وقوله تعالى :{ لنفتنهم فيه } أي : لنختبرهم كيف شكرهم فيما خولوا . وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل والحسن . وقال آخرون : معناه وأن لو استقاموا على طريقة الكفر والضلالة لأعطيناهم مالاً كثيراً ، ولوسعنا عليهم لنفتنهم فيه ، عقوبةً لهم واستدراجاً حتى يفتتنوا بها فنعذبهم ، وهذا قول الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان ، كما قال الله : { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء } الآية ( الأنعام- 44 ) . { ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه } قرأ أهل الكوفة ويعقوب : { يسلكه } بالياء وقرأ الآخرون بالنون ، أي : ندخله ، { عذاباً صعداً } قال ابن عباس : شاقاً ، والمعى ذا صعد ، أي : ذا مشقة . قال قتادة : لا راحة فيه . وقال مقاتل : لا فرح فيه . قال الحسن : لا يزداد إلا شدة . والأصل فيه أن الصعود يشق على الإنسان .
لنفتنهم فيه لنختبرهم كيف يشكرونه وقيل معناه أن لو استقام الجن على طريقتهم القديمة ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفرانهم ومن يعرض عن ذكر ربه عن عبادته أو موعظته أو وحيه يسلكه يدخله وقرأ غير الكوفيين بالنون عذابا صعدا شاقا يعلو المعذب ويغلبه مصدر وصف به .
وجملة { لِنَفْتِنَهم فيه } إدماج فهي معترضة بين جملة { وأن لو استقاموا على الطريقة } الخ وبين جملة { ومن يعرض عن ذكر ربّه } الخ .
ثم أكدت الكناية عن الإِنذار المأخوذة من قوله : { وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم } الآية ، بصريح الإِنذار بقوله : { ومن يعرض عن ذكر ربّه نسلكه عذاباً صعداً } ، أي فإن أعرضوا انقلب حالهم إلى العذاب فسلكنا بهم مسالك العذاب .
والسَّلك : حقيقته الإِدخال ، وفعله قاصر ومتعد ، يقال : سلكه فسلك ، قال الأعشى :
كما سَلكَ السِّكيَّ في الباب فَيْتق
أي أدخل المِسمار في الباب نَجَّارٌ .
وتقدم عند قوله تعالى : { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين } في سورة الحجر ( 12 ) .
واستعمل السَلك هنا في معنى شدة وقوع الفعل على طريق الاستعارة وهي استعارة عزيزة . والمعنى : نعذبه عذاباً لا مصرف عنه .
وانتصب { عذاباً } على نزع الخافض وهو حرف الظرفية ، وهي ظرفية مجازية تدل على أن العذاب إذا حلّ به يحيط به إحاطة الظرف بالمظروف .
والعدول عن الإِضمار إلى الإِظهار في قوله : { عن ذكر ربّه } دون أن يقول : عن ذكرنا ، أو عن ذكري ، لاقتضاء الحال الإِيماءَ إلى وجه بناء الخبر فإن المعرض عن ربّه الذي خلقه وأنشأه ودبره حقيق بأن يسلك عذاباً صعداً .
والصّعَد : الشاق الغالِبُ ، وكأنه جاءٍ من مصدر صَعد ، كفرح إذا علا وارتفع ، أي صَعِد على مفعوله وغلبه ، كما يقال : عَلاَه بمعنى تمكن منه ، { وأن لا تعلوا على الله } [ الدخان : 19 ] .
وقرأ الجمهور { نسلكه } بنون العظمة ففيه التفات . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف { يسلكه } بياء الغائب فالضمير المستتر يعود إلى ربّه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لنفتنهم فيه} يقول لكي نبتليهم فيه بالخصب، والخير،
{يسلكه عذابا صعدا} يعني شدة العذاب الذي لا راحة له فيه.
قال مالك: عن زيد بن أسلم: {لنفتنهم} لنبتليهم من يستمر على الهداية ممن يستمر على الغواية.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابا صَعَدا "يقول عزّ وجل: ومن يُعرض عن ذكر ربه الذي ذكره به، وهو هذا القرآن، ومعناه: ومن يعرض عن استماع القرآن واستعماله، يسلكه الله عذابا صعدا: يقول: يسلكه الله عذابا شديدا شاقا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لنفتنهم فيه} فالفتنة المحنة التي فيها الشدة؛ فإن كان هذا في أهل الكفر ففي بسط الرزق عليهم محنة شديدة لأن ذلك يمنعهم عن الخضوع والانقياد لرسوله الله صلى الله عليه وسلم لما يرون من الفضل على من دونهم في المال والسعة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون} [سبأ: 34].
{ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا}... والإعراض ههنا عبارة عن الإيثار والاختيار، أي من يختر غير ذكر الله تعالى على ما ذكره أو طاعة غيره على طاعته.
{يسلكه عذابا صعدا} على التحقيق كما ذكره أهل التفسير أنهم يكلفون الصعود على جبل من نار، لا يقدرون إلا بعد شدة عظيمة، ثم إذا بلغوا أعلاها يهوون فيها. فذلك دأبهم.
