحصانه فعليه الرجم ، أو قتل عامداً فعليه القود ، أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل ، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا قتلت أحداً فاقيد نفسي ، ولا ارتدت منذ أسلمت ، إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله " .

{ ذلِكُمْ } النبيّ الذي ذكرت { وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } يعني بما فيه صلاحه وتثميره ، وقال مجاهد : هو التجارة فيه ، وقال الضحاك : أموال يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئاً .

وقال ابن زيد : وأن يأكل بالمعروف إن افتقر ، وإن استغنى لم يأكل ، وقال الشعبي : مَنْ خالط مال اليتيم حتّى يفصل عليه فليخالطه ، ومَنْ خالطه ليأكل منه وليدعه حتّى يبلغ أشده .

وقال يحيى بن يعمر : بلوغ الحلم ، وقال الشعبي : الأشد الحلم حيث يكتب له الحسنات وعليه السيئات ، وقال أبو العاليّة : حتّى يعقل ويجتمع قوّته .

وقال الكلبي : الأشد مابين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة . وقال السدّي : هو ثلاثون سنة ثمّ جاء بعدها حتّى بلغوا النكاح .

والأشد جمع شدّ ، مثل قدّ وأقدّ ، وهو استحكام قوماً لفتى وشبابه وسنه ، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه ، يقال : أتيته شدّ النهار ومد النهار وقال الفضل بن محمد في شد بيت عنترة :

[ عهدي به ] شدّ النهار كأنّما *** خضب اللبان ورأسه بالعظلم

وقال آخر :

تطيف به شد النهار ضعينة *** طويلة أنقاء اليدين سحوق

وليس بلوغ الأشد ممّايدع قرب ماله بغير الأحسن وقد تمّ الكلام .

{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ على الأبد ] { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } فادفعوا إليه ماله إن كان رشيداً { وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } بالعدل { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن ، وقال أهل المعاني : معناه : إلاّ يسعها ويحلّ لها ولا يخرج عليه ولا يضيق عنه وذلك أنّ لله تعالى من عباده أنّ كثيراً منهم ضيق نفسه عن أن يطيّب لغيره بما لا يجب عليها له فأمر المعطي بإيفاء الحق ربّه الذي هو له ويكلّفه الزيادة لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها ، وأمر صاحب الحق بأخذ حقّه ولم يكلفه الرضا بأقل منه لمّا فيه في النقصان عليه من ضيق نفسه ، فلم يكلّف نفساً منهما إلاّ ما لا حرج فيه ولا يضيق عليه .

قال ابن عباس : إنكم معشر الأعاجم فقد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم المكيال والميزان { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ } أي فاصدقوا في الحكم والشهادة { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } محذوف الاسم يعني ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قربة { وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يتّعظون .

قال ابن عباس : هذا الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء في جميع الكتب وهنَّ محرّمات على بني آدم كلّهم وهنّ أُمّ الكتاب مَنْ عمل بهن دخل الجنّة ومَنْ تركهن دخل النار .

قال كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إنَّ هذا لأوّل شيء في التوراة { بسم الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الآيات .

وقال الربيع بن خيثم لأصحابه : ألا أقرأ عليكم صحيفة عليها خاتم محمد صلى الله عليه وسلم لم يُفك فقرأ هذه الآية { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ }