قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ، الآية . قال أهل التفسير : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوماً ، ووصف القيامة ، فرق له الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم : أبو بكر رضي الله عنه ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وأبو ذر الغفاري ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسي ، ومعقل ابن مقرن رضي الله عنهم . وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ، ويلبسوا المسوح ، ويجبوا مذاكيرهم ، ويصوموا الدهر ، ويقوموا الليل ، ولا يناموا على الفرش ، ولا يأكلوا اللحم والودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويسيحوا في الأرض ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه ، فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية ، واسمها الخولاء ، وكانت عطارة : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت : يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك . فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما دخل عثمان أخبرته بذلك ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، وما أردنا إلا الخير ، فقال صلى الله عليه وسلم : إني لم أؤمر بذلك ، ثم قال : إن لأنفسكم عليكم حقاً ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام ، والطيب ، والنوم ، وشهوات النساء ؟ أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً ، فإنه ليس في ديني ترك اللحم ، والنساء ، ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ، ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وحجوا واعتمروا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، واستقيموا يستقم لكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنا عبد الله بن المبارك ، عن رشد بن سعد ، حدثني أبو نعيم ، عن سعد بن مسعود ، أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ائذن لنا في الاختصاء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من خصى ولا من اختصى ، خصاء أمتي الصيام ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لنا في السياحة . فقال : ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لنا في الترهب ، فقال : ( إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد ، وانتظار الصلاة ) .
وروي عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهم : أن رجلاً قال : يا رسول الله ، إني أصبت من اللحم فانتشرت ، وأخذتني شهوة ، فحرمت اللحم ، فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ، يعني : اللذات التي تشتهيها النفوس ، مما أحل الله لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة .
قوله تعالى : { ولا تعتدوا } أي : ولا تتجاوزوا الحلال إلى الحرام ، وقيل : هو جب المذاكير .
استئناف ابتدائي خطاب للمؤمنين بأحكام تشريعية ، وتكملة على صورة التفريع جاءت لمناسبة ما تقدّم من الثناء على القسّيسين والرهبان . وإذ قد كان من سنّتهم المبالغة في الزهد وأحدثوا رهبانية من الانقطاع عن التزوّج وعن أكل اللحوم وكثير من الطيّبات كالتدهُّن وترفيه الحالة وحُسن اللباس ، نبّه الله المؤمنين على أنّ الثناء على الرهبان والقسّيسين بما لهم من الفضائل لا يقتضي اطّراد الثناء على جميع أحوالهم الرهبانيّة . وصادف أن كانَ بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طمَحت نفوسهم إلى التقلّل من التعلّق بلذائذ العيش اقتداء بصاحبهم سيِّد الزاهدين صلى الله عليه وسلم روى الطبري والواحدي أنّ نفَراً تنافسوا في الزهد . فقال أحدُهم : أمّا أنا فأقوم الليل لا أنام ، وقال الآخر : أمَّا أنا فأصوم النهار ، وقال آخر : أمّا أنا فلا آتي النساء ، فبلغ خبرُهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم ، فقال : " ألَمْ أنَبَّأ أنَّكم قلتم كذا . قالوا : بَلَى يا رسول الله ، وما أرَدْنا إلاّ الخَيْر ، قال : لَكِنِّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي " فنزلت هذه الآية . ومعنى هذا في « صحيحي البخاري ومسلم » عن أنس بن مالك وليس فيه أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية .
ورُوي أنّ ناساً منهم ، وهم : أبو بكر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وابن عُمر ، وأبو ذرّ ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقدادُ بن الأسود ، وسلْمان الفارسي ، ومعقل بن مُقَرّن اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون واتّفقوا على أن يرفُضوا أشغال الدنيا ، ويتركوا النساء ويترهّبوا . فقام رسول الله فغلّظ فيهم المقالة ، ثم قال : " إنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شَدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع " فنزلت فيهم هذه الآية . . وهذا الخبر يقتضي أنّ هذا الاجتماع كان في أول مدّة الهجرة لأنّ عثمان بن مظعون لم يكن له دار بالمدينة وأسكنه النبي صلى الله عليه وسلم في دار أمّ العلاء الأنصارية التي قيل : إنّها زوجة زيد بن ثابت ، وتوفّي عثمان بن مظعون سنة اثنتين من الهجرة . وفي رواية : أنّ ناساً قالوا إنّ النصارى قد حرّموا على أنفسهم فنحن نحرّم على أنفسنا بعض الطيّبات فحرّم بعضهم على نفسه أكل اللحم ، وبعضهم النوم ، وبعضهم النساء ؛ وأنّهم ألزموا أنفسهم بذلك بأيمان حلفوها على ترك ما التزموا تركه . فنزلت هذه الآية .
وهذه الأخبار متظافرة على وقوع انصراف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبالغة في الزهد واردة في الصحيح ، مثل حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي . قال : قال لي رسول الله : " ألم أخْبَر أنّك تقوم الليل وتصوم النهارَ ، قلت : إنّي أفعلُ ذلك . قال : فإنّك إذا فعلتَ هجَمت عينُك ونَفِهَتْ نَفْسك . وإنّ لنفسك عليك حقاً ولأهلِك عليك حقّاً ، فصم وأفطر وقُم ونَم " .
وحديث سلمان مع أبي الدرداء أنّ سلمان زار أبا الدرداء فصنع أبو الدرداء طعاماً فقال لسلمان : كُلْ فإنّي صائم ، فلمّا كانَ الليلُ ذهب أبو الدرداء يقوم ، فقال : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم فقال : نم ، فنام . فلمّا كان آخر اللّيل قال سلمان : قم الآن ، وقال سلمان : إنّ لربّك عليك حقّاً ولنفسك عليك حقّاً ولأهلك عليك حقّاً فأعط كلّ ذي حقّ حقّه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقال النبي عليه الصلاة والسلام : « صدقَ سلمانُ » . وفي الحديث الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أمّا أنا فأقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوّج النساء فمن رغب عن سُنّتي فليس منّي " .
والنهي إنّما هو عن تحريم ذلك على النفس . أمّا ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبّر على الحِرمان عند عدم الوجدان ، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس . وكذلك الإعراض عن كثير من الطّيبات للتطلّع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد ، وقد كان ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصّة من أصحابه ، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس ، فالتطلّع إليها تعسير ، وهو مع ذلك كان يتناول الطيّبات دون تشوّف ولا تطلّع . وفي تناولها شكر لله تعالى ، كما ورد في قصّة أبي الدحداح حين حَلّ رسولُ الله وأبُو بكر وعمرُ في حائطه وأطعمهم وسقاهم . وعن الحسن البصري : أنّه دُعي إلى طعام ومعه فَرقد السَبَخي{[223]} وأصحابه فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام دجاج مسمَّن وفالَوْذ فاعتزل فرقد نَاحِية . فسأله الحسن : أصائم أنت ، قال : لا ولكنّي أكره الألوان لأنّي لا أؤدّي شكره ، فقال له : الحسن : أفتشرب الماءَ البارد ، قال : نعم ، قال : إنّ نعمةَ الله في الماءِ البارد أكثر من نعمته في الفَالَوْذ .
