اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِّنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَمَن يُعۡرِضۡ عَن ذِكۡرِ رَبِّهِۦ يَسۡلُكۡهُ عَذَابٗا صَعَدٗا} (17)

ومعنى : { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي : لنختبرهم هل يقومون بشكرها أم لا ، وإن قلنا : إنَّ الضمير يعود على الإنس فالاحتمالان كما هما .

قوله : { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ، دليلٌ على أنه تبارك وتعالى يضل عباده . وأجاب المعتزلة ، بأنَّ الفتنة هي الاختبار ، كما يقال : فتنت الذهب بالنار لا خلق الضلالة .

واستدلت المعتزلة بقوله تعالى { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } على أنه تعالى إنما يفعل لغرض .

وأجيبوا : بأن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلَّت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله تبارك وتعالى .

فصل في التحذير من الدنيا

روى مسلمُ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أخْوفُ ما أخَافُ عليْكمْ ما يُخْرجُ اللَّهُ لكم مِنْ زهرةِ الدُّنيَا " قالوا : ومَا زَهْرةُ الدُّنيَا ؟ .

قال : " بَركَاتُ الأرْضِ " {[58167]} . وذكر الحديث »

وقال - عليه الصلاة والسلام - : «فواللَّهِ مَا الفَقْرَ أخْشَى عليْكُم ، وإنَّما أخْشَى علَيكُمْ أنْ يبسِطَ اللَّهُ عَليكُم الدُّنْيَا فتَنَافَسُوا فيها كما تَنَافَسَ فِيهَا مَنْ كَانَ قَبلكُمْ ، فيُهلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَهُمْ » . {[58168]}

قوله : { وَمَن يُعِرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } ، أي : عن عبادته ، أو عن موعظته ، أو عن وحيه .

وقال ابن زيدٍ : يعني القرآن{[58169]} ، وفي إعراضه وجهان :

الأول : عن القبول إن قيل إنها في الكفار والثاني عن العمل ، إن قيل إنَّها في أهل الإيمان .

وقيل : { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } ، أي : لم يشكره .

قوله : { يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } .

قرأ الكوفيون{[58170]} : «يَسْلكْهُ » - بياء الغيبة - لإعادة الضمير على الله تعالى ، وباقي السبعة : بنون العظمة على الالتفات .

وهذا كما تقدم في قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } ، ثم قال : { بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا } [ الإسراء : 1 ] .

وقرأ مسلم بن جندب{[58171]} : «نسلكه » بنون العظمة مضمومة من «أسلكه » . وبعضهم{[58172]} : بالياء من تحت مضمومة ، وهما لغتان ، يقال : سلكه وأسلكه .

وأنشد : [ البسيط ]

4911 - حَتَّى إذَا أسْلكُوهُم فِي قَتائِدَةٍ{[58173]} *** . . .

و «سلك ، وأسلك » يجوز أن يكونا فيهما ضُمِّنا معنى الإدخال ، فلذلك يتعديان لاثنين ويجوز أن يقال : يتعديان إلى أحد المفعولين ، بإسقاط الخافض ، كقوله تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ } [ الأعراف : 155 ] .

فالمعنى : ندخله عذاباً ، أو نسلكه في عذابٍ ، هذا إذا قلنا : إن «صَعَداً » مصدر .

قال الزمخشريُّ : يقال : صَعَداً وصُعُوداً ، فوصف به العذاب لأنه يتصعد للمعذب ، أي : يعلوه ، ويغلبه ، فلا يطيقه ، ومنه قول عمر - رضي الله عنه - : ما تصعد شيء ما تصعدتني خطبةُ النِّكاح يقول : ما شقَّ عليَّ ، ولا غلبني .

وأما إذا جعلناه اسماً لصخرة في جهنم ، كما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره ، فيجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون «صعداً » مفعولاً به أي «يسلكه » في هذا الموضع ويكون «عذاباً » مفعولاً من أجله .

الثاني : أن يكون «عذاباً » مفعولاً ثانياً كما تقدم ، و «صعداً » بدلاً من عذاباً ، ولكن على حذف مضاف أي : عذاب صعد ، وقرأ العامة بفتحتين ، وقرأ ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين ، وهو صفة تقتضي المبالغة كحُطَم ولُبَد ، وقرئ بضمتينِ وهو وصف أيضاً ك «جُنُب » و «شُلُل » .

فصل

ومعنى عذاباً صعداً : أي شاقاً شديداً .

[ وقيل عن ابن عباس : ] هو جبل في جهنم{[58174]} ، قال الخدريُّ : كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت{[58175]} .

وعن ابن عباس : إن المعنى مشقّة من العذاب{[58176]} ، لأن الصعد في اللغة هو المشقة ، تقول : تصعدني الأمر إذا شقَّ عليك ، ومنه قول عمر المتقدم ، والمشي في الصعود يشق ، وصعود العقبة الكئودِ .

وقال عكرمةُ : هي صخرة في جهنم ملساء يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم .

وقال : يكُلَّفُ الوليدُ بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرةٍ ملساءَ يجذب من أمامه بسلاسل ، ويضرب من خلفه بمقامع ، حتَّى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلف صعودها ، فذلك دأبه أبداً ، وهو قوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [ المدثر : 17 ] .


[58167]:أخرجه مسلم (2/728) من حديث أبي سعيد الخدري.
[58168]:أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (2/539).
[58169]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (6/118) والقرطبي (19/214).
[58170]:ينظر: السبعة 656، والحجة 6/332-333، وإعراب القراءات 2/401، وحجة القراءات 729.
[58171]:ينظر: البحر المحيط 8/345، والدر المصون 6/395.
[58172]:ينظر: المحرر الوجيز 5/383، والبحر المحيط 8/345، والدر المصون 6/395.
[58173]:تقدم.
[58174]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/270) والحاكم (2/504) من طريق عكرمة عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/436) وزاد نسبته إلى هناد وعبد بن حميد وابن المنذر.
[58175]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/14).
[58176]:ينظر المصدر السابق.