اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ مِنۡ خِيفَتِهِۦ وَيُرۡسِلُ ٱلصَّوَٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمۡ يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلۡمِحَالِ} (13)

قوله : { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } قال أكثر المفسرين : الرَّعدُ اسم ملكٍ يسوقُ السَّحاب ، والصوت المسموع تسبيحه .

قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه : " مَنْ سَمِعَ صوتَ الرَّعدِ فقال : سُبْحانَ الَّذي يُسبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدهِ والمَلائِكةُ مِنْ خِيفتهِ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قدير ، فإنْ أصَابهُ صَاعِقةٌ فَعَلى دِينه " .

وعن ابن عبَّاس : أنَّ اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرَّعدِ ما هو ؟ . فقال صلى لله عليه وسلم " ملكٌ من الملائكةِ وُكِلَ بالسَّحابِ معهُ مخَارِيق من نَارِ يسُوقُ بِهَا السَّحابَ حيثُ شَاء اللهُ ، قالوا : فَمَا الصَّوتُ الذي نَسْمَع ؟ قال : زَجْرةُ السَّحابِ " .

وعن الحسن : أنَّه خلق من خلق الله ليس بملكٍ .

قال ابن الخطيب : " فعلى هذا القولِ : الرَّعدُ هو الملكُ الموكل بالسحاب ، وذلك الصَّوت يسمّى بالرَّعدِ ، ويؤكد هذا ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه سلم أنه قال : " إنَّ اللهَ يُنشِىءُ السَّحاب ، فتَنْطِقُ أحسنَ النُّطقِ وتَضحَكُ أحسن الضِّحكِ فنُطقه الرَّعدُ وضِحْكهُ برق " .

وهذا القول غير مستبعد ؛ لأن عند أهل السنة البينة ليست شرطاً لحصولِ الحياة ، فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والنُّطق في أجزاء السَّحاب ، فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له ، وكيف يستبعد ذلك ، ونحن نرى أنَّ السمندل يتولد في النَّار ، والضفادع تتولّد في الماءِ ، والدُّوجة العظيمة ربما تولدت في الثلوج القديمة ، وأيضاً : فإذا لم يبعد تسبيحُ الحِبالِ في زمن داود صلوات الله وسلامه عليه ولا تسبيح الحصى في زمن محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يبعدُ تسبيحُ السَّحاب ؟ .

وعلى هذا القول ففي هذا المسموع قولان :

أحدهما : أنه ليس بملك ؛ لأنَّه عطف عليه الملائكة فقال : { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } المعطوف عليه مغايرٌ للمعطوف .

والثاني : لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة ، وإنَّما أفرده بالذِّكر تشريفاً كقوله تعالى : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] وقوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] .

وقيل : الرعدُ اسم لهذا الصوت المخصوص ، ومع ذلك فإنَّه يسبحُ ، قال تعالى { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] .

وقيل : المراد من كون الرَّعد مسبحاً ، أن من يسمع الرَّعد فإنَّه يسبح الله تعالى فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه .

قوله : { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } ، أي : الملائكة يسبحون من خيفة الله ، وخشيته ، وقيل : أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعواناً ، فهم خائفون خاضعون طائعون .

قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : " خائفون من الله لا كخوف بني آدم ، فإنَّ أحدهم لا يعرف من على يمينه ، ومن على يساره لا يشغله عن عبادة الله طعامٌ ، ولا شراب ولا شيء " .

قال ابن الخطيب : " والمحققون من الحكماء يقولون : إنَّ هذه الآثار العلوية إنَّما هي تتمُّ بقوى روحانية فكليَّة ، فللسّحاب روح معيَّن في الأرواح الفلكيَّة يدبره ، وكذا الرِّياح ، وسائر الآثار العلوية ، وهذا عين ما قلنا : إنَّ الرعد اسمٌ لملك من الملائكة يسبِّح الله تعالى .

فالذي قاله المفسِّرون بهذه العبارة ، هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء ، فيكيف يليق بالعاقل الإنكار ؟ " .

قوله : { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } كما أصاب أربد بن ربيعة .

" الصَّواعِقَ " جمع صاعقة ، وهي العذاب المهلك ينزل من البرقِ ، فتحرق من تصيبه وتقدَّم الكلام عليه في أوَّل البقرةِ .

قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عامر الطُّفيل ، وأربد بن ربيعة أخي أسد بن ربيعة كما قدمنا .

واعلم أنَّ أمر الصاعقة عجيبٌ جدًّا ؛ لأنَّها نارٌ تتولَّد في السَّحاب ، وإذا نزلت من السَّحاب فربما غاصت في البحرِ ، وأحرقت الحيتان .

قال محمدُ بن عليّ الباقر : " الصَّاعقة تصيبُ المسلم ، وغير المسلمِ ، ولا تصيب الَّذاكر " .

قوله : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله } يجوز أن تكون الجملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ويجوز أن تكون حالاً .

وظاهر كالام الزمخشري أنَّها حال من مفعول " تَصِيبُ " فإنَّه قال : " وقيل : الواو للحال ، أي : يصيب بها من يشاء في حال جدالهم " وجعلها غيره : حالاً من مفعول " يَشَاء " .

فصل

معنى الكلام : أنه تعالى بيَّن دلائل العلم بقوله : { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } [ الرعد : 8 ] ، ودلائل كمال القدرة في هذه الآية ، ثم قال تعالى : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله } يعنى أنَّ الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله .

قيل : المراد بها الرَّد على الكافر يعني أربد بن ربيعة الذي قال : أخبرنا عن ربِّنا ، أهو من نحاسٍ ، أم من حديد ، أم من درٍّ ، أم من ياقوت ، أم من ذهب ؟ فنزلت الصاعقة من السماء ؛ فأحرقته .

وقيل : المراد جدالهم في إنكار البعث ، وقيل المراد الرد على جدالهم في طلب سائر المعجزات .

وقيل : المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال .

وسئل الحسن عن قوله : { وَيُرْسِلُ الصواعق } الآية قال : كان رجلٌ من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم يقرّ بدعوته إلى الله ورسوله ، فقال لهم : أخبروني عن رب محمدٍ ، هذا الذي تدعُوني إليه ، مِمَّ هو " من ذهبٍ ، أو فضةٍ ، أو حديدٍ أو نحاس ؟

فاستعظم القوم مقالته ، فانصرفوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : ما رأينا رجُلاً أ : فر قلبا ، ولا أعتى على الله منه ، فقال : صلى الله عليه وسلم : " ارجعوا إليه " فرجعوا إليه ؛ فجعل لايزيدهم على مثل مقالته الأولى ، وقال : أجيب محمداً إلى رب لا أراه ، ولا أعرفه ! وانصرفوا ، وقالوا : يا رسول الله : ما زادنا على مقالته الأولى ، وأخبث . فقال صلى الله عليه وسلم : " ارجعوا إليه " ، فرجعوا إليه ، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه ، وهو يقول هذه المقالة ، إذا ارتفعت سحابة ، فكانت فوق رؤوسهم ، فرعدت ، وبرقت ورمت بصاعقة ؛ فأحرقت الكافر ، وهم جلوسٌ ، فجاءوا يسعون ؛ ليخبروا رسول الله صلى الله عليه سلم ؛ فاستقبلهم قومٌ من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم فقالوا : " احْترَقَ صَاحبُكُم " فقالوا : من أين علمتم ؟ فقالوا : أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال } .

قوله : { وَهُوَ شَدِيدُ المحال } هذه الجملة حال من الجلالة الكريمة ، ويضعف استئنافها .

وقأ العام : بكسر الميم وهو القوَّة والإهلاكُ .

قال عبدالمطلب : [ الكامل ]

3172 لا يَغْلبَنَّ صَلِبُهُمْ *** ومِحَالُهُمْ عَدواً مِحَالَك

وقل الأعشى : [ الخفيف ]

3173 فَرْغُ نَبْغٍ يَهتزٌ في غُصُنِ المَجْدِ *** عَظيمُ النَّدى شديدُ المحالِ

والمحال أيضاً : أشدُّ المكايدة ، والممكارة ، يقال : ما حله ، ومنه تمحَّل فلان بكذا أي : تكلَّف له استعمال الحيلة .

وقال أبو زيدٍ : هو النِّقمةُ . وقال ابن عرفة : هو الجدالُ ، وفيه على هذا مقابلة معنوية كأنه قيل : وهم يجادلون في الله ، وهو شديد المحالِ .

وقال عليٌّ رضي الله عنه : شديد الأخذ .

وقال ابن عباسٍ رضي الله عنه شديد المحال . وقال الحسن : نشديد الحقدِ .

قالوا : وهذا لايصح للحقد ؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى إلاَّ أنَّه تقدم أنَّ أمثال هذه الكلمات إذا وردت في حقِّ الله تعالى فإنَّها تحمل على نهايات الأغراض لا على مبادي الأعراض ، فيكون المراد بالحقد ههنا : هو أنه تعالى يريد إيصال الشَّر إليه ، مع أنه أخفى عنه تلك الإرادة .

وقال مجاهدٌ : شديد القوَّة . وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة .

وقيل : شديد المكرِ ، والمحال ، والمماحلة ، والمماكرة ، والمغالبة .

واختلفوا في ميمه : فالجمهور على أنَّها أصلية من المحل ، وهو المكر ، والكيد ، وزنها فعال : كمِهَاد .

وقال القتبيُّ : إنَّه من الحيلةِ ، وميمه مزيدة ، ك " مكان " من الكون ، ثم يقال : تمكنت ، وقد غلَّطه الأزهريُّ ، وقال : لو كان : " مِفْعَلاً " من الحيلة لظهرت الواو ، مثل : مرودةٍ ، ومحولٍ ، ومحودٍ . وقرأ الأعرج والضحاك بفتحها والظاهر أنه لغة في المكسورة ، وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنه فإنه فسره بالحول كما تقدم ، وفسره غيره : بالحيلة .

وقال الزمخشري : " وقرأ الأعرج بفتح الميم على أنه مفعل من : من حال يحول محالاً إذا احتال ، ومنه : " أحْوَل مِنْ ذئْبٍ " أي : أشد حيلة ، ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار ، ويكون مثلاً في القوة ، والقدرة كما جاء : فساعد الله أشد ، وموساه أحد ؛ لأن الحيوان إذا اشتد محاله كان منعوتاً بشدة القوَّة ، والإضطلاع بما يعجز عنه غيره ألا ترى إلى قولهم : فقَرَتْهُ الفَواقِر ، وذلك أنَّ الفقار عمود الظَّهر ، وقوامه " .