الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

{ لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } لنختبرهم كيف شكرهم فيما خوّلوا وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء بن رياح والضحاك وقتادة وعبيد بن عمير وعطية ومقاتل والحسن ، قال : كان والله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين لله مطيعين فتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ، ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه يعني عثمان بن عفان .

ودليل هذا التأويل قوله سبحانه وتعالى :

{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [ المائدة : 66 ] وقوله سبحانه :

{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } [ الأعراف : 96 ] وقوله تعالى :

{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 ] وقوله تعالى :

{ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } [ نوح : 10-11 ] الآيات .

وقال آخرون : معناها وأن لو استقاموا على طريقة الكفر والضلالة وكانوا كفّاراً كلهم لأعطيناهم مالا كثيراً ولوسّعنا عليهم لنفتنهم فيه عقوبة لهم واستدراجاً ، حتّى يفتنوا فيعذبهم . وهذا قول الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وابن مجلد ، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه :

{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 44 ] .

وقوله سبحانه وتعالى :

{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ } [ الزخرف : 33 ] . وقوله سبحانه :

{ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ } [ الشورى : 27 ] .

وقوله سبحانه وتعالى :

{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } [ العلق : 6-7 ] .

{ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ } قرأ أهل الكوفة ويعقوب وأيوب بالياء وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد . وقرأ مسلم بن جندب : نُسلكه بضم النون وكسر اللام . وقرأ الآخرون بفتح النون وضم اللام وهما لغتان سلك واسلك بمعنى واحد أي يدخله .

{ عَذَاباً صَعَداً } قال ابن عباس : شاقاً . السدي : مشقة . قتادة : لا راحة فيه . مقاتل : لا فرج فيه . الحسن : لا يزداد إلاّ شدّة .

ابن زيد : متعباً . والأصل فيه أن الصعود يشقّ على الإنسان ، ومنه قول عمر : ما تصعدني شيء ما تصعد في خطبة النكاح ، أي ما شقّ عليّ . وقال عكرمة : هو جبل في النار . وقال الكلبي : يكلّف الوليد بن المغيرة أن يصعد في النار جبلا من صخرة ملساء حتّى يبلغ أعلاها يجذب من أمامه بالسلاسل ، ويضرب بمقامع الحديد حتّى يبلغ أعلاها ولا يبلغه في أربعين سنة ، فإذا بلغ أعلاها أجر إلى أسفلها ، ثمّ يكلف أيضاً صعودها فذلك دأبه أبداً ، وهو قوله :

{ سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [ المدثر : 17 ] .