البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ مِنۡ خِيفَتِهِۦ وَيُرۡسِلُ ٱلصَّوَٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمۡ يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلۡمِحَالِ} (13)

المحال : القوة والإهلاك قال الأعشى :

فرع نبع يهش في غصن المج -  ***د غزير الندى شديد المحال

وقال عبد المطلب :

لا يغلبن صليبهم ***ومحالهم أبداً محالك

ويقال : محل الرجل بالرجل مكر به وأخذه بسعاية شديدة ، والمماحلة المكايدة والمماكرة ومنه : تمحل لكذا أي : تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه . وقال أبو زيد : المحال النقمة ، وقال ابن عرفة : المحال الجادل ما حل عن أمره أي جادل . وقال القتبي : أي شديد الكيد ، وأصله من الحيلة ، جعل ميمه كميم مكان وأصله من الكون ، ثم يقال : تمكنت . وغلطه الأزهري في زيادة الميم قال : ولو كان مفعلاً لظهر من الواو مثل مرود ومحول ومحور ، وإنما هو مثال كمهاد ومراس .

والظاهر إسناد التسبيح إلى الرعد .

فإن كان مما يصح منه التسبيح فهو إسناد حقيقي ، وإن كان مما لا يصح منه فهو إسناد مجازي .

وتنكيره في قوله : { فيه ظلمات ورعد وبرق } ينفي أن يكون علماً لملك .

وقال ابن الأنباري : الإخبار بالصوت عن التسبيح مجاز كما يقول القائل : قد غمني كلامك .

وقال الزمخشري : ويسبح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له ، أي : يضجون بسبحان الله والحمد لله .

وفي الحديث : " سبحان من يسبح الرعد بحمده " وعن علي : «سبحان من سبحت له إذا اشتد الرعد »قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " ومن بدع المتصوفة : الرعد صعقات الملائكة ، والبرق زفرات أفئدتهم ، والمطر بكاؤهم انتهى .

وقال ابن عطية : وقيل في الرعد أنه ريح يختنق بين السحاب ، روى ذلك عن ابن عباس .

وهذا عندي لا يصح لأنّ هذا نزغات الطبيعيين وغيرهم من الملاحدة .

وقال أبو عبد الله الرازي : إعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية ، وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره ، وكذا القول في الرياح ، وفي سائر الآثار العلوية .

وهذا عين ما قلناه أن الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح الله تعالى ، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء ، فكيف بالعاقل الإنكار ؟ انتهى .

وهذا الرجل غرضه جريان ما تنتحله الفلاسفة على مناهج الشريعة ، وذلك لا يكون أبداً ، وقد تقدمت أقوال المفسرين في الرعد في البقرة ، فلم يجمعوا على أنّ الرعد اسم لملك .

وعلى تقدير أن يكون اسماً لملك ، لا يلزم أن يكون ذلك الملك يدبر لا السحاب ولا غيره ، إذ لا يستفاد مثل هذا إلا من النبي صلى الله عليه وسلم المشهود له بالعصمة ، لا من الفلاسفة الضلال .

والظاهر عود الضمير في قوله : من خيفته ، على الله تعالى كما عاد عليه في قوله : بحمده .

ومعنى خيفته : من هيبته وإجلاله .

وقيل : يعود على الرعد .

والملائكة أعوانه جعل الله له ذلك فهم خائفون خاضعون طائعون له .

والرعد وإن كان مندرجاً تحت لفظ الملائكة ، فهو تعميم بعد تخصيص انتهى .

وهو قول ضعيف .

ومن مفعول فيصيب ، وهو من باب الإعمال ، أعمل فيه الثاني إذ يرسل يطلب من وفيصيب يطلبه ، ولو أعمل الأول لكان التركيب : ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء ، لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو إعمال الثاني .

ومفعول يشاء محذوف تقديره : من يشاء إصابته .

وفي الخبر أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال : أخبرني عن إله محمد ؟ أمن لؤلؤ هو أم من ذهب ؟ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه .

وقال مجاهد : ناظر يهودي الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبينا هو كذلك نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه ، فنزلت الآية فيه .

وقال ابن جريج : سبب نزولها لها قصة أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل ، وذكر قصتهما المشهورة مضمونها أن عامراً توعد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يجبه إلى ما طلب ، وأنه وأربد راما الفتك به ، فعصمه الله تعالى ، وأصاب عامراً بغدّة فمات غريباً ، وأربد بصاعقة فقتلته ، ولأخيه لبيد فيه عدة مراثٍ منها قوله :

أخشى على أربد الحتوف ولا *** أرهب نوء السماك والأسد

فجعني البرق والصواعق بالفا *** رس يوم الكريهة النجد

وهذه الصلات الأربع التي وصلت بها الذي تدل على القدرة الباهرة ، والتصرف التام في العالم العلوي والسفلي ، فالمتصف بها ينبغي أن لا يجادل فيه ، وأن يعتقد ما هو عليه من الصفات العلوية ، والضمير في وهم يجادلون ، عائد على الكفار المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم ، المنكرين الآيات ، يجادلون في قدرة الله على البعث وإعادة الخلق بقولهم : { من يحيي العظام وهي رميم } وفي وحدانيته باتخاذ الشركاء والانداد .

ونسبة التوالد إليه بقولهم : الملائكة بنات الله تعالى والمعنى : أنه عز وجل متصف بهذه الأوصاف ، ومع ذلك رتبوا عليها غير مقتضاها من المجادلة فيه وفي أوصافه تعالى ، وكان مقتضاها التسليم لما جاءت به الأنبياء .

وقيل : وهم يجادلون حال من مفعول يشاء أي : فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم كما جرى لليهودي .

وكذلك الجبار ، ولا ربد .

وهو شديد المحال ، جملة حالية من الجلالة .

وقرأ الجمهور : المحال بكسر الميم .

فعن ابن عباس : المحال العداوة ، وعنه الحقد .

وعن عليّ : الأخذ ، وعن مجاهد : القوة .

وعن قطرب : الغضب .

وعن الحسن : الهلاك بالمحل ، وهو القحط .

وقرأ الضحاك والأعرج : المحال بفتح الميم .

فعن ابن عباس : الحول .

وعن عبيدة : الحيلة .

يقال : المحال والمحالة وهي الحيلة ، ومنه قول العرب في مثل : المرء يعجز لا المحالة .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى شديد العقاب ، ويكون مثلاً في القوة والقدرة ، كما جاء : فساعد الله أشد ، وموساه أحدّ ، لأنّ الحيوان إذا اشتد غاية كان منعوتاً بشدّة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره .

ألا ترى إلى قولهم : فقرته الفواقر ، وذلك أنّ الفقار عمود الظهر وقوامه .