وجائز أن يكون على التمثيل، وذلك لأن الصعود أشد من الهبوط، فيكون الصعود عبارة عن المشقة ههنا: أن يستقبله ما يشق عليه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {عَن ذِكْرِ رَبِّهِ} عن عبادته أو عن موعظته أو عن وحيه {يَسْلُكْهُ} وقرئ بالنون مضمومة ومفتوحة، أي: ندخله {عَذَاباً} والأصل: نسلكه في عذاب، كقوله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42]
والصعد: مصدر صعد، فوصف به العذاب، لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت نعمه فضلاً منه وليس مستحقة عليه بعبادة ولا غيرها، قال تعالى معرفاً أن غايتها استحقاق الثواب أو العقاب على ما كتبه على نفسه سبحانه ولا يبدل القول لديه وأن جميع ما يعامل به عباده سبحانه وتعالى من نفع وضر إنما هو فتنة لهم يستخرج ما جبلوا عليه من حسن أو قبيح: {لنفتنهم} أي نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة {فيه} أي في ذلك الماء الذي تكون عنه أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر.
ولما كان التقدير: فمن يقبل على ذكر ربه ننعمه في دار السلام أبداً، عطف عليه قوله: {ومن يعرض} أي إعراضاً مستمراً إلى الموت {عن ذكر ربه} أي مجاوزاً عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره {نسلكه} أي ندخله {عذاباً} يكون مطرفاً له كالخيط يكون في ثقب الخرزة في غاية الضيق {صعداً} أي شاقاً شديداً يعلوه ويغلبه ويصعد عليه، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقاً، فإن الإعراض كلما تمادى زمانه كان أقوى مما كان.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 16]
وإلى هنا كان الوحي يحكي قول الجن بألفاظهم المباشرة عن أنفسهم؛ ثم عدل عن هذا النسق إلى تلخيص مقالة لهم عن فعل الله مع الذين يستقيمون على الطريقة إليه، وذكرها بفحواها لا بألفاظها: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه، ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا).. يقول الله -سبحانه- إنه كان من مقالة الجن عنا: ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماءا موفورا نغدقه عليهم، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء.. (لنفتنهم فيه).. ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون. وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة، يزيد مدلولها توكيدا بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى الله سبحانه. ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني، لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها. وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن، وتصوره عن مجريات الأمور وارتباطاتها. والحقيقة الأولى: هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه؛ وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه. وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة. وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء. ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية.. وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة. وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف، حتى استقاموا على الطريقة، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا. وما يزالون في نكد وشظف، حتى يفيئوا إلى الطريقة، فيتحقق فيهم وعد الله. والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية: هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة. ونبلوكم بالشر والخير فتنة. والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأندر من الصبر على الشدة! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى.. فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها، بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة؛ ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره. فأما الرخاء فينسي ويلهي، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس، ويهيئ الفرصة للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان! إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة.. نعمة المال والرزق كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر، مع السرف أو مع البخل، وكلاهما آفة للنفس والحياة... ونعمة القوة كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر مع الطغيان والجور، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس، والتهجم على حرمات الله.. ونعمة الجمال كثيرا ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية.. ونعمة الذكاء كثيرا ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين.. وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله.. والحقيقة الثالثة إن الإعراض عن ذكر الله، الذي قد تنتهي إليه فتنة الابتلاء بالرخاء، مؤد إلى عذاب الله. والنص يذكر صفة للعذاب (يسلكه عذابا صعدا).. توحي بالمشقة مذ كان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد. وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد. فجاء في موضع: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. وجاء في موضع: سأرهقه صعودا. وهي حقيقة مادية معروفة. والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء!
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(لنفتنهم) هل أنّ كثرة النعم تتسبب في غرورهم وغفلتهم؟ أم أنّها تجعلهم يفيقون ويشكرون ويتوجهون أكثر من ذي قبل إلى اللّه؟
ومن هنا يتّضح أن وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمّة في الامتحان الإلهي، وما يُتفق عليه هو أنّ الاختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيداً من الاختبار بالعذاب، لأنّ طبيعة ازدياد النعم هو الانحلال والكسل والغفلة، والغرق في الملذات والشهوات، وهذا ما يُبعد الإنسان عن اللّه تعالى ويهيئ الأجواء لمكائد الشيطان، والذين يستطيعون أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هم الذاكرون للّه على كلّ حال، غير الناسين له تعالى، حيث يحفظون قلوبهم بالذكر من نفوذ الشياطين.
ولذا يضيف تعقيباً على ذلك: (ومن يعرض عن ذكر ربّه يسلكه عذاباً صعداً).
«صعد»: وتعني الصعود إلى الأعلى، وأحياناً الشِعب المتعرجة في الجبل، وبما أنّ الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق، فإنّ هذه اللفظة تستعمل بمعنى الأُمور الشّاقة، وفسّرها الكثير بمعنى العذاب الشّاق، وهو مماثل لما جاء في الآية (17) من سورة المدّثر حول بعض المشركين: (سأُرهقه صعوداً).
ولكن، أنّه مع أنّ التعبير أعلاه يبيّن كون هذا العذاب شاقّاً شديداً فإنّه يحتمل أن يشير إلى اليوم الطويل، وعلى هذا الأساس فإنّه يبيّن في الآيات أعلاه رابطة الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة، رابطة كثرة النعم بالاختبارات الإلهية من جهة أُخرى ورابطة الإعراض عن ذكر اللّه تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة ثالثة، وهذه حقائق أشير إليها في الآيات القرآنية الأُخرى كما نقرأ في الآية (124) من سورة طه: (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً).
وكذا في الآية (40) من سورة النمل عن لسان سليمان (عليه السلام): (هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر)، وما جاء في الآية (28) من سورة الأنفال: (واعلموا أنّما أموالكم وأولادكم فتنة).