الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

قوله تعالى : " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } قد مضى الكلام فيه في الأنعام{[10220]} . قوله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا " فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : { ومن قتل مظلوما } أي بغير سبب يوجب القتل . " فقد جعلنا لوليه " أي لمستحق دمه . قال ابن خويز منداد : الولي يجب أن يكون ذكرا ؛ لأنه أفرده بالولاية بلفظ التذكير . وذكر إسماعيل بن إسحاق في قوله تعالى : " فقد جعلنا لوليه " ما يدل على خروج المرأة عن مطلق لفظ الولي ، فلا جرم ، ليس للنساء حق في القصاص لذلك ولا أثر لعفوها ، وليس لها الاستيفاء . وقال المخالف : إن المراد ها هنا بالولي الوارث ، وقد قال تعالى : " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض{[10221]} " [ التوبة : 71 ] ، وقال : " والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء " {[10222]} ، [ الأنفال : 72 ] ، وقال : " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " [ الأنفال : 75 ] فاقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة ، وأما ما ذكروه من أن الولي في ظاهره على التذكير وهو واحد ، كأن ما كان بمعنى الجنس يستوي المذكر والمؤنث فيه ، وتتمته في كتب الخلاف . " سلطانا " أي تسليطا إن شاء قتل وإن شاء عفا ، وإن شاء أخذ الدية ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأشهب والشافعي . وقال ابن وهب قال مالك : السلطان أمر الله . ابن عباس : السلطان الحجة . وقيل : السلطان طلبه حتى يدفع إليه . قال ابن العربي : وهذه الأقوال متقاربة ، وأوضحها{[10223]} قول مالك : إنه أمر الله . ثم إن أمر الله عز وجل لم يقع نصا فاختلف العلماء فيه ، فقال ابن القاسم عن مالك وأبي حنيفة : القتل خاصة . وقال أشهب : الخيرة ، كما ذكرنا آنفا ، وبه قال الشافعي . وقد مضى في سورة " البقرة " {[10224]} هذا المعنى .

الثانية : قوله تعالى : " فلا يسرف في القتل " فيه ثلاثة أقوال : لا يقتل غير قاتله ، قاله الحسن والضحاك ومجاهد وسعيد بن جبير . الثاني : لا يقتل بدل وليه اثنين كما كانت العرب تفعله . الثالث : لا يمثل بالقاتل ، قاله طلق بن حبيب ، وكله مراد لأنه إسراف منهي عنه . وقد مضى في " البقرة " {[10225]} القول في هذا مستوفى . وقرأ الجمهور " يسرف " بالياء ، يريد الولي ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي " تسرف " بالتاء من فوق ، وهي قراءة حذيفة . وروى العلاء بن عبد الكريم عن مجاهد قال : هو للقاتل الأول ، والمعنى عندنا فلا تسرف أيها القاتل . وقال الطبري : هو على معنى الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده . أي لا تقتلوا غير القاتل . وفي حرف أبي " فلا تسرفوا في القتل " .

الثالثة : قوله تعالى : " إنه كان منصورا " أي معانا ، يعني الولي . فإن قيل : وكم من ولي مخذول لا يصل إلى حقه . قلنا : المعونة تكون بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى ، وبمجموعهما ثالثة ، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى . وروى ابن كثير عن مجاهد قال : إن المقتول كان منصورا . النحاس : ومعنى قوله إن الله نصره بوليه . وروي أنه في قراءة أُبَي " فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصورا " . قال النحاس : الأبين بالياء ويكون للولي ؛ لأنه إنما يقال : لا يسرف إن كان له أن يقتل ، فهذا للولي . وقد يجوز بالتاء ويكون للولي أيضا ، إلا أنه يحتاج فيه إلى تحويل المخاطبة . قال الضحاك : هذا أول ما نزل من القرآن في شأن القتل ، وهي مكية{[10226]} .


[10220]:راجع ج 7 ص 130.
[10221]:راجع ج 8 ص 202 و ص 55 و ص 58.
[10222]:راجع ج 8 ص 202 و ص 55 و ص 58.
[10223]:في ج: أظهرها.
[10224]:راجع ج 2 ص 244 فما بعد.
[10225]:راجع ج 2 ص 244 فما بعد.
[10226]:المروي عن الحسن أنها مدنية كما في الألوسي. وهو المتبادر لأنها من الأحكام.