معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

قوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، وحقها ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إيمانه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفساً بغير نفس فيقتل بها " . { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً } ، أي : قوةً وولاية على القاتل بالقتل ، قال مجاهد . وقال الضحاك : سلطانه هو أنه بتخير ، فإن شاء استقاد منه ، وإن شاء أخذ الدية ، وإن شاء عفا . { فلا يسرف في القتل } ، قرأ حمزة و الكسائي : ولا تسرفوا بالتاء يخاطب ولي القتيل ، وقرأ الآخرون : بالياء على الغائب أي : لا يسرف الولي في القتل . واختلفوا في هذا الإسراف الذي منع منه ، فقال ابن عباس ، وأكثر المفسرين : معناه لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتلوا أشرف منه . قال سعيد بن جبير : إذا كان القاتل واحداً فلا يقتل جماعة بدل واحد ، وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفاً لا يرضون بقتل القاتل وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه . وقال قتادة : معناه لا يمثل بالقاتل . { إنه كان منصوراً } ، فالهاء راجعة إلى المقتول في قوله : { ومن قتل مظلوماً } يعني : إن المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله ، وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله ، هذا قول مجاهد . وقال قتادة : الهاء راجعة إلى ولي المقتول ، معناه : إنه منصور على القاتل باستيفاء منه أو الدية . وقيل في قوله : { فلا يسرف في القتل } إنه أراد به القاتل المعتدي ، يقول : لا يتعدى بالقتل بغير الحق ، فإنه إن فعل ذلك فولي المقتول منصور من قبلي عليه باستيفاء القصاص منه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

{ ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق } إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان : وزنا بعد إحصان ، وقتل مؤمن معصوم عمدا . { ومن قُتل مظلوما } غير مستوجب للقتل . { فقد جعلنا لوليّه } للذي يلي أمره بعد وفاته وهو الوارث . { سلطانا } تسلطا بالمؤاخذة بمقتضى القتل على من عليه ، أو بالقصاص على القاتل فإن قوله تعالى { مظلوما } بدل على أن القتل عمدا عدوان فإن الخطأ لا يسمى ظلما . { فلا يُسرف } أي القاتل . { في القتل } بأن يقتل من لا يستحق قتله ، فإن العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك أو الولي بالمثلة ، أو قتل غير القاتل ويؤيد الأول قراءة أبي " فلا تسرفوا " . وقرأ حمزة والكسائي " فلا تسرف " على خطاب أحدهما . { إنه كان منصورا } علة النهي على الاستئناف والضمير إما للمقتول فإنه منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله وفي الآخرة بالثواب ، وإما لوليه فإن الله تعالى نصره حيث أوجب القصاص له وأمر الولاة بمعونته ، وإما للذي يقتله الولي إسرافا بإيجاب القصاص أو التعزيز والوزر على المسرف .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

وقوله { ولا تقتلوا } وما قبله من الأفعال جزم بالنهي ، وذهب الطبري إلى أنها عطف على قوله { وقضى ربك ألا تعبدوا } [ الإسراء : 23 ] والأول أصوب وأبرع للمعنى ، والألف واللام التي في { النفس } هي للجنس ، و { الحق } الذي تقتل به النفس هو ما فسره النبي صلى الله عليه سلم في قوله : «لا يُحل دمَ المسلم إلا إحدى ثلاث خصال ، كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس أخرى »{[7547]} .