وليس المراد من النهي أن يلفظ بلفظ التحريم خاصّة بل أن يتركه تشديداً على نفسه سواء لفظ بالتحريم أم لم يلفظ به . ومن أجل هذا النهي اعتبر هذا التحريم لغواً في الإسلام فليس يلزم صاحبه في جميع الأشياء التي لم يجعل الإسلام للتحريم سبيلاً إليها وهي كلّ حال عدا تحريم الزوجة . ولذلك قال مالك فيمن حرّم على نفسه شيئاً من الحلال أو عمّم فقال : الحلال عليّ حرام ، أنّه لا شيء عليه في شيء من الحلال إلاّ الزوجة فإنّها تحرم عليه كالبتَات ما لم ينو إخراج الزوجة قبل النطق بصيغة التحريم أو يخرجها بلفظ الاستثناء بعد النطق بصيغة التحريم ، على حكم الاستثناء في اليمين .
ووجهه أنّ عقد العصمة يتطرّق إليه التحريم شرعاً في بعض الأحوال ، فكان التزام التحريم لازماً فيها خاصّة ، فإنّه لو حرّم الزوجة وحدها حرمت ، فكذلك إذا شملها لفظ عامّ . ووافقه الشافعي . وقال أبو حنيفة : من حرّم على نفسه شيئاً من الحلال حَرم عليه تناوُله ما لم يكَفّر كفارة يمين ، فإنْ كفَّر حلّ له إلاّ الزوجة . وذهب مسروق وأبو سلمة إلى عدم لزوم التحريم في الزوجة وغيرها .
وفي قوله تعالى : { لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم } تنبيه لفقهاء الأمّة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه ، أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية .
ثم إنّ أهل الجاهلية كانوا قد حرّموا أشياء على أنفسهم كما تضمنته سورة الأنعام ، وقد أبطلها الله بقوله : { قل من حرّم زينة الله التي أخرج لِعباده والطيّبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ، وقوله : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرّموا ما رزقهم الله افتراء على الله } [ الأنعام : 140 ] ، وقوله : { قُل الذّكَرَيْنِ حَرّم أم الأنثيين } إلى قوله { فمن أظلم ممّن افترى على الله كذباً ليُضلّ النّاس بغير علم } [ الأنعام : 143 ، 144 ] ، وغير ذلك من الآيات . وقد كان كثير من العرب قد دخلوا في الإسلام بعد فتح مكّة دفعة واحدة كما وصفهم الله بقوله : { يدخلون في دين الله أفواجاً } [ النصر : 2 ] . وكان قصر الزمان واتّساع المكان حائلين دون رسوخ شرائع الإسلام فيما بينهم ، فكانوا في حاجة إلى الانتهاء عن أمور كثيرة فاشية فيهم في مدّة نزول هذه السورة ، وهي أيام حجّة الوداع وما تقدّمها وما تأخّر عنها .
وجملة { ولا تعتدوا } معترضة ، لمناسبة أنّ تحريم الطّيبات اعتداء على ما شرع الله ، فالواو اعتراضية . وبما في هذا النهي من العموم كانت الجملة تذييلاً .
والاعتداء افتعال العدوْ ، أي الظلم . وذِكره في مقابلة تحريم الطيّبات يدلّ على أنّ المراد النهي عن تجاوز حدّ الإذنِ المشروع ، كما قال { تلك حدود الله فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] . فلمّا نهى عن تحريم الحلال أردفه بالنهي عن استحلال المحرّمات وذلك بالاعتداء على حقوق النّاس ، وهو أشدّ الاعتداء ، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه دون حقّ الناس ، كتناول الخنزير أو الميتة . ويعمّ الاعتداءُ في سياق النهي جميع جنسه ممّا كانت عليه الجاهلية من العدوان ، وأعظمه الاعتداء على الضعفاء كالوأْد ، وأكللِ مال اليتيم ، وعضل الأيامَى ، وغير ذلك .
وجملة { إنّ الله لا يحبّ المعتدين } تذييل للّتي قبلها للتحذير من كلّ اعتداء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرّوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه حقّ من عند الله "لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أَحَلّ لَكُمْ"، يعني بالطيبات: اللذيذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب، فتمنعوها إياها، كالذي فعله القسيسون والرهبان، فحرّموا على أنفسهم النساء والمطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وحبس في الصوامع بعضُهم أنفسَهم، وساح في الأرض بعضهم. يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيها المؤمنون كما فعل أولئك، ولا تعتدوا حَدّ الله الذي حدّ لكم فيما أحلّ لكم وفيما حرّم عليكم، فتجاوزوا حَدّهُ الذي حَدّه، فتخالفوا بذلك طاعته، فإن الله لا يحبّ من اعتدى حدّه الذي حدّه لخلقه فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قِلابة قال: أراد أناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة، ثم قال: «إنما هَلكَ مَنْ كَان قَبْلَكُمْ بالتّشْدِيدِ، شَدّدُوا على أنْفُسِهِمْ فَشَدّدَ الله عَلَيْهِمْ، فأولئك بَقَايَاهُمْ في الدّيار والصّوَامِع، اعْبُدُوا الله ولا تُشْرِكُوا به شيئا، وحجّوا واعْتَمِرُوا، واسْتَقِيمُوا يُستقَمْ لَكُمْ». قال: ونزلت فيهم: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ... "الآية.
وخُبّرنا أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل لا أنام، وقال أحدهم: أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر، وقال الاخر: أما أنا فلا آتي النساء. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: «ألَمْ أُنَبّأْ أنّكُمُ اتّفَقْتُمْ على كَذَا؟» قالوا: بلى يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير. قال: «لكِنّي أقُومُ وأنامُ وأصُومُ وأُفْطِرُ وآتِي النّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي». وكان في بعض القراءة: «من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضلّ عن سواء السبيل»... واختلفوا في معنى الاعتداء الذي قال تعالى ذكره: "وَلا تَعْتَدُوا إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ"؛
فقال بعضهم: الاعتداء الذي نهى الله عنه في هذا الموضع هو ما كان عثمان بن مظعون همّ به من جبّ نفسه، فنهى عن ذلك. وقال آخرون: بل ذلك هو ما كان الجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم همّوا به من تحريم النساء والطعام واللباس والنوم، فُنهوا أن يفعلوا ذلك وأن يستَنّوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم: بل ذلك نهي من الله تعالى ذكره أن يتجاوز الحلال إلى الحرام.
