البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا} (33)

ولما نهى عن قتل الأولاد وعن إيجادهم من الطريق غير المشروعة نهى عن قتل النفس فانتقل من الخاص إلى العام ، والظاهر أن هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله : { وقضى ربك } كاندراج { أن لا تعبدوا } وانتصب { مظلوماً } على الحال من الضمير المستكن في { قتل } والمعنى أنه قتل بغير حق ، { فقد جعلنا لوليه } وهو الطالب بدمه شرعاً ، وعند أبي حنيفة وأصحابه اندراج من يرث من الرجال والنساء والصبيان في الولي على قدر مواريثهم ، لأن الولي عندهم هو الوارث هنا .

وقال مالك : ليس للنساء شيء من القصاص ، وإنما القصاص للرجال .

وعن ابن المسيب والحسن وقتادة والحكم : ليس إلى النساء شيء من العفو والدم وللسلطان التسلط على القاتل في الاقتصاص منه أو حجة يثبت بها عليه قاله الزمخشري .

وقال ابن عطية : والسلطان الحجة والملك الذي جعل إليه من التخيير في قبول الدم أو العفو قاله ابن عباس والضحاك .

وقال قتادة : السلطان القود وفي كتاب التحرير السلطان القوة والولاية .

وقال ابن عباس : البيِّنة في طلب القود .

وقال الحسن القود .

وقال مجاهد الحجة .

وقال ابن زيد : الوالي أي والياً ينصفه في حقه ، والظاهر عود الضمير في { فلا يسرف } على الولي ، والإسراف المنهي عنه أن يقتل غير القاتل قاله ابن عباس والحسن ، أو يقتل اثنين بواحد قاله ابن جبير ، أو أشرف من الذي قتل قاله ابن زيد ، أو يمثل قاله قتادة ، أو يتولى القاتل دون السلطان ذكره الزجاج .

وقال أبو عبد الله الرازي : السلطنة مجملة يفسرها { كتب عليكم القصاص } الآية ويدل عليه أنه مخير بين القصاص والدية وقوله عليه السلام يوم الفتح : « من قتل قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية » فمعنى { فلا يسرف في القتل } لا يقدم على استيفاء القتل ، ويكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو ولفظة في محمولة على الباء أي فلا يصير مسرفاً بسبب إقدامه على القتل ، ويكون معناه الترغيب في العفو كما قال { وأن تعفوا أقرب للتقوى } انتهى ملخصاً .

ولو سلم أن { في } بمعنى الباء لم يكن صحيح المعنى ، لأن من قتل بحق قاتل موليه لا يصير مسرفاً بقتله ، وإنما الظاهر والله أعلم النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد ، وقتل غير القاتل والمثلة ومكافأة الذي يقتل من قتله .

وقال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد : بؤ بشسع نعل كليب .

وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في { فلا يسرف } ليس عائداً على الولي ، وإنما يعود على العامل الدال عليه ، ومن قتل أي { لا يسرف } في القتل تعدياً وظلماً فيقتل من ليس له قتله .

وقرأ الجمهور { فلا يسرف } بياء الغيبة .

وقرأ الأخوان وزيد بن عليّ وحذيفة وابن وثاب والأعمش ومجاهد بخلاف وجماعة ، وفي نسخة من تفسير ابن عطية وابن عامر وهو وهم بتاء الخطاب والظاهر أنه على خطاب الولي فالضمير له .

وقال الطبري : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده أي فلا تقتلوا غير القاتل انتهى .

قال ابن عطية : وقرأ أبو مسلم السرّاج صاحب الدعوة العباسية .

وقال الزمخشري قرأ أبو مسلم صاحب الدولة .

وقال صاحب كتاب اللوامح أو مسلم العجلي مولى صاحب الدولة : { فلا يسرف } بضم الفاء على الخبر ، ومعناه النهي وقد يأتي الأمر والنهي بلفظ الخبر .

وقال ابن عطية في الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبيّ فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً انتهى .

رده على ولا تقتلوا والأولى حمل قوله إن ولي المقتول على التفسير لا على القراءة لمخالفته السواد ، ولأن المستفيض عنه { إنه كان منصوراً } كقراءة الجماعة والضمير في { أنه } عائد على الولي لتناسق الضمائر ونصره إياه بأن أوجب له القصاص ، فلا يستزاد على ذلك أو نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق .

وقيل : يعود الضمير على المقتول نصره الله حيث أوجب القصاص بقتله في الدنيا ، ونصره بالثواب في الآخرة .

قال ابن عطية : وهو أرجح لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن الظلم كقوله عليه السلام : « ونصر المظلوم وإبرار القسم » وكقوله : « انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً » إلى كثير من الأمثلة .

وقيل : على القتل .

وقال أبو عبيد : على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد القصد .

وقال الزمخشري : وإنما يعني أن يكون الضمير في أنه الذي بقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف انتهى .

وهذا بعيد جداً .