الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

قوله تعالى : { يا أيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ . . . } [ المائدة :87 ] .

قال ابن عباس ، وغيره : نزلَتْ بسبب جماعةٍ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلغَتْ منهم المواعظ ، وخوفُ اللَّه تعالى إلى أنْ حرَّم بعضهم النساء ، وبعضُهم النوْمَ بالليلِ ، والطِّيبَ ، وهَمَّ بعضهم بالاختصاءِ ، فبلَغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( أَمَّا أنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ ، وآتِي النِّسَاءَ ، وَأَنَالُ الطِّيبَ ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي ، فَلَيْسَ مِنِّي ) ، قال الطبريُّ : كان فيما يتلى : ( مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِكَ ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِكَ ، وَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) ، والطيباتُ في هذه الآية : المستلَذَّات ، بدليل إضافتها إلى ما أحلَّ اللَّه ، وبقرينة ما ذُكِرَ من سبب الآية .

وقوله سبحانه : { وَلاَ تَعْتَدُواْ } ، قال عكرمة وغيره : معناه في تحريم ما أحلَّ اللَّه ، وقال الحسنُ بنُ أبي الحَسَنِ : المعنى { ولا تعتدُوا } ، فَتُحِلُّوا ما حرَّم اللَّه ، فالنهْيَان على هذا تضمَّنا الطرفَيْن ، كأنه قال : لا تشدِّدوا ، فتحرِّموا حلالاً ، ولا تترخَّصوا ، فتحلُّوا حراماً ، قلتُ : وروى مالكٌ في «الموطأ » ، عن أبي النَّضْر ، قال : قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، ( لَمَّا ماتَ عثمانُ بْنُ مظعونٍ ، ومرَّ بجَنَازَتِهِ : ( ذَهَبْتَ ، وَلَمْ تَلْتَبِسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ ) . قال أبو عمر في «التمهيد » : هذا الحديثُ في «الموطأ » مقطوعٌ ، وقد رُوِّينَاه متصلاً مُسْنَداً من وجه صالحٍ حسن ، ثم أسند أبو عمر ( عن عائشةَ ، قالَتْ : ( لمَّا ماتَ عُثْمَانُ بنُ مظعونٍ ، كشف النبيُّ صلى الله عليه وسلم الثَّوْبَ عن وجْهِهِ ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وبكى بُكَاءً طويلاً ، فلما رُفِعَ عَلَى السَّرِيرِ ، قَالَ : طوبى لَكَ يَا عُثْمَان ، لَمْ تَلْبَسْكَ الدُّنْيَا وَلَمْ تَلْبَسْهَا ) . قال أبو عمر : كان عثمانُ بنُ مظعونٍ أحد الفُضَلاء العُبَّاد الزاهدين في الدنْيَا من أصْحَاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المتبتِّلين منهم ، وقد كان هو وعليُّ بن أبي طالب هَمَّا أنْ يترهَّبا ويَتْرُكَا النساء ، ويُقْبِلا على العبادة ، ويحرِّما طيِّباتِ الطعامِ على أنفسهما ، فنزلَتْ : { يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ . . . } الآية ، ونقل هذا مَعْمَرٌ وغيره عن قتادة ، انتهى .