وقد بيّنا أن معنى الاعتداء: تجاوز المرء ماله إلى ما ليس له في كلّ شيء. وإذ كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره قد عمّ بقوله: "لا تَعْتَدُوا" النهي عن العدوان كله، كان الواجب أن يكون محكوما لما عمه بالعموم حتى يخصه ما يجب التسليم له. وليس لأحد أن يتعدّى حدّ الله تعالى في شيء من الأشياء مما أحلّ أو حرّم، فمن تعدّاه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره: "إنّ اللّهَ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ". وغير مستحيل أن تكون الآية نزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهط الذين همّوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما همّوا به من تحريم بعض ما أحلّ الله لهم على أنفسهم، ويكون مرادا بحكمها كلّ من كان في مثل معناهم، ممن حرّم على نفسه ما أحلّ الله له، أو أحلّ ما حرّم الله عليه، أو تجاوز حدّا حدّه الله له، وذلك أن الذين همّوا بما همّوا به من تحريم بعض ما أحلّ لهم على أنفسهم، إنما عوتبوا على ما همّوا به من تجاوزهم ما سنّ لهم وحدّ إلى غَيرِه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{يا أيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية ترد على المتقشفة لأنه [ما] نهانا أن نأكل طيبات ما أحل الله لنا، وهم يحرمون ذلك. وقال الله عز وجل: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32]. ثم لا فرق بين ما أحل الله لنا من الطيبات وتحريم ما حرم الله علينا من الخبائث. ثم يلزمهم ألا يحرموا على أنفسهم التناول من الخبز والماء، وهما من أطيب الطيبات.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} والطيبات: اسمٌ يقع على ما يُستلذّ ويُشتَهَى ويميل إليه القلب، ويقع على الحلال. وجائز أن يكون مراد الآية الأمرين جميعاً لوقوع الاسم عليهما، فيكون تحريم الحلال على أحد وجهين، أحدهما: أن يقول:"قد حرمت هذا الطعام على نفسي" فلا يحرم عليه وعليه الكفارة إن أكل منه. والثاني: أن يغصب طعام غيره فيخلطه بطعامه فيحرمه على نفسه حتى يغرم لصاحبه مثله...
وفي هذه الآية دلالةٌ على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهداً؛ لأن الله تعالى قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها في قوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً}، ويدلّ على أنه لا فضيلة في الامتناع من أكلها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
من أمارات السعادة الوقوفُ على حد الأمر؛ إنْ أَبَاحَ الحقُّ شيئاً قَبِلَه، وقابله بالخشوع، وإنْ خَطَرَ شيئاً وقف ولم يتعرض للجحود.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
فيه دليل على أن العبد لا يمكنه أن يحرم على نفسه ما أحله الله تعالى له بعقده وقصده...
وفيه دليل على أن ذلك منه لغو،...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} ما طاب ولذ من الحلال. ومعنى {لاَ تُحَرّمُواْ} لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم. أو لا تقولوا حرّمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً... {وَلاَ تَعْتَدُواْ} ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرّم عليكم. أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات. أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلماً، فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها دخولاً أولياً لوروده على عقبه أو أراد ولا تعتدوا بذلك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فقوله {ولا تعتدوا} تأكيد لقوله {لا تحرموا} وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى ولا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله، فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين فكأنه قال: لا تشددوا فتحرموا حلالاً، ولا تترخصوا فتحلوا حراماً.
{يا أيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} وفيه مسائل: المسألة الأولى:...فبين أنه كما لا يجوز استحلال المحرم كذلك لا يجوز تحريم المحلل، وكانت العرب تحرم من الطيبات ما لم يحرمه الله تعالى، وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام...
المسألة الثانية: قوله {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} يحتمل وجوها: أحدها: لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله تعالى لكم، وثانيها: لا تظهروا باللسان تحريم ما أحله الله لكم، وثالثها: لا تجتنبوا عنها اجتنابا شبيه الاجتناب من المحرمات، فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل، ورابعها: لا تحرموا على غيركم بالفتوى، وخامسها: لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين...
المسألة الثالثة: قوله {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} فيه وجوه: الأول: أنه تعالى جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلما فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها، والثاني: أنه لما أباح الطيبات حرم الإسراف فيها بقوله تعالى: {ولا تعتدوا} ونظيره قوله تعالى {كلوا واشربوا ولا تسرفوا} الثالث: يعني لما أحل لكم الطيبات فاكتفوا بهذه المحللات ولا تتعدوها إلى ما حرم عليكم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما مدح سبحانه الرهبان، وكان ذلك داعياً إلى الترهب، وكانت الرهبانية حسنة بالذات قبيحة بالعرض، شريفة في المبدأ دنية في المآل، فإنها مبنية على الشدة والاجتهاد في الطاعات والتورع عن أكثر المباحات، والإنسان مبني على الضعف مطبوع على النقائص، فيدعوه طبعه ويساعده ضعفه إلى عدم الوفاء بما عاقد عليه، ويسرع بما له من صفة العجلة إليه، فيقع في الخيانة كما قال تعالى: {فما رعوها حق رعايتها} [الحديد: 27] عقب ذلك بالنهي عنها في هذا الدين والإخبار عنه بأنه بناه على التوسط رحمة منه لأهله ولطفاً بهم تشريفاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ونهاهم عن الإفراط فيه والتفريط فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} أي وجد منهم الإقرار بذلك {لا تحرموا} أي تمنعوا أنفسكم بنذر أو يمين أو غيرهما تصديقاً لما أقررتم به، ورغبهم في امتثال أمره بأن جعله موافقاً لطباعهم ملائماً لشهواتهم فقال: {طيبات ما} أي المطيبات وهي اللذائذ التي {أحل الله} وذكر هذا الاسم الأعظم مرغب في ذلك، فإن الإقبال على المنحة يكون على مقدار المعطي، وأكد ذلك بقوله: {لكم} أي وأما هو سبحانه فهو منزه عن الأغراض، لا ضر يلحقه ولا نفع، لأن له الغنى المطلق. ولما أطلق لهم ذلك، حثهم على الاقتصاد، وحذرهم من مجاوزة الحد إفراطاً وتفريطاً فقال: {ولا تعتدوا} فدل بصيغة الافتعال على أن الفطرة الأولى مبنية على العدل، فعدولها عنه لا يكون إلا بتكلف، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لاستبعاد أن ينهى عن الإمعان في العبادة: {إن الله} أي وهو الملك الأعظم {لا يحب المعتدين} أي لا يفعل فعل المحب من الإكرام للمفرطين في الورع بحيث يحرمون ما أحللت، ولا للمفرطين فيه الذين يحللون ما حرمت، أي يفعلون فعل المحرم من المنع وفعل المحلل من التناول...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسَنَّه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا كان ذلك كذلك، تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله، وآثر أكل الخشن من الطعام، وترك اللحم، وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء. قال: فإن ظن ظانّ أن الفضل في غير الذي قلنا لِما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة، فقد ظنّ خطأ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضرّ للجسم من المطاعم الردية، لأنها مفسدة لعقله، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بدأ الله تعالى هذه السورة بآيات من أحكام الحلال والحرام والنسك – ومنها حل طعام أهل الكتاب والتزوج منهم، وأحكام الطهارة، والعدل ولو في الأعداء والمبغضين، ثم جاء بهذا السياق الطويل في بيان أحوال أهل الكتاب ومحاجتهم، فكان أوفى وأتم ما ورد في القرآن من ذلك، ولم يتخلله إلا قليل من آيات الأحكام والوعود والعظات، بينا مناسبتها له في مواضعها. وهذه الآيات عود إلى أحكام الحلال والحرام والنسك التي بدأت بها السورة، ويتلوها العود إلى محاجة أهل الكتاب كما علمت. فمجموع آيات السورة في هذين الموضوعين. وإنما لم تجعل آيات الأحكام كلها في أول السورة، وتجعل الآيات في أهل الكتب متصلا بعضها ببعض في باقيها. لما بيناه غير مرة من حكمة مزج المسائل والموضوعات في القرآن، من حيث هو مثاني تتلى دائما للاهتداء بها، لا كتابا فنيا ولا قانونا يتخذ لأجل مراجعة كل مسألة من كل طائفة من المعاني في باب معين.