قال القاضي أبو محمد : وتتصل بهذه الأشياء هي راجعة إليها ، فمنها قطع الطريق ، لأنه في معنى قتل النفس وهي الحرابة ، ومن ذلك الزندقة ، ومسألة ترك الصَّلاة لأنها في معنى الكفر بعد الإيمان ، ومنه قتل أبي بكر رضي الله عنه منعة الزكاة ، وقتل من امتنع في المدن من فروض الكفاية ، وقوله تعالى : { مظلوماً } نصب على الحال ، ومعناه بغير هذه الوجوه المذكورة ، و «الولي » القائم بالدم وهو من ولد الميت أو ولده الميت أو جمعه وأباه أب ، ولا مدخل للنساء في ولاية الدم عند جماعة من العلماء ، ولهن ذلك عند أخرى ، و «السلطان » الحجة والملك الذي جعل إليه من التخير في قبول الدية أو العفو ، قال ابن عباس والضحاك . وقال قتادة : «السلطان » القود ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «فلا يسرف » بالياء ، وهي قراءة الجمهور ، أي الولي لا يتعدى أمر الله ، والتعدي هو أن يقتل غير قاتل وليه من سائر القبيل ، أو يقتل اثنين بواحد ، وغير وذلك من وجوه التعدي ، وهذا كله كانت العرب تفعله ، فلذلك وقع التحذير منه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أعتى الناس على الله ثلاثة : رجل قتل غير قاتل وليه ، أو قتل بدخن الجاهلية ، أو قتل في حرم الله »{[7548]} ، وقالت فرقة : المراد بقوله { فلا يسرف } القاتل الذي يتضمنه الكلام ، والمعنى فلا يكن أحد من المسرفين بأن يقتل نفساً فإنه يحصل في ثقاف هذا الحكم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فلا تسرف في القتل » بالتاء من فوق ، وهو قراءة حذيفة ويحيى بن وثاب ومجاهد بخلاف والأعمش وجماعة ، قال الطبري : على معنى الخطاب للنبي عليه السلام والأئمة بعده ، أي فلا تقتلوا غير القاتل .

قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يراد به الولي أي فلا تسرف أيها الولي في قتل أحد يتحصل في هذا الحكم ، وقرأ أبو مسلم السراج صاحب الدعوة العباسية{[7549]} ، «فلا يسرفُ » بالياء بضم الفاء على معنى الخبر لا على معنى النهي ، والمراد هذا التأويل فقط .

قال القاضي أبو محمد : وفي الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبي بن كعب : «فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً{[7550]} ، والضمير في قوله { إنه } عائد على الولي ، وقيل على المقتول ، وهو عندي أرجح الأقوال ، لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن أبداً الظلم كقوله عليه السلام : » ونصر المظلوم وإبرار القسم{[7551]} « ، وكقوله » انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً{[7552]} « ، إلى كثير من الأمثلة : وقيل على القتل ، وقال أبو عبيد على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد المقصد ، وقال الضحاك هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل وهي مكية .


[7547]:أخرجه البخاري في تفسير المائدة، وفي الديات، وأخرجه مسلم وأبو داود في الحدود، والنسائي في التحريم، وابن ماجه في الحدود، وأحمد في مسنده (1-61)، ولفظه كما جاء في مسند أحمد، عن أبي أمامة بن سهل قال: كنا مع عثمان رضي الله عنه وهو محصور في الدار، فدخل مدخلا كان إذا دخله يسمع كلامه من على البلاط، قال: فدخل ذلك المدخل وخرج إلينا فقال: إنهم يتوعدوني بالقتل آنفا، قال: قلنا يكفيكم الله يا أمير المؤمنين، قال: وبم يقتلونني؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا فيقتل بها)، فوالله ما أحببت أن لي بدلا منذ هداني الله، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام قط، ولا قتلت نفسا، فيم يقتلونني؟
[7548]:الحديث أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، والدخن: الفساد والاختلاف.
[7549]:هو أبو مسلم الخرساني، عبد الرحمن بن مسلم، اتصل في شبابه بإبراهيم بن الإمام محمد (من بني العباس)، فأرسله إلى خراسان داعية، فأقام فيها واستعمل أهلها، ثم وثب على والي نيسابور (علي بن الكرماني) فقتله واستولى على نيسابور، ثم سير جيشا لمقاتلة مروان ابن محمد آخر ملوك بني أمية، فلما هزمت جيوش مروان فر إلى مصر، وقتل هناك، وصفا الجو للسفاح العباسي، فلما مات خلفه أخوه المنصور الذي خاف من أبي مسلم فقتله، وكان أبو مسلم فصيحا بالعربية والفارسية، فارسا، داهية، حازما، كان أسمر قصير القامة، رقيق= =البشرة، حلو المعشر، وهو صاحب الفضل في قيام الدولة العباسية. وفي هامش النسخة التونسية بالخط الكبير أمام قوله: أبو مسلم السراج عنوان كبير يقول: أبو مسلم الخراساني، وقال الزمخشري: "أبو مسلم صاحب الدولة".
[7550]:قال أبو حيان في (البحر المحيط): "الأولى حمل قوله: (إن ولي المقتول) على التفسير لا على القراءة؛ لمخالفته السواد، ولأن المستفيض عنه {إنه كان منصورا} كقراءة الجماعة.
[7551]:أخرج هذا الحديث البخاري في الجنائز والنكاح والأشربة والأدب والاستئذان، وأخرجه مسلم في اللباس، والترمذي في الأدب، والنسائي في الإيمان، وأحمد في مسنده (4 – 284، 299) ، ولفظه كما في كتاب الجنائز في البخاري، عن البراء رضي الله عنه قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، نهانا عن سبع، أمرنا باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصر المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس، ونهانا عن آنية الفضة، وخاتم الذهب، والحرير والديباج والقسي والإستبرق، (القسي: نوع من الحرير).
[7552]:ذكره السيوطي في الجامع الصغير بلفظ: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل: كيف أنصره ظالما؟ قال: أخرجه أحمد، والبخاري والترمذي، وهو عن أنس رضي الله عنه، ثم رمز له بالصحة، ثم ذكر رواية أخرى عن جابر رضي الله عنه، أخرجها الدارمي وابن عساكر، ورمز لها السيوطي بالحسن، ولفظها: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، إن يك ظالما فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلوما فانصره).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

