فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

{ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ( 33 ) }

ولما فرغ سبحانه من ذكر النهي عن القتل لخصوص الأولاد وعن النهي عن الزنا الذي يفضي إلى ما يفضي إليه قتل الأولاد من اختلاط الأنساب وعدم استقرارها نهى عن قتل الأنفس المعصومة على العموم فقال : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ } أي التي جعلها الله معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد ، والأصل في القتل هو الحرمة الغليظة ، وحل القتل إنما يثبت بسبب عارض فلما كان كذلك نهى الله عن القتل على حكم الأصل .

ثم استثنى الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهي الأسباب العارضة فقال : { إِلاَّ بِالحَقِّ } كالردة والزنا من المحصن وكالقصاص من القاتل عمدا عدوانا وما يلتحق بذلك والاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب متلبس بالحق أو إلا متلبسين بالحق ، وقد تقدم الكلام في هذا في الأنعام .

وعن الضحاك قال : نزل هذا بمكة ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بها وهو أول شيء نزل من القرآن في شأن القتل ، كان المشركون من أهل مكة يغتالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الله من قتلكم من المشركين فلا يحملنكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أبا أو أخا أو واحدا من عشيرته وإن كانوا مشركين فلا تقتلوا إلا قاتلكم .

وهذا قبل أن تنزل براءة وقبل أن يؤمر بقتال المشركين فذلك قوله : { فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } يقول لا تقتل غير قاتلك وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين لا يحل لهم أن يقتلوا إلا قاتلهم .

ثم بين حكم بعض المقتولين بغير حق فقال : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا } أي لا بسبب من الأسباب المسوغة لقتله شرعا وهو أحد ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل مؤمن معصوم عمدا كما في الحديث { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ } أي لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين أو لمن له سلطان إن لم يكونوا موجودين { سُلْطَانًا } أي تسلطا على القاتل إن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية قال ابن عباس : سلطانا بينة من الله أنزلها يطلبها ولي المقتول القود أو العقل .

ثم لما بين إباحة القصاص لمن هو مستحق لدم المقتول أو ما هو عوض عن القصاص نهاه عن مجاوزة الحد فقال : { فَلاَ يُسْرِف } أي لا يجاوز الولي إباحة الله له { فِّي الْقَتْلِ } فيقتل بالواحد الاثنين أو جماعة أو يمثل بالقاتل أو يعذبه وقرأ الجمهور بالتحتية وقرئ بالفوقية فهو خطاب للقاتل الأول ونهي له عن القتل أي فلا تسرف أيها القاتل المتعدي بالقتل بغير الحق فإن عليك القصاص مع ما عليك من عقوبة الله وسخطه ولعنته .

وقال ابن جرير الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وللأمة من بعده أي لا تقتل يا محمد غير القاتل ولا تفعل ذلك الأئمة بعدك وفي قراءة أبي لا تسرفوا قال مجاهد : معنى لا يسرف لا يكثر ولا يقاتل إلا القاتل رحمه ، وعن زيد بن أسلم أن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلا لم يرضوا بقتل قاتله حتى يقتلوا به رجلا شريفا وإذا كان قتيلهم شريفا لم يقتلوا قاتله وحده بل قتلوا معه غيره فوعظوا في ذلك بقول الله سبحانه فلا يسرف في القتل .

ثم علل النهي عن السرف فقال : { إِنَّهُ } يعني ولي المقتول { كَانَ مَنْصُورًا } أي مؤيدا معانا فإن الله سبحانه قد نصره بإثبات القصاص له أو الدية بما أبرزه من الحجج وأوضحه من الأدلة وأمر أهل الولايات بمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه ، ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى المقتول ظلما أي أن الله نصره بوليه يعني منصورا في الدنيا بإيجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله قيل وهذه الآية من أول ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكية كما تقدم .