على أن في نظمه وترتيب آية من المناسبة بين المسائل المختلفة ما يدهش أصحاب الأفهام الدقيقة بحسنه وتناسقه، كما ترى في مناسبة هذه الآيات لما قبلها مباشرة، زائدا على ما علمت آنفا من مناسبتها لمجموع ما تقدمها من أول السورة إلى هنا: ذلك أنه تعالى ذكر أن النصارى أقرب الناس مودة للذين آمنوا، وذكر من سبب ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا، فكان من مقتضى هذا أن يرغب المؤمنون في الرهبانية، ويظن الميالون للتقشف والزهد أنها مرتبة كمال تقربهم إلى الله تعالى، وهي إنما تتحقق بتحريم التمتع بالطيبات طبعا من اللحوم والأدهان والنساء، إما دائما كامتناع الرهبان من الزواج البتة، وإما في أوقات معينة كأنواع الصيام التي ابتدعوها؛ وقد أزال الله تعالى هذا الظن، وقطع طريق تلك الرغبة، بقوله عز من قائل: {يأيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} أي لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم من الطيبات المستلذة بأن تتعمدوا ترك التمتع بها تنسكا وتقربا إليه تعالى. ولا تعتدوا فيها بتجاوز حد الاعتدال إلى الإسراف الضار بالجسد كالزيادة على الشبع والري، أو بالأخلاق والآداب كجعل التمتع بلذتها أكبر همكم، أو شاغلا لكم عن معالي الأمور من العلوم والأعمال النافعة لكم ولأمتكم، وهذا معنى قوله: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا} [الأعراف: 31] أو ولا تعتدوها هي – أي الطيبات المحللة – بتجاوزها إلى الخبائث المحرمة. فالاعتداء يشمل الأمرين: الاعتداء في الشيء نفسه، واعتداء هو بتجاوزه إلى غيره مما ليس من جنسه، وقد حذف المفعول في الآية فلم يقل: فلا تعتدوا فيها – أو فلا تعتدوها – كما قال: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة: 229] ليشمل الأمرين – اعتداء الطيبات نفسها إلى الخبائث، والاعتداء فيها بالإسراف، لأن حذف المعمول يفيد العموم. ثم علل النهي بما ينفر عنه فقال: {إن الله لا يحب المعتدين} الذين يتجاوزون حدود شريعته، وسنن فطرته، ولو بقصد عبادته.
وتحريم الطيبات المحللة قد يكون بالفعل، من غير التزام بيمين ولا نذر، وقد يكون بالتزام، وكلاهما غير جائز؛ والالتزام قد يكون لأجل رياضة النفس وتهذيبها بالحرمان من الطيبات، وقد يكون لإرضاء بادرة غضب، بإغاظة زوجة أو والد أو ولد. كمن يحلف بالله بالطلاق أنه لا يأكل من هذا الطعام [ومثله ما في معناه من المباحات] أو يلتزم ذلك بغير الحلف والنذر من المؤكدات. ومن هذا الصنف من يقول: إن فعل كذا فهو بريء من الإسلام، أو من الله ورسوله. وكل ذلك مذموم، ولا يحرم على أحد شيء يحرمه على نفسه بهذه الأقوال. وفي الأيمان وكفارتها خلاف بين العلماء سيأتي بيانه.
وأما ترك الطيبات البتة كما تترك المحرمات – ولو بغير نذر ولا يمين – تنسكا وتعبدا لله تعالى بتعذيب النفس وحرمانها، فهو محل شبهة فتن بها كثير من العباد والمتصوفة، فكان من بدعهم التركية، التي تضاهي بدعهم العملية؛ وقد اتبعوا فيها سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. كعباد بني إسرائيل ورهبان النصارى. وهؤلاء أخذوها عن بعض الوثنيين كالبراهمة الذين يحرمون جميع اللحوم، ويزعمون أن النفس لا تزكو ولا تكمل إلا بحرمان الجسد من اللذات. وقهر الإرادة بمشاق الرياضات، وكانوا يحرمون الزينة كما يحرمون النعمة، فيعيشون عراة الأجسام، ولا يستعملون الأواني لأطعمتهم، بل يستغنون عنها بورق الشجر. وقد أرجعهم انتشار الإسلام في الهند عن بعض ذلك. ولا يزال الجم الغفير منهم يمشون في الأسواق والشوارع عراة ليس على أبدانهم إلا ما يستر السوءتين فقط، ويعبرون عن ذلك بكلمة «السبيلين» العربية التي يستعملها الفقهاء، لأنهم أخذوها – كما يظهر – عن المسلمين الذين كانوا يجبرونهم على ستر عوراتهم. ومنهم من يشد في وسطه إزارا بكيفية يرى بها باطن فخذه، والرجال والنساء في قلة الستر سواء، فترى النساء في أسواق المدن مكشوفات البطون والظهور والسوق والأفخاذ، ومنهن من تضع على عاتقها ملحفة تستر شطر بدنها الأعلى ويبقى الجانب الآخر مكشوفا.