معلومة حالة العرب في الجاهلية من التسرع إلى قتل النفوس فكان حفظ النفوس من أعظم القواعد الكلية للشريعة الإسلامية . ولذلك كان النهي عن قتل النفس من أهم الوصايا التي أوصى بها الإسلام أتباعه في هذه الآيات الجامعة . وهذه هي الوصية التاسعة .

والنفس هنا الذات كقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] وقوله : { أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } [ المائدة : 32 ] وقوله : { وما تدري نفس بأي أرض تموت } [ لقمان : 34 ] . وتطلق النفس على الروح الإنساني وهي النفس الناطقة .

والقتل : الإماتة بفعل فاعل ، أي إزالة الحياة عن الذات .

وقوله : { حرم الله } حُذف العائد من الصلة إلى الموصول لأنه ضمير منصوب بفعل الصلة وحذفه كثير . والتقدير : حرمها الله . وعلق التحريم بعين النفس ، والمقصود تحريم قتلها .

ووصفت النفس بالموصول والصلة بمقتضى كون تحريم قتلها مشهوراً من قبلِ هذا النهي ، إما لأنه تقرر من قبلُ بآيات أخرى نَزلت قبل هذه الآية وقبلَ آية الأنعام حكماً مفرقاً وجمعت الأحكام في هذه الآية وآية الأنعام ، وإما لتنزيل الصلة منزلة المعلوم لأنها مما لا ينبغي جهله فيكون تعريضاً بأهل الجاهلية الذين كانوا يستخفون بقتل النفس بأنهم جهلوا ما كان عليهم أن يعلموه ، تنويهاً بهذا الحكم . وذلك أن النظر في خلق هذا العالم يهدي العقول إلى أن الله أوجد الإنسان ليعمرُ به الأرض ، كما قال تعالى : { هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها } [ هود : 61 ] ، فالإقدام على إتلاف نفس هدم لما أراد الله بناءه ، على أنه قد تواتر وشاع بين الأمم في سائر العصور والشرائع من عهد آدم صون النفوس من الاعتداء عليها بالإعدام ، فبذلك وصفت بأنها التي حرم الله ، أي عُرفت بمضمون هذه الصلة .

واستثني من عموم النهي القتل المصاحب للحق ، أي الذي يشهد الحق أن نفساً معينة استحقت الإعدام من المجتمع ، وهذا مجمل يفسره في وقت النزول ما هو معروف من أحكام القَود على وجه الإجمال .

ولما كانت هذه الآيات سيقت مساق التشريع للأمة وإشعاراً بأن سيَكون في الأمة قضاء وحُكم فيما يستقبل أبقي مجملاً حتى تفسره الأحكام المستأنفة من بعد ، مثل آية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إلى قوله : { وأعد له عذاباً عظيماً } [ النساء : 92 93 ] .

