قوله : { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } قال أكثر المفسرين : الرَّعدُ اسم ملكٍ يسوقُ السَّحاب ، والصوت المسموع تسبيحه .
قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه : " مَنْ سَمِعَ صوتَ الرَّعدِ فقال : سُبْحانَ الَّذي يُسبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدهِ والمَلائِكةُ مِنْ خِيفتهِ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قدير ، فإنْ أصَابهُ صَاعِقةٌ فَعَلى دِينه " .
وعن ابن عبَّاس : أنَّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرَّعدِ ما هو ؟ . فقال صلى لله عليه وسلم " ملكٌ من الملائكةِ وُكِلَ بالسَّحابِ معهُ مخَارِيق من نَارِ يسُوقُ بِهَا السَّحابَ حيثُ شَاء اللهُ ، قالوا : فَمَا الصَّوتُ الذي نَسْمَع ؟ قال : زَجْرةُ السَّحابِ " .
وعن الحسن : أنَّه خلق من خلق الله ليس بملكٍ .
قال ابن الخطيب : " فعلى هذا القولِ : الرَّعدُ هو الملكُ الموكل بالسحاب ، وذلك الصَّوت يسمّى بالرَّعدِ ، ويؤكد هذا ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه سلم أنه قال : " إنَّ اللهَ يُنشِىءُ السَّحاب ، فتَنْطِقُ أحسنَ النُّطقِ وتَضحَكُ أحسن الضِّحكِ فنُطقه الرَّعدُ وضِحْكهُ برق " .
وهذا القول غير مستبعد ؛ لأن عند أهل السنة البينة ليست شرطاً لحصولِ الحياة ، فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والنُّطق في أجزاء السَّحاب ، فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له ، وكيف يستبعد ذلك ، ونحن نرى أنَّ السمندل يتولد في النَّار ، والضفادع تتولّد في الماءِ ، والدُّوجة العظيمة ربما تولدت في الثلوج القديمة ، وأيضاً : فإذا لم يبعد تسبيحُ الحِبالِ في زمن داود صلوات الله وسلامه عليه ولا تسبيح الحصى في زمن محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يبعدُ تسبيحُ السَّحاب ؟ .
وعلى هذا القول ففي هذا المسموع قولان :
أحدهما : أنه ليس بملك ؛ لأنَّه عطف عليه الملائكة فقال : { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } المعطوف عليه مغايرٌ للمعطوف .
والثاني : لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة ، وإنَّما أفرده بالذِّكر تشريفاً كقوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] وقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] .
وقيل : الرعدُ اسم لهذا الصوت المخصوص ، ومع ذلك فإنَّه يسبحُ ، قال تعالى { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] .
وقيل : المراد من كون الرَّعد مسبحاً ، أن من يسمع الرَّعد فإنَّه يسبح الله تعالى فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه .
قوله : { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } ، أي : الملائكة يسبحون من خيفة الله ، وخشيته ، وقيل : أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعواناً ، فهم خائفون خاضعون طائعون .
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : " خائفون من الله لا كخوف بني آدم ، فإنَّ أحدهم لا يعرف من على يمينه ، ومن على يساره لا يشغله عن عبادة الله طعامٌ ، ولا شراب ولا شيء " .
قال ابن الخطيب : " والمحققون من الحكماء يقولون : إنَّ هذه الآثار العلوية إنَّما هي تتمُّ بقوى روحانية فكليَّة ، فللسّحاب روح معيَّن في الأرواح الفلكيَّة يدبره ، وكذا الرِّياح ، وسائر الآثار العلوية ، وهذا عين ما قلنا : إنَّ الرعد اسمٌ لملك من الملائكة يسبِّح الله تعالى .
فالذي قاله المفسِّرون بهذه العبارة ، هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء ، فيكيف يليق بالعاقل الإنكار ؟ " .
قوله : { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } كما أصاب أربد بن ربيعة .
" الصَّواعِقَ " جمع صاعقة ، وهي العذاب المهلك ينزل من البرقِ ، فتحرق من تصيبه وتقدَّم الكلام عليه في أوَّل البقرةِ .
قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عامر الطُّفيل ، وأربد بن ربيعة أخي أسد بن ربيعة كما قدمنا .
واعلم أنَّ أمر الصاعقة عجيبٌ جدًّا ؛ لأنَّها نارٌ تتولَّد في السَّحاب ، وإذا نزلت من السَّحاب فربما غاصت في البحرِ ، وأحرقت الحيتان .
قال محمدُ بن عليّ الباقر : " الصَّاعقة تصيبُ المسلم ، وغير المسلمِ ، ولا تصيب الَّذاكر " .
قوله : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله } يجوز أن تكون الجملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ويجوز أن تكون حالاً .
وظاهر كالام الزمخشري أنَّها حال من مفعول " تَصِيبُ " فإنَّه قال : " وقيل : الواو للحال ، أي : يصيب بها من يشاء في حال جدالهم " وجعلها غيره : حالاً من مفعول " يَشَاء " .
معنى الكلام : أنه تعالى بيَّن دلائل العلم بقوله : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } [ الرعد : 8 ] ، ودلائل كمال القدرة في هذه الآية ، ثم قال تعالى : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله } يعنى أنَّ الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله .
قيل : المراد بها الرَّد على الكافر يعني أربد بن ربيعة الذي قال : أخبرنا عن ربِّنا ، أهو من نحاسٍ ، أم من حديد ، أم من درٍّ ، أم من ياقوت ، أم من ذهب ؟ فنزلت الصاعقة من السماء ؛ فأحرقته .
وقيل : المراد جدالهم في إنكار البعث ، وقيل المراد الرد على جدالهم في طلب سائر المعجزات .
وقيل : المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال .
وسئل الحسن عن قوله : { وَيُرْسِلُ الصواعق } الآية قال : كان رجلٌ من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يقرّ بدعوته إلى الله ورسوله ، فقال لهم : أخبروني عن رب محمدٍ ، هذا الذي تدعُوني إليه ، مِمَّ هو " من ذهبٍ ، أو فضةٍ ، أو حديدٍ أو نحاس ؟
فاستعظم القوم مقالته ، فانصرفوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : ما رأينا رجُلاً أ : فر قلبا ، ولا أعتى على الله منه ، فقال : صلى الله عليه وسلم : " ارجعوا إليه " فرجعوا إليه ؛ فجعل لايزيدهم على مثل مقالته الأولى ، وقال : أجيب محمداً إلى رب لا أراه ، ولا أعرفه ! وانصرفوا ، وقالوا : يا رسول الله : ما زادنا على مقالته الأولى ، وأخبث . فقال صلى الله عليه وسلم : " ارجعوا إليه " ، فرجعوا إليه ، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه ، وهو يقول هذه المقالة ، إذا ارتفعت سحابة ، فكانت فوق رؤوسهم ، فرعدت ، وبرقت ورمت بصاعقة ؛ فأحرقت الكافر ، وهم جلوسٌ ، فجاءوا يسعون ؛ ليخبروا رسول الله صلى الله عليه سلم ؛ فاستقبلهم قومٌ من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم فقالوا : " احْترَقَ صَاحبُكُم " فقالوا : من أين علمتم ؟ فقالوا : أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال } .
قوله : { وَهُوَ شَدِيدُ المحال } هذه الجملة حال من الجلالة الكريمة ، ويضعف استئنافها .
وقأ العام : بكسر الميم وهو القوَّة والإهلاكُ .
3172 لا يَغْلبَنَّ صَلِبُهُمْ *** ومِحَالُهُمْ عَدواً مِحَالَك
3173 فَرْغُ نَبْغٍ يَهتزٌ في غُصُنِ المَجْدِ *** عَظيمُ النَّدى شديدُ المحالِ
والمحال أيضاً : أشدُّ المكايدة ، والممكارة ، يقال : ما حله ، ومنه تمحَّل فلان بكذا أي : تكلَّف له استعمال الحيلة .
وقال أبو زيدٍ : هو النِّقمةُ . وقال ابن عرفة : هو الجدالُ ، وفيه على هذا مقابلة معنوية كأنه قيل : وهم يجادلون في الله ، وهو شديد المحالِ .
وقال عليٌّ رضي الله عنه : شديد الأخذ .
وقال ابن عباسٍ رضي الله عنه شديد المحال . وقال الحسن : نشديد الحقدِ .
قالوا : وهذا لايصح للحقد ؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى إلاَّ أنَّه تقدم أنَّ أمثال هذه الكلمات إذا وردت في حقِّ الله تعالى فإنَّها تحمل على نهايات الأغراض لا على مبادي الأعراض ، فيكون المراد بالحقد ههنا : هو أنه تعالى يريد إيصال الشَّر إليه ، مع أنه أخفى عنه تلك الإرادة .
وقال مجاهدٌ : شديد القوَّة . وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة .
وقيل : شديد المكرِ ، والمحال ، والمماحلة ، والمماكرة ، والمغالبة .
واختلفوا في ميمه : فالجمهور على أنَّها أصلية من المحل ، وهو المكر ، والكيد ، وزنها فعال : كمِهَاد .
وقال القتبيُّ : إنَّه من الحيلةِ ، وميمه مزيدة ، ك " مكان " من الكون ، ثم يقال : تمكنت ، وقد غلَّطه الأزهريُّ ، وقال : لو كان : " مِفْعَلاً " من الحيلة لظهرت الواو ، مثل : مرودةٍ ، ومحولٍ ، ومحودٍ . وقرأ الأعرج والضحاك بفتحها والظاهر أنه لغة في المكسورة ، وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنه فإنه فسره بالحول كما تقدم ، وفسره غيره : بالحيلة .
وقال الزمخشري : " وقرأ الأعرج بفتح الميم على أنه مفعل من : من حال يحول محالاً إذا احتال ، ومنه : " أحْوَل مِنْ ذئْبٍ " أي : أشد حيلة ، ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار ، ويكون مثلاً في القوة ، والقدرة كما جاء : فساعد الله أشد ، وموساه أحد ؛ لأن الحيوان إذا اشتد محاله كان منعوتاً بشدة القوَّة ، والإضطلاع بما يعجز عنه غيره ألا ترى إلى قولهم : فقَرَتْهُ الفَواقِر ، وذلك أنَّ الفقار عمود الظَّهر ، وقوامه " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.