وجملة القول أن تحريم الطيبات والزينة وتعذيب النفس من العبادات المأثورة عن قدماء الهنود فاليونان، وقلدهم فيها أهل الكتاب ولاسيما النصارى، فإنهم – على تفصيهم من شريعة التوراة الشديدة الوطأة، وعلى إباحة مقدسهم وإمامهم بولس جميع ما يؤكل ويشرب لهم، إلا الدم المسفوح وما ذبح للأصنام – قد شددوا على أنفسهم، وحرموا عليها ما لم تحرمه الكتب المقدسة عندهم، على ما فيها من الشدة والمبالغة في الزهد ثم أرسل الله تعالى خاتم النبيين والمرسلين بالإصلاح الأعظم، فأباح للبشر الزينة والطيبات. ووضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وأرشدهم إلى إعطاء البدن حقه والروح حقها، لأن الإنسان مركب من روح وجسد، فيجب عليه العدل بينهما. وهذا هو الكمال البشري. فكانت الأمة الإسلامية بذلك أمة وسطا صالحة للشهادة على جميع الأمم وأن تكون حجة لله عليها. كما تقدم بيان ذلك في أول الجزء الثاني من هذا التفسير، وبذلك كانت جديرة بالبحث عن أسرار الخلق ومنافعه، وتسخير قوى الأرض والجو للتمتع بنعم الله فيها، مع الشكر عليها، ولكنها قصرت في ذلك ثم انقطعت عن السير في طريقه بعد أن قطع سلفها شوطا واسعا فيه.
ولما كان حب المبالغة والغلو من دأب البشر وشنشنتهم في كل شؤونهم، ما من شيء إلا ويوجد من يميل إلى الإفراط فيه، كما يوجد من يميل إلى التفريط – استشار بعض الصحابة رضي الله عنهم نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم في تحريم الطيبات والنساء على أنفسهم، وتركها بعضهم من غير استشارة، اشتغالا عنها بصيام النهار وقيام الليل، فنهاهم عن ذلك. وأنزل الله تعالى هذه الآية وما في معناها من الآيات في تحريم الخبائث، والمنة بحل الطيبات، وبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله أحسن البيان.
وإننا نذكر هنا بعض الأخبار والآثار المروية في ذلك لتكون حجة على أهل الغلو في هذا الدين، الذين تركوا هدايته السمحة إلى تشديد الغابرين، وصاروا يعدون زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق خاصة بالكافرين، حتى كأن المشارك لهم فيها خارج عن هدي المؤمنين، وهاك ما ورد في هذه الآية من التفسير المأثور، وسيأتي في سورة الأعراف 391 وغيرها ما يزيدك نورا على نور:
أخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي في الكامل والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، وإني حرمت علي اللحم. فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل لكم} قال: نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني».
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في مراسليه وابن جرير عن أبي مالك في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} قال نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه كانوا حرموا على أنفسهم كثيرا من الشهوات والنساء وهم بعضهم أن يقطع ذكره فنزلت هذه الآية.
وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؛ فقال بعضهم لا آكل اللحم، وقال بعضهم لا أتزوج النساء، وقال بعضهم لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وأخرج البخاري ومسلم وابن أبي شيبة والنسائي وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي في سننه وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل 394 ثم قرأ عبد الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين}
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن أبي قلابة قال: أراد أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء ويترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغلظ فيهم المقالة ثم قال: «إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع، فاعبدوا الله ولا تشركوا به، وحجوا واعتمروا،واستقيموا يستقم بكم» قال ونزلت فيهم: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} قال نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يتخلوا من الدنيا ويتركوا النساء وتزهدوا، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} قال ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال ليس في ديني ترك النساء واللحم ولا اتخاذ الصوامع» وخبرنا أن ثلاثة نفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل فلا أنام. وقال أحدهم أما أنا فأصوم النهار فلا أفطر، وقال الآخر، أما أنا فلا آتي النساء، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟-قالوا بلى يا رسول وما أردنا إلا الخير. قال-لكني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» وكان في بعض القراءة في الحرف الأول: من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل سواء السبيل.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي عبد الرحمان قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا».
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف. فقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما حقنا إن لم نحدث عملا؟ فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم. فحرم بعضهم أكل اللحم والودك وأن يأكل بالنهار. وحرم بعضهم النوم، وحرم بعضهم النساء. فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه فأتت امرأته عائشة- وكان يقال لها الحولاء- فقالت لها عائشة ومن حولها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم: ما بالك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين؟ فقالت وكيف أتطيب وأمتشط وما وقع علي زوجي ولا رفع عني ثوبا منذ كذا وكذا؟ فجعلن يضحكن من كلامها فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن فقال: «ما يضحككن؟» -قالت يا رسول الله الحولاء سألتها عن أمرها فقالت: ما رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا. فأرسل إليه فدعاه فقال: «ما بالك يا عثمان؟- قال إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة. وقص عليه أمره – وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقسمت عليك ألا رجعت فواقعت أهلك؟ فقال: يا رسول الله إني صائم – قال: أفطر- قال فأفطر وأتى أهله. فرجعت الحولاء إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيبت. فضحكت عائشة، فقالت ما بالك يا حولاء؟ فقالت إنه أتاها أمس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا} يقول لعثمان: «لا تجب نفسك فإن هذا هو الاعتداء» وأمرهم أن يكفروا إيمانهم فقال: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [المائدة: 89] الآية وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد قال: أراد رجال منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} والآية التي بعدها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما مولى أبي حذيفة وقدامة تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} الآية، فلما نزلت بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، وأن لأهلكم حقا، فصلوا وناموا، وصوموا، وافطروا فليس منا من ترك سنتنا» فقالوا: اللهم صدقنا واتبعنا ما أنزلت مع الرسول.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له، فقال لامرأته: حبست ضيفي من أجلي؟ هو حرام علي، فقالت امرأته هو علي حرام، قال الضيف هو علي حرام. فلما رأى ذلك وضع يده وقال: كلوا بسم الله. ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أصبت» فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}.
وأخرج البخاري والترمذي والدارقطني عن أبي جحيفة قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم، فنام ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا، فقاله له سلمان: إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: «صدق سلمان».
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ -قلت بلى يا رسول الله. قال – فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله – قلت أني أجد قوة – قال: فصم صيام نبي الله داود ولا تزد عليه – قلت وما كان صيام نبي الله داود؟ قال – نصف الدهر».
نقلنا هذه الأخبار والآثار من الدر المنثور وتركنا بعض الروايات في معناها. وفيما ذكرناه الموقوف والمرفوع والصحيح والضعيف، ومجموعها حجة لا نزاع فيها فإن قيل: إن المأثور عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهما وعن غيرهم من كبار الصحابة والتابعين إنهم كانوا في غاية التقشف وتعمد ترك الطيبات من الطعام والشراب وكذا اللباس الحسن، فكيف تركوا ما زعمت أنه الأفضل من إعطاء البدن حقه – كإعطاء الروح حقها – بالتمتع بالطيبات من غير إسراف؟ فالجواب أن المأثور عن أهل اليسار من الصحابة إنهم كانوا كما ذكرنا. وأهل الإقتار حالهم معلوم. والله تعالى يقول: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق:7] الآية. وأما الخلفاء الثلاثة فكانوا يتعمدون التقشف ليكونوا قدوة لعمالهم ولسائر الفقراء والضعفاء. وقد كان المفروض لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في بيت المال قدر والمفروض لأوساط المهاجرين، لا لأعلاهم كآل بيت الرسول عليه السلام ولا لأدناهم كالموالي. ولا حجة فيمن بعدهم.