فالباء في قوله : { بالحق } للمصاحبة ، وهي متعلّقة بمعنى الاستثناء ، أي إلا قتلاً ملابساً للحق .

والحق بمعنى العدل ، أو بمعنى الاستحقاق ، أي حَق القتل ، كما في الحديث : » " فإذا قالوها ( أي لا إله إلا الله ) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " .

ولما كان الخطاب بالنهي لجميع الأمة كما دل عليه الفعل في سياق النهي كان تعيين الحق المبيح لقتل النفس موكولاً إلى من لهم تعيين الحقوق .

ولما كانت هذه الآية نازلة قبل الهجرة فتعيين الحق يجري على ما هو متعارف بين القبائل ، وهو ما سيذكر في قوله تعالى عقب هذا : { ومن قتل مظلوماً } الآية .

وحين كان المسلمون وقت نزول هذه الآية مختلطين في مكة بالمشركين ولم يكن المشركون أهلاً للثقة بهم في الطاعة للشرائع العادلة ، وكان قد يعرض أن يعتدي أحد المشركين على أحد المسلمين بالقتل ظلماً أمر الله المسلمين بأن المظلوم لا يظلِم ، فقال : { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطانا } أي قد جَعل لولي المقتول تصرفاً في القاتل بالقود أو الدية .

والسلطان : مصدر من السلطة كالغُفران ، والمراد به ما استقر في عوائدهم من حكم القود .

وكونه حقاً لولي القتيل يأخذ به أو يعفو أوْ يأخذ الدية ألهمهم الله إليه لئلا ينزوا أولياء القتيل على القاتل أو ذويه ليقتلوا منهم من لم تجْن يداه قتلاً . وهكذا تستمر الترات بين أخذ ورد ، فقد كان ذلك من عوائدهم أيضاً .

فالمراد بالجعل ما أرشد الله إليه أهلَ الجاهلية من عادة القود .

والقود من جملة المستثنى بقوله : { إلا بالحق } ، لأن القود من القاتل الظالم هو قتل للنفس بالحق . وهذه حالة خصها الله بالذكر لكثرة وقوع العدوان في بقية أيام الجاهلية ، فأمر الله المسلمين بقبول القود . وهذا مبدأ صلاح عظيم في المجتمع الإسلامي ، وهو حمل أهله على اتباع الحق والعدل حتى لا يكون الفساد من طرفين فيتفاقم أمره ، وتلك عادة جاهلية . قال الشميذر الحارثي :

فلسنا كمن كنتم تصيبون سَلّة *** فنقبَلَ ضيماً أو نحكم قاضيــــا

ولكن حكم السيف فينا مسلط *** فنرضَى إذا ما أصبح السيف راضيا

فنهى الله المسلمين عن أن يكونوا مثالاً سيئاً يقابلوا الظلم بالظلم كعادة الجاهلية بل عليهم أن يتبعوا سبيل الإنصاف فيقبلوا القود ، ولذلك قال : { فلا يسرف في القتل } .

والسرف : الزيادة على ما يقتضيه الحق ، وليس خاصاً بالمال كما يفهم من كلام أهل اللغة . فالسرف في القتل هو أن يقتل غير القاتل ، أما مع القاتل وهو واضح كما قال المُهلهل في الأخذ بثأر أخيه كليب :

كل قتيل في كليب غُرّة *** حتى يعُمّ القتلُ آلَ مُرّة

وأما قتل غير القاتل عند العجز عن قتل القاتل فقد كانوا يقتنعون عن العجز عن القاتل بقتل رجل من قبيلة القاتل . وكانوا يتكايلون الدماء ، أي يجعلون كيلها متفاوتاً بحسب شرف القتيل ، كما قالت كبشة بنتُ معديكرب :

فيقتلَ جَبْرا بامرىءٍ لم يكن له *** بَواءً ولكن لا تكايُل بالدم

البواء : الكفء في الدم . تريد فيقتلَ القاتلَ وهو المسمّى جبراً ، وإن لم يكن كفؤاً لعبد الله أخيها ، ولكن الإسلام أبطل التكايل بالدم .

وضمير { يسرف } بياء الغيبة ، في قراءة الجمهور ، يعود إلى الولي مظنة السرف في القتل بحسب ما تعودوه . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف بتاء الخطاب أي خطاب للولي .

وجملة { إنه كان منصوراً } استئناف ، أي أن ولي المقتول كان منصوراً بحكم القود فلماذا يتجاوز الحد من النصر إلى الاعتداء والظلم بالسرف في القتل . حذرهم الله من السرف في القتل وذكرهم بأنه جعل للولي سلطاناً على القاتل .

وقد أكد ذلك بحرف التوكيد وبإقحام ( كانَ ) الدال على أن الخبر مستقر الثبوت . وفيه إيماء إلى أن من تجاوز حد العدل إلى السرف في القتل لا ينصر .

ومن نكت القرآن وبلاغته وإعجازه الخفي الإتيان بلفظ ( سلطان ) هنا الظاهر في معنى المصدر ، أي السلطة والحق والصالح لإرادة إقامة السلطان ، وهو الإمام الذي يأخذ الحقوق من المعتدين إلى المعتدَى عليهم حين تنتظم جامعة المسلمين بعد الهجرة . ففيه إيماء إلى أن الله سيجعل للمسلمين دولة دائمة ، ولم يكن للمسلمين يوم نزول الآية سلطان .

وهذا الحكم منوط بالقتل الحادث بين الأشخاص وهو قتل العدوان ، فأما القتل الذي هو لحماية البيضة والذب عن الحوزة ، وهو الجهاد ، فله أحكام أخرى . وبهذا تعلم التوجيه للإتيان بضمير جماعة المخاطبين على ما تقدم في قوله تعالى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] وما عطف عليه من الضمائر .

واعلم أن جملة { ومن قتل مظلوماً } معطوفة على جملة { ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق } عطف قصة على قصة اهتماماً بهذا الحكم بحيث جعل مستقلاً ، فعُطف على حكم آخر ، وإلا فمقتضى الظاهر أن تكون مفصولة ، إما استئنافاً لبيان حكم حالة تكثر ، وإما بدل بعضضٍ من جملة { إلا بالحق } .

و ( مَن ) موصولة مبتدأ مراد بها العموم ، أي وكل الذي يقتل مظلوماً . وأُدخلت الفاء في جملة خبر المبتدأ لأن الموصول يعامل معاملة الشرط إذا قصد به العموم والربط بينه وبين خبره .

وقوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } هو في المعنى مقدمة للخبر بتعجيل ما يُطمئِن نفسَ ولي المقتول . والمقصود من الخبر التفريع بقوله تعالى : { فلا يسرف في القتل } ، فكان تقديم قوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } تمهيداً لقبول النهي عن السرف في القتل ، لأنه إذا كان قد جُعل له سلطان فقد صار الحكم بيده وكفاه ذلك شفاءً لغليله .

ومن دلالة الإشارة أن قوله : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } إشارة إلى إبطال تولي ولي المقتول قتلَ القاتل دون حكم من السلطان ، لأن ذلك مظنة للخطأ في تحقيق القاتل ، وذريعة لحدوث قتل آخر بالتدافع بين أولياء المقتول وأهل القاتل ، ويجر إلى الإسراف في القتل الذي ما حدث في زمان الجاهلية إلا بمثل هذه الذريعة ، فضمير { فلا يسرف } عائد إلى « وليه » .

وجملة { إنه كان منصوراً } تعليل للكف عن الإسراف في القتل ، والضمير عائد إلى « وليه » .

و ( في ) من قوله : { في القتل } للظرفية المجازية ، لأن الإسراف يجول في كسب ومال ونحوه ، فكأنه مظروف في جملة ما جال فيه .

ولما رأى بعض المفسرين أن الحكم الذي تضمنته هذه الآية لا يناسب إلا أحوال المسلمين الخالصين استبعد أن تكون الآية نازلة بمكة فزعم أنها مدنية ، وقد بينا وجه مناسبتها وأبطلنا أن تكون مكية في صدر هذه السورة .