فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

{ يا أيها الذين ءامنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الطبيات هي المستلذات مما أحله الله لعباده ، نهى الذين آمنوا أن يحرموا على أنفسهم شيئا منها إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقربا إليه ، وأنه من الزهد في الدنيا وقمع النفس عن شهواتها أو لقصد أن يحرموا على أنفسهم شيئا مما أحله لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم حرام علي وحرمته على نفسي ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني .

قال ابن جرير : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحله الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون ، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون إذ كان خير الهدى هدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

فإذا كان ذلك كذلك تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله ، وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء ، قال فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة فقد ظن خطأ ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها ، ولا شيء أضر على الجسم من المطاعم الرديئة لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته انتهى .

{ ولا تعتدوا } على الله بتحريم طيبات ما أحل لكم أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله عليكم أي تترخصوا فتحلوا حراما كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال ، وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرم على نفسه شيئا مما أحله الله له فلا يحرم عليه ولا تلزمه كفارة .

وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما : أن من حرم شيئا صار محرما عليه وإذا تناوله لزمته الكفارة وهو خلاف ما في هذه الآية وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله تعالى ، وظاهرة تحريم كل اعتداء أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور .

أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أني إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوة وأني حرمت علي اللحم فنزلت هذه الآية وأخرجه الترمذي وقال حسن غريب .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال : نزلت في رهط من الصحابة قالوا نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسبح في الأرض كما يفعل الرهبان ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني ) {[658]} .

وقد ثبت نحو هذا في الصحيحين وغيرهما من دون ذكر أن ذلك سبب نزول الآية ، وفي الباب روايات كثيرة بهذا المعنى وكثير منها مصرح بأن ذلك سبب نزول الآية { إن الله لا يحب المعتدين } أي المجاوزين الحلال إلى الحرام .


[658]:ابن كثير 2/ 85-86.