فالصوفية والزهاد يتتبعون ما نقل عن بعض الصحابة والتابعين من التقشف ويزعمون أن مقتضى الدين الإسلامي أن يكون الناس كلهم كذلك. كما أن أهل السعة والترف يجمعون ما نقل عن موسري السلف من التوسع في المباحات، ويجعلونه حجة لإسرافهم. وخير الأمور الوسط، فراجع تفسير قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة: 143] والقاعدة العامة قوله تعالى في وصف خيار هذه الأمة الوسط {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواما} [الفرقان: 67].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا القطاع بجملته يتناول قضية واحدة على تعدد الموضوعات التي يتعرض لها -ويدور كله حول محور واحد.. إنه يتناول قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية.. الله هو الذي يحرم ويحلل.. والله هو الذي يحظر ويبيح.. والله هو الذي ينهى ويأمر.. ثم تتساوى المسائل كلها عند هذه القاعدة. كبيرها وصغيرها. فشئون الحياة الإنسانية بجملتها يجب أن ترد إلى هذه القاعدة دون سواها.
والذي يدعي حق التشريع أو يزاوله، فإنما يدعي حق الألوهية أو يزاوله.. وليس هذا الحق لأحد إلا لله.. وإلا فهو الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته.. والله لا يحب المعتدين.. والذي يستمد في شيء من هذا كله من عرف الناس ومقولاتهم ومصطلحاتهم، فإنما يعدل عما أنزل الله إلى الرسول.. ويخرج بهذا العدول عن الإيمان بالله ويخرج من هذا الدين.
وتبدأ كل فقرة من فقرات هذا القطاع بنداء واحد مكرر: {يا أيها الذين آمنوا}.. {يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا..}.. {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه..}.. {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب..}.. {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم..}.. {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم..}.. {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم..}..
ولهذا النداء على هذا النحو مكانه ودلالته في سياق هذا القطاع الذي يعالج قضية التشريع فيجعلها هي قضية الألوهية وقضية الإيمان، وقضية الدين.. إنه النداء بصفة الإيمان الذي معناه ومقتضاه الاعتراف بألوهية الله وحده، والاعتراف له سبحانه بالحاكمية.. فهو نداء التذكير والتقرير لأصل الإيمان وقاعدته؛ بهذه المناسبة الحاضرة في السياق. ومعه الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول؛ والتحذير من التولي والإعراض؛ والتهديد بعقاب الله الشديد، والإطماع في مغفرته ورحمته لمن أناب.
ثم.. بعد ذلك.. المفاصلة بين الذين آمنوا ومن يضل عن طريقهم، ولا يتبع منهجهم هذا في ترك قضية التشريع لله في الصغيرة والكبيرة؛ والتخلي عن الاعتداء على حق الله وسلطانه وألوهيته:
{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إلى الله مرجعكم جميعاً، فينبئكم بما كنتم تعملون}..
فهم أمة واحدة لها دينها، ولها نهجها، ولها شرعها، ولها مصدر هذا الشرع الذي لا تستمد من غيره. ولا على هذه الأمة- حين تبين للناس منهجها هذا ثم تفاصلهم عليه -من ضلال الناس، ومضيهم في جاهليتهم.
هذا هو المحور العام الذي يقوم عليه القطاع بجملته. أما الموضوعات الداخلة في إطاره فقد أشرنا إليها في التقديم لهذا الجزء إشارة مجملة. والآن نواجهها تفصيلا في حدود هذا الإطار العام:
(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون.. لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان. فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، واحفظوا أيمانكم، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون)..
يا أيها الذين آمنوا.. إن مقتضى إيمانكم ألا تزاولوا أنتم- وأنتم بشر عبيد لله -خصائص الألوهية التي يتفرد بها الله. فليس لكم أن تحرموا ما أحل الله من الطيبات؛ وليس لكم أن تمتنعوا- على وجه التحريم -عن الأكل مما رزقكم الله حلالا طيبا.. فالله هو الذي رزقكم بهذا الحلال الطيب. والذي يملك أن يقول: هذا حرام وهذا حلال:
(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا. إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا؛ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون)
إن قضية التشريع بجملتها مرتبطة بقضية الألوهية. والحق الذي ترتكن إليه الألوهية في الاختصاص بتنظيم حياة البشر، هو أن الله هو خالق هؤلاء البشر ورازقهم. فهو وحده صاحب الحق إذن في أن يحل لهم ما يشاء من رزقه وأن يحرم عليهم ما يشاء.. وهو منطق يعترف به البشر أنفسهم. فصاحب الملك هو صاحب الحق في التصرف فيه. والخارج على هذا المبدأ البديهي معتد لا شك في اعتدائه! والذين آمنوا لا يعتدون بطبيعة الحال على الله الذي هم به مؤمنون. ولا يجتمع الاعتداء على الله والايمان به في قلب واحد على الإطلاق!
هذه هي القضية التي تعرضها هاتان الآيتان في وضوح منطقي لا يجادل فيه إلا معتد.. والله لا يحب المعتدين.. وهي قضية عامة تقرر مبدأ عاما يتعلق بحق الألوهية في رقاب العباد؛ ويتعلق بمقتضى الإيمان بالله في سلوك المؤمنين في هذه القضية.. وتذكر بعض الروايات أن هاتين الآيتين والآية التي بعدهما- الخاصة بحكم الأيمان -قد نزلت في حادث خاص في حياة المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب. وإن كان السبب يزيد المعنى وضوحا ودقة:
روى ابن جرير.. أنه صلى الله عليه وسلم جلس يوما فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التخويف. فقال ناس من أصحابه: ما حقنا إن لم نحدث عملا، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم! فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والورك، وأن يأكل بالنهار؛ وحرم بعضهم النساء.. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني"؛ فنزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا... الخ.
وفي الصحيحين من رواية أنس- رضي الله عنه -شاهد بهذا الذي رواه ابن جرير:
قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته. فلما أخبروا عنها كأنهم تقالوها. قالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر:
وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
وأخرج الترمذي- بإسناده -عن ابن عباس- رضي الله عنهما -أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، فحرمت علي اللحم فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم... الآية..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والنهي إنّما هو عن تحريم ذلك على النفس. أمّا ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبّر على الحِرمان عند عدم الوجدان، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس. وكذلك الإعراض عن كثير من الطّيبات للتطلّع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد، وقد كان ذلك سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصّة من أصحابه، وهي حالة تناسب مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس، فالتطلّع إليها تعسير، وهو مع ذلك كان يتناول الطيّبات دون تشوّف ولا تطلّع. وفي تناولها شكر لله تعالى، كما ورد في قصّة أبي الدحداح حين حَلّ رسولُ الله وأبُو بكر وعمرُ في حائطه وأطعمهم وسقاهم. وعن الحسن البصري: أنّه دُعي إلى طعام ومعه فَرقد السَبَخي 43 وأصحابه فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام دجاج مسمَّن وفالَوْذ فاعتزل فرقد نَاحِية. فسأله الحسن: أصائم أنت، قال: لا ولكنّي أكره الألوان لأنّي لا أؤدّي شكره، فقال له: الحسن: أفتشرب الماءَ البارد، قال: نعم، قال: إنّ نعمةَ الله في الماءِ البارد أكثر من نعمته في الفَالَوْذ...
وفي قوله تعالى: {لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} تنبيه لفقهاء الأمّة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه، أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين) النداء موجه للذين آمنوا بوصف أنهم مؤمنون، أي أنه ليس من الإيمان أن تحرموا الطيبات التي أحلها الله تعالى من لحم طري، وسمك شهي، وشراب سائغ، وزوجات هي زهرات هذا الوجود فالطيبات هي المشتهيات الحلال، التي تستطيبها النفس ولا تمجها، فإنها بناء الجسم ومصدر قوته على الجهاد، وتطلق الطيبات على ما كان طريق كسبها حلالا لا خبث فيه، وكلمة (ما احل الله لكم) إشارة على أن الله تعالى أحلها فتحريمها معاندة لله، ويدخل فاعل ذلك ضمن من يشملهم قوله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب...116) (النحل). ومعنى تحريمها أن يأخذوا على أنفسهم ميثاقا بالا يتناولوها، فليس التحريم في معنى الترك المجرد فقد يتركها لأنه لا يستسيغها، أو يتركها لمرض أو يتركها عفوا من غير سبب، أما تركها بعهد يعهده وميثاق يأخذ نفسه به، فهذا هو التحريم...
(ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) والاعتداء له شعبتان إحداهما – تكون بالإسراف في البذخ والتعالي والتفاخر فإن ذلك يؤدي على استيلاء الشهوات على نفسه، وذلك يؤدي إلى الضلال إذ يكون عبد شهوته وتنماع إرادته ولذلك قال تعالى في آية أخرى:(...وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين 31) (الأعراف) وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كلوا واشربوا والبسوا في غير سرف ومخيلة) 510 والشعبة الثانية: أن ينحرف فيتعدى على حقوق الناس ويتناول المحرم ويتجاوز ما شرعه الله تعالى على ما لم يشرعه.
{لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم}. إنكم إن فعلتم ذلك تكونوا قد أخذتم صفة المشرع واعتديتم على حقه في أن يحلل وأن يحرم، وهذا اعتداء.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
قد يلمح الإنسان في هاتين الآيتين شيئاً من هذا الحديث الَّذي رواه المُفسرون في أسباب النزول. فقد جاءتا لتعالج هذه الظاهرة الجديدة الّتي انطلقت من حالةٍ روحيّةٍ وجدانيّة، عاشها هؤلاء المسلمون في انفعالهم بالآيات والمواعظ الّتي سمعوها من رسول الله (ص) عن القيامة وأهوالها، فاعتبروا الموقف الطبيعي لهم، أن يتركوا الدنيا بكل طيباتها وشهواتها، ويتفرغوا للآخرة بالعبادة والتجرّد عن كل النوازع والملذات، لأنَّ ذلك هو السبيل للخلاص من الأهوال والشدائد، وللتعبير عن الإخلاص لله، أي بتعذيب النفس في الدنيا وحرمانها من كل ما تشتهيه كقيمةٍ روحيّةٍ يحبها الله ورسوله. وقد يكون في هذا الحديث، لونٌ من ألوان المبالغة في تصوير حالة هؤلاء الأشخاص من الصحابة بتلك الصورة، لأنَّ السلوك العملي الَّذي كان يتمثَّل في حياة رسول الله، يُمكن أن يُعطيهم الصورة الواضحة للموقف، ولا سيّما أنَّ منهم من يملك المعرفة الشاملة في الخط الإسلامي للحياة. الإسلام يوازن بين الدنيا والآخرة إنَّنا نسجل بعض التحفظات التأمليّة في بعض هذه التفاصيل، ولكنَّنا نعتبر الحديث صورةً حيةً لهذا النموذج من الناس الذين يفهمون جانباً واحداً من الصورة، ولا يتطلعون إلى الجانب الآخر، فيسيئون فهم القضيّة كما هي في واقع التشريع، فإذا جاؤوا إلى آيات الزهد، قالوا بأنَّ الإسلام هو دين الابتعاد عن الملذات والشهوات، وإهمال الحياة بكل مظاهرها ونوازعها، وبدأوا يخططون لأسلوبٍ معين من التربية في اتجاه تذويب كل النوازع والغرائز والشهوات، وتجميدها، وتحويل الإنسان إلى شخصيّة جامدة الشعور أمام الطيبات، قاتمة الملامح أمام انفعالاتها، مغمضة العيون أمام مباهجها وزخارفها، واعتبار ذلك السلوك هو القيمة الروحيّة الأمثل لاقتراب الإنسان من رحمة الله، وهكذا يُحاول البعض أن يرى في الصورة صورة الإسلام الَّذي لا يتفق مع حيويّة الحياة. وإذا جاؤوا إلى آيات الإقبال على الحياة، والاستمتاع بطيباتها، في ما يأكل النَّاس وما يشربون أو يستمتعون به من حاجاتهم، قالوا إنَّ الإسلام دين الماديّة البعيدة عن الآفاق الروحيّة، فهو يعمل على ربط الإنسان بالدنيا في قيمها الحسيّة الماديّة، وإبعاده عن القيم المعنوية الروحيّة، ويخطط لأسلوبٍ تربوي، في اتجاه تحويل كل المعاني الروحيّة إلى وسائل مُثيرة، لإعطاء المادة لوناً من ألوان الروح، ما يؤكد ارتباط الإنسان بالمادة وإبعاده عن الروحيّة المجرّدة. وبذلك يتحوّل الإنسان إلى كائنٍ حسيٍّ باحثٍ عن الشهوات، ظامئ للذّات، بعيدٍ عن عالم التجرُّد والروح. وهكذا تمتد الصورة ليتحدث المغرضون من خلالها بأنَّ الإسلام هو دين الحسّ المادي، لا دين الروحيّة الصافية. وجاء رسول الله (ص) ليصحّح النظرة، وليوضح الفكرة من القاعدة، بأنَّ الدنيا ليست الآخرة، وأنَّ الإنسان ليس ملاكاً، وأنَّ الإسلام دينٌ للحياة بأسمى معالمها وأقدس قيمها ومثلها، ودينٌ للإنسان بأجلى مظاهر إنسانيّته، وأكمل مراتبها. وذلك من خلال خطةٍ ترسم للواقع ملامحه على صورة الرسالة، وتخطط للرسالة حركتها على أرض الواقع، ليكون الإسلام دين الحياة كما ينبغي أن تكون عليه واقعاً، لا ديناً يبرر الواقع المنحرف فيلغي رساليته في التغيير، ولا يحوّل الرسالة إلى فكرةٍ تعيش في نطاق التجريد والخيال. فالإنسان بشر، يعيش في الدنيا، وللبشرية حاجاتها، وللدنيا وسائلها، فلا بُدَّ من أن ينام الجسد، لتكون اليقظة حيّةً فاعلة، ولا بُدَّ من أن يأكل ويشرب ويلبس ويستمتع، لتستمر الحياة من خلال مقوّماتها الضروريّة وغير الضروريّة، والإنسان بعد ذلك بشر في روح الرسالة، فلا بُدَّ له من أن يعيش الصَّلاة والصوم والحجّ والعُمرة والجهاد والابتهال إلى الله، ولا بُدَّ له من أن يواجه هذه القضايا الّتي تتعامل معه من مواقع روحيّته بوسائلها الّتي لا تجعل الآخرة تتنكر للدنيا، ولا تجعل الملاك يبتعد عن آفاق البشر. الاستقامة أن تأخذ بجوانب الرفعة والإلزام واعتبر ذلك خطاً من خطوط الاستقامة الّتي تأخذ بجوانب الرخصة، كما تلتزم بجوانب الإلزام، لأنَّ للرخص الّتي شرّعها الإسلام دوراً كبيراً في بناء الشخصيّة واستقامة الطريق، تماماً كما هي الأمور الإلزاميّة في جانب الواجب والحرام. فإذا حرّم الإنسان على نفسه شيئاً رخصه الله في فعله، فإنَّ ذلك قد يترك في الشخصيّة آثاراً سلبيّةً تشوّه الصورة في ملامحها العامة، سواءٌ في ما توحيه من أفكار أو في ما تفرضه من مواقف وعلاقات ومشاعر، فالإنسان الَّذي يعتبر رفض الطيبات قيمةً روحيّةً كبيرةً، سيجد في النَّاس الَّذين يقبلون عليها بحدودها الشرعيّة، أُناساً في المستوى المنخفض للقيمة الإسلاميّة، وسيتعامل مع الأشخاص الَّذين يرتبط معهم بعلاقاتٍ اجتماعيّةٍ ذات مسؤولياتٍ معيّنة، بطريقةٍ بعيدةٍ عن خط المسؤوليّة، كما هو الحال في النَّاس الَّذين يهملون علاقاتهم الزوجيّة والأسريّة والاجتماعيّة عندما يسيرون في خط ما يعتبرونه الصورة الحقيقيّة لمفهوم الزهد في الإسلام.
وقد نلاحظ في الحديث عن السبب في هلاك الأمم السالفة، في الكلمات الّتي يختم بها النبيّ (ص) حديثه، أنَّ التشديد الَّذي كان لوناً من ألوان الفهم الخاطئ للخط الرسالي الَّذي جاءت به الرسالات الإلهيّة، هو السبب في تشديد الله عليهم، كعقوبة دنيويّة تعرِّفهم نتائج الانحراف في الدنيا من خلال طبيعة العلم الَّذي يفرضه الانحراف، لتوحي لهم بأنَّ الله لا يريد للإنسان أن يعذِّب نفسه ويشدد عليها بوسائل التشديد، لأنَّه لا يعتبر ذلك فضيلة دينيّة إلاَّ من خلال الخط الكبير. لا تحرّموا طيبات ما أحل الله وفي ضوء ذلك كلّه، جاءت الآية الأولى لتنهى المؤمنين عن تحريم الطيبات الّتي أحلّها الله لهم، {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} وذلك بالامتناع عن ممارستها، بحجّة أنَّ تركها يُمثِّل وسيلة من وسائل رضا الله، ويوحي بأنَّ ذلك يُمثِّل لوناً من ألوان الاعتداء على حدود الله الّتي رسمها لعباده لتسير حياتهم عليها، ولترتبط قضاياهم بها، فإذا تجاوزوها، كان ذلك اعتداءً عليها وعلى الحياة، لأنَّ ذلك ينحرف بالخطة الحكيمة عن مسارها الطبيعي ويُسيء إلى الناس وإلى حياتهم في نهاية المطاف، وقد يكون في ذلك اعتداء على الله، في ما أراده من التحرّك في تطبيق التشريع على أساس حقِّه على النَّاس في الالتزام به كما ينبغي له. {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وقد يُفسِّر البعض معنى الاعتداء، بتجاوز حدود الاعتدال في ممارسة الطيبات، فلا يتخذ النهي عن تحريم الطيبات أساساً للانكباب على متع الحياة الدنيا بطريقةٍ متطرفة، لأنَّ ذلك يُساوي التطرّف في الترك الَّذي لا يوافق عليه الإسلام في تشريعه وتخطيطه للحياة. وقد يكون هذا المعنى معقولاً كما هو، ولكنَّه ليس قريباً إلى ظاهر الآية كما يقول صاحب تفسير الميزان [2]. ولعلّ الوجه في ذلك هو أنَّ الآية جاءت في مقام تقرير المبدأ في موضوع تحريم الطيبات، وليست في مقام الدخول في كميّة ممارسة الإنسان من الاستمتاع بالطيبات، فهي تُريد أن تُقرر أنَّ مثل هذا التحريم يُمثل لوناً من ألوان الاعتداء على حدود الله، تماماً كما هي الآيات الكريمة الّتي تجري مجرى هذه الآية في هذه الجهة، كقوله تعالى في ذيل آية البقرة: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] وفي ذيل آيات الإرث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 13 14]. ويقول صاحب الميزان في التعقيب على هذه الآيات: «والآيات كما ترى تعد الاستقامة والالتزام بما شرّعه الله، طاعةً له تعالى ولرسوله ممدوحة، والخروج عن التسليم والالتزام والانقياد اعتداءً وتعدِّياً لحدود الله، مذموماً معاقباً عليه». وإذا كان الله لا يُحبُّ المعتدين، فإنَّ على المؤمن أن يتلمّس في تفكيره وسلوكه مواقع الانسجام مع خط الله والانطلاق في طاعته، ومواقع الاعتداء على حدود الله والسير في خط معصيته في كل موقع من مواقع الحياة، لأنَّ المؤمن يعمل دائماً من أجل الحصول على محبة الله ورضاه، فلا يطيق في أي حال أن يعيش بعيداً عن ذلك مع النَّاس الَّذين لا يُحبُّهم الله.