قوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة } . قال ابن مسعود : قال المؤمنون :يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا ، كان أحدهم إذا أذنب أصبح وكفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه ، اجدع أنفك أو أذنك ، افعل كذا وكذا ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال عطاء : نزلت في تيهان التمار ، وكنيته أبو معبد ، أتته امرأة حسناء ، تبتاع منه تمراً فقال لها ، إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه ، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها وندم على ذلك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية . وقال مقاتل والكلبي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف فخرج الثقفي في غزاة فاستخلف الأنصاري على أهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم ، فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها وقبل يدها ، ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه ، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حالة ، فقالت : لا أكثر الله في الإخوان مثله ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، فطلبه الثقفي حتى وجده فأتى به أبا بكر رجاء أن يجد عنده راحة وفرجاً . فقال الأنصاري : هلكت وذكر القصة ، فقال أبو بكر : ويحك ! أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي مالا يغار للمقيم ، ثم أتيا عمر رضي الله عنه فقال مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ( والذين إذا فعلوا فاحشة ) . يعني قبيحة خارجة عما أذن الله تعالى فيه ، وأصل الفحش القبح والخروج عن الحد ، قال جابر : الفاحشة الزنا .
قوله تعالى : { أو ظلموا أنفسهم } . مادون الزنا من القبلة والمعانقة ، والنظر واللمس . وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل ( أو ظلموا أنفسهم ) بالمعصية . وقيل : فعلوا فاحشة الكبائر أو ظلموا أنفسهم بالصغائر . وقيل : فعلوا فاحشة فعلاً أو ظلموا أنفسهم قولاً .
قوله تعالى : { ذكروا الله } . أي : ذكروا وعيد الله وأن الله سائلهم ، وقال مقاتل بن حيان : ذكروا الله باللسان عند الذنوب .
قوله تعالى : { فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله } . أي وهل يغفر الذنوب إلا الله .
قوله تعالى : { ولم يصروا على ما فعلوا } . أي لم يقيموا ولم يثبتوا عليه ولكن تابوا وأنابوا واستغفروا ، وأصل الإصرار الثبات على الشيء . قال الحسن : إتيان العبد ذنباً عمداً إصرار حتى يتوب . وقال السدي : الإصرار السكوت وترك الاستغفار .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الزياتي ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أنا يحيى بن يحيى ، أنا عبد الحميد بن عبد الرحمن ، عن عثمان بن واقد العمري ، عن أبي نصيرة قال : لقيت مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له : أسمعت من أبي بكر شيئاً ؟ قال : نعم . سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أصر من استغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مرة " . قوله تعالى : { وهم يعلمون } . قال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي : وهم يعلمون أنها معصية ، وقيل : وهم يعلمون أن الإصرار ضار ، وقال الضحاك : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرة الذنوب ، وقال الحسين بن الفضل : إن له رباً يغفر الذنوب ، وقيل : وهم يعلمون أن الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وإن كثرت ، وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم .
{ والذين إذا فعلوا فاحشة } : فعلة بالغة في القبح كالزنى . { أو ظلموا أنفسهم } : بأن أذنبوا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة ، ولعل الفاحشة ما يتعدى وظلم النفس ما ليس كذلك . { ذكروا الله } تذكروا وعيده أو حكمه أو حقه العظيم . { فاستغفروا لذنوبهم } : بالندم والتوبة . { ومن يغفر الذنوب إلا الله } : استفهام بمعنى النفي معترض بين المعطوفين ، والمراد به وصفه تعالى بسعة الرحمة وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة ، { ولم يصروا على ما فعلوا } : ولم يقيموا على ذنوبهم غير مستغفرين لقوله صلى الله عليه وسلم " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " . { وهم يعلمون } : حال من يصروا أي ولم يصروا على قبيح فعلهم عالمين به .
ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفاً دون الصنف الأول ، فألحقهم بهم برحمته ومنه ، فهؤلاء هم التوابون ، وروي في سبب هاتين الآيتين : أن الصحابة قالوا : يا رسول الله ، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح وعقوبته مكتوبة على باب داره ، فأنزل الله هذه الآية توسعة ورحمة وعوضاً من ذلك الفعل ببني إسرائيل ، ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية{[3544]} ، وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما من عبد يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ويصلي ركعتين ويستغفر إلا غفر له »{[3545]} ، وقوله { والذين } عطف جملة ناس على جملة أخرى ، وليس { الذين } بنعت كرر معه واو العطف ، لأن تلك الطبقة الأولى تنزه عن الوقوع في الفواحش ، و «الفاحشة » هنا صفة لمحذوف أقيمت الصفة مقامه ، التقدير : فعلوا فعلة فاحشة ، وهو لفظ يعم جميع المعاصي ، وقد كثر اختصاصه بالزنا ، حتى فسر السدي هذه الآية بالزنا ، وقال جابر بن عبد الله لما قرأها : زنى القوم ورب الكعبة ، وقال إبراهيم النخعي : الفاحشة من الظلم ، والظلم من الفاحشة وقال قوم : الفاحشة في هذه الآية إشارة إلى الكبائر ، وظلم النفس إشارة إلى الصغائر ، و { ذكروا الله } معناه : بالخوف من عقابه والحياء منه ، إذ هو المنعم المتطول ومن هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رحم الله صهيباً لو لم يخف الله لم يعصه ، و { استغفروا } معناه : طلبوا الغفران ، واللام معناها : لأجل «ذنوبهم » ، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى : { ومن يغفر الذنوب إلا الله } ، اعتراضاً مرققا للنفس ، داعياً إلى الله ، مرجياً في عفوه ، إذا رجع إليه ، وجاء اسم { الله } مرفوعاً بعد الاستثناء والكلام موجب ، حملاً على المعنى ، إذ هو بمعنى وما يغفر الذنوب إلا الله ، وقوله تعالى : { ولم يصروا } الإصرار معناه : اعتزام الدوام على الأمر ، وترك الإقلاع عنه ، ومنه صر الدنانير ، أي الربط عليها ، ومنه قول أبي السمال قعنب العدوي : «علم الله أنها مني صرى » .
يريد : عزيمة . فالإصرار اعتزام البقاء على الذنب ، ومنه قول النبي عليه السلام :< لا توبة مع إصرار>{[3546]} ، وقال أيضاً :< ما أصر من استغفر>{[3547]} ، واختلفت عبارة المفسرين في الإصرار ، فقال قتادة : هو الذي مضى قدماً في الذنب لا تنهاه مخافة الله . وقال الحسن ، إتيان