فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَٰتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (87)

الطيبات : هي المستلذات لما أحلّه الله لعباده ، نهى الذين آمنوا عن أن يحرّموا على أنفسهم شيئاً منهم ، إما لظنهم أن في ذلك طاعة لله وتقرّباً إليه ، وأنه من الزهد في الدنيا لرفع النفس عن شهواتها ، أو لقصد أن يحرّموا على أنفسهم شيئاً مما أحلّه لهم كما يقع من كثير من العوام من قولهم : حرام عليّ ، وحرّمته على نفسي ، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدخل تحت هذا النهي القرآني . قال ابن جرير الطبري : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحلّ الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ، ولذلك ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون .

فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده ، وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب الله عباده إليه ، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسَنَّه لأمته ، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون ، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . فإذا كان ذلك كذلك ، تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على لباس ذلك من حله ، وآثر أكل الخشن من الطعام ، وترك اللحم ، وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء . قال : فإن ظن ظانّ أن الفضل في غير الذي قلنا لِما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل بينهما من القيمة إلى أهل الحاجة ، فقد ظنّ خطأ ، وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها ، ولا شيء أضرّ للجسم من المطاعم الردية ، لأنها مفسدة لعقله ، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته .

قوله : { وَلاَ تَعْتَدُواْ } أي لا تعتدوا على الله بتحريم طيبات ما أحلّ الله لكم ، أو لا تعتدوا فتحلوا ما حرّم الله عليكم أي تترخصوا فتحللوا حراماً كما نهيتم عن التشديد على أنفسكم بتحريم الحلال . وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن من حرّم على نفسه شيئاً مما أحله الله له فلا يحرم عليه ولا يلزمه كفارة . وقال أبو حنيفة وأحمد ومن تابعهما : إن من حرّم شيئاً صار محرّماً عليه ، وإذا تناوله لزمته الكفارة ، وهو خلاف ما في هذه الآية ، وخلاف ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، ولعله يأتي في سورة التحريم ما هو أبسط من هذا إن شاء الله . وقوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } تعليل لما قبله ، وظاهره أن تحريم كل اعتداء : أي مجاوزة لما شرعه الله في كل أمر من الأمور .

/خ88