قوله تعالى : { ويسبح الرعد بحمده } ، أكثر المفسرين على أن الرعد اسم ملك يسوق السحاب ، والصوت المسموع منه تسبيحه . قال ابن عباس : من سمع صوت الرعد فقال : سبحان الذي يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير ، فإن أصابته صاعقة فعلي ديته . وعن عبد الله بن الزبير : أنه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث . وقال : سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته . ويقول إن هذا لوعيد لأهل الأرض شديد . وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى : { لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولم أسمعهم صوت الرعد } وقال جوبير عن الضحاك عن ابن عباس : الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر ، وأن بحور الماء في نقرة إبهامه ، وأنه يسبح الله تعالى ، فإذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر . { والملائكة من خيفته } ، أي : تسبح الملائكة من خيفة الله عز وجل وخشيته . وقيل أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد ، جعل الله تعالى له أعوانا ، فهم خائفون خاضعون طائعون . قوله تعالى : { ويرسل الصواعق } ، جمع صاعقة ، وهي : العذاب المهلك ، ينزل من البرق فيحرق من يصيبه ، { فيصيب بها من يشاء } ، كما أصاب أربد بن ربيعة . وقال محمد بن علي الباقر : الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر . { وهم يجادلون } ، يخاصمون ، { في الله } ، نزلت في شأن أربد بن ربيعة حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم مم ربك ؟ أمن در أم من ياقوت أم من ذهب ؟ فنزلت صاعقة من السماء فأحرقته . وسئل الحسن عن قوله عز وجل : { يرسل الصواعق } الآية ، قال : كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله وإلى رسوله . فقال لهم : أخبروني عن رب محمد هذا الذي تدعونني إليه مم هو ؟ من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس ؟ فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه ! فقال : ارجعوا إليه ، فرجعوا إليه ، فجل يزيدهم على مثل مقالته الأولى ، وقال أأجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه ؟ فانصرفوا وقالوا : يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى وأخبث . فقال ارجعوا إليه ، فرجعوا ، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه ، وهو يقول هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة ، فكانت فوق رؤوسهم ، فرعدت وبرقت ، ورمت بصاعقة ، فاحترق الكافر ، وهم جلوس ، فجاؤوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستقبلهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا لهم : احترق صاحبكم ، فقالوا : من أين علمتم فقالوا أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم : { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله } . { وهو شديد المحال } ، قال علي رضي الله عنه : شديد الأخذ . وقال ابن عباس : شديد الحول . وقال الحسن : شديد الحقد وقال مجاهد : شديد القوة . وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة . وقيل : شديد المكر . والمحال والمماحلة : المماكرة والمغالبة .
{ ويسبّح الرعد } ويسبح سامعوه . { بحمده } ملتبسين به فيضجون بسبحان الله والحمد لله ، أو يدل الرعد بنفسه على وحدانية الله وكمال قدرته ملتبسا بالدلالة على فضله ونزول رحمته . وعن ابن عباس رضي الله عنهما . سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال : " ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب " . { والملائكة من خيفته } من خوف الله تعالى وإجلاله وقيل الضمير ل { الرعد } . { ويُرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء } فيهلكه . { وهم يجادلون في الله } حيث يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس ومجازاتهم ، والجدال التشدد في الخصومة من الجدل وهو الفتل ، والواو إما لعطف الجملة على الجملة أو للحال فإنه روي أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدين لقتله ، فأخذه عامر بالمجادلة ودار أربد من خلفه ليضربه بالسيف ، فتنبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله على أربد صاعقة فقتلته ، ورمى عامرا بغدة فمات في بيت سلولية ، وكان يقول غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية ، فنزلت . { وهو شديد المِحال } الممالحة المكايدة لأعدائه ، من محل فلان بفلان إذا كايده وعرضه للهلاك ، ومنه تمحل إذا تكلف استعمال الحيلة ، ولعل أصله المحل بمعنى القحط . وقيل فعال من المحل بمعنى القوة . وقيل مفعل من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس ويعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال ، ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلا في القوة والقدرة كقولهم : فساعد الله أشد و موساه أحد .
جعل البرق آية نذارة وبشارة معاً لأنهم كانوا يَسِمون البرق فيتوسمون الغيث وكانوا يخشون صواعقه .
وإنشاء السحاب : تكوينه من عدم بإثارة الأبْخرة التي تتجمع سحاباً .
والسحاب : اسم جمع لسحابة . والثقال : جمع ثقيلة . والثقل كون الجسم أكثر كمية أجزاء من أمثاله ، فالثقل أمر نسبي يختلف باختلاف أنواع الأجسام ، فرب شيء يعد ثقيلاً في نوعه وهو خفيف بالنسبة لنوع آخر . والسحاب يكون ثقيلاً بمقدار ما في خلاله من البخار . وعلامة ثقله قربه من الأرض وبطء تنقله بالرياح . والخفيف منه يُسمى جهاماً .
وعطف الرعد على ذكر البرق والسحاب لأنه مقارنهما في كثير من الأحوال .
ولما كان الرعد صوتاً عظيماً جعل ذكره عبرة للسامعين لدلالة الرعد بلوازم عقلية على أن الله منزه عما يقوله المشركون من ادعاء الشركاء ، وكان شأن تلك الدلالة أن تبعث الناظر فيها على تنزيه الله عن الشريك جعل صوت الرعد دليلاً على تنزيه الله تعالى ، فإسناد التسبيح إلى الرعد مجاز عقلي . ولك أن تجعله استعارة مكنية بأن شبه الرعد بآدمي يُسبح الله تعالى ، وأثبت شيء من علائق المشبّه به وهو التسبيح ، أي قول سبحان الله .
والباء في { بحمده } للملابسة ، أي ينزه الله تنزيهاً ملابساً لحمده من حيث إنه دال على اقتراب نزول الغيث وهو نعمة تستوجبُ الحمد . فالقول في ملابسة الرعد للحمد مساوٍ للقول في إسناد التسبيح إلى الرعد . فالملابسة مجازية عقلية أو استعارة مكنية .
و { الملائكة } عطف على الرعد ، أي وتسبح الملائكة من خيفته ، أي من خوف الله .
و { من } للتعليل ، أي ينزهون الله لأجل الخوف منه ، أي الخوف مما لا يرضى به وهو التقصير في تنزيهه .
وهذا اعتراض بين تعداد المواعظ لمناسبة التعريض بالمشركين ، أي أن التنزيه الذي دلت عليه آيات الجو يقوم به الملائكة ، فالله غني عن تنزيهكم إياه ، كقوله : { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } [ سورة الزمر : 7 ] ، وقوله : { وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد } [ سورة إبراهيم : 8 ] .
واقتصر في العبرة بالصواعق على الإنذار بها لأنها لا نعمة فيها لأن النعمة حاصلة بالسحاب وأما الرعد فآلة من آلات التخويف والإنذار . كما قال في آية سورة البقرة { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } [ سورة البقرة : 19 ] . وكان العرب يخافون الصواعق . ولقبوا خويلد بن نفيل الصَعِق لأنه أصابته صاعقة أحرقته .
ومن هذا القبيل قول النبي : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوّف الله بهما عباده ، أي بكسوفهما فاقتصر في آيتهما على الإنذار إذ لا يترقب الناس من كسوفهما نفعاً .
وجملة { وهم يجادلون في الله } في موضع الحال لأنه من متممات التعجب الذي في قوله : { وإن تعجب فعجب قولهم } [ الرعد : 5 ] الخ . فضمائر الغيبة كلها عائدة إلى الكفار الذين تقدم ذكرهم في صدر السورة بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } [ الرعد : 1 ] وقوله : { أولئك الذين كفروا بربهم } [ الرعد : 5 ] وقوله : { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } [ الرعد : 7 ] . وقد أعيد الأسلوب هنا إلى ضمائر الغيبة لانقضاء الكلام على ما يصلح لموعظة المؤمنين والكافرين فتمحض تخويف الكافرين .
والمجادلة : المخاصمة والمراجعة بالقول . وتقدم في قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } في سورة النساء ( 107 ) .
وقد فهم أن مفعول يجادلون } هو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون . فالتقدير : يجادلونك أو يجادلونكم ، كقوله : { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } في سورة الأنفال ( 6 ) .
والمجادلة إنما تكون في الشؤون والأحوال ، فتعليق اسم الجلالة المجرور بفعل { يجادلون } يتعين أن يكون على تقدير مضاف تدل عليه القرينة ، أي في توحيد الله أو في قدرته على البعث .
ومن جدلهم ما حكاه قوله : { أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم } في سورة يس ( 77 ، 78 ) .
والمِحال : بكسر الميم يحتمل هنا معنيين ، لأنه إن كانت الميم فيه أصلية فهو فِعال بمعنى الكيد وفعله مَحَل ، ومنه قولهم تمحل إذا تحيل .
جعل جدالهم في الله جدال كيد لأنهم يبرزونه في صورة الاستفهام في نحو قولهم : { من يُحيي العظام وهي رميم } فقوبل ب { شديد المحال } على طريقة المشاكلة ، أي وهو شديد المحال لا يغلبونه ، ونظيره { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } [ سورة آل عمران : 54 ] .
وقال نفطويه : هو من ماحل عن أمره ، أي جَادل . والمعنى : وهو شديد المجادلة ، أي قوي الحجة .
وإن كانت الميم زائدة فهو مفعل من الحول بمعنى القوة ، وعلى هذا فإبدال الواو ألفاً على غير قياس لأنه لا موجب للقلب لأن ما قبل الواو ساكن سكوناً حياً . فلعلهم قلبوها ألفاً للتفرقة بينه وبين مِحول بمعنى صبي ذي حول ، أي سنة .
وذكر الواحدي والطبري أخباراً عن أنس وابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في قضية عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة حين وردا المدينة يشترطان لدخولهما في الإسلام شروطاً لم يقبلها منهما النبي . فهمّ أرْبَد بقتل النبي فصرفه الله ، فخرج هو وعامر بن الطفيل قاصدين قومهما وتواعدا النبي بأن يجلبا عليه خيل بني عامر . فأهلك الله أربَد بصاعقة أصابته وأهلك عامراً بِغُدة نبتت في جسمه فمات منها وهو في بيت امرأة من بني سلول في طريقه إلى أرض قومه ، فنزلت في أربد { ويرسل الصواعق } وفي عامر { وهم يجادلون في الله } .
وذكر الطبري عن صحار العبدي : أنها نزلت في جبار آخر . وعن مجاهد : أنها نزلت في يهودي جادل في الله فأصابته صاعقة .
ولما كان عامر بن الطفيل إنما جاء المدينة بعد الهجرة وكان جدال اليهود لا يكون إلا بعد الهجرة أقدم أصحاب هذه الأخبار على القول بأن السورة مدنية أوْ أن هذه الآيات منها مدنية ، وهي أخبار ترجع إلى قول بعض الناس بالرأي في أسباب النزول . ولم يثبت في ذلك خبر صحيح صريح فلا اعتداد بما قالوه فيها ولا يخرج السورة عن عداد السور المكية . وفي هذه القصة أرسل عامر بن الطفيل قوله : « أغُدّة كغدة البعير وموت في بيت سلولية » مثلاً . ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربدَ بأبيات منها :
أخشى على أربد الحتوف ولا *** أرهب نَوْء السِماك والأسد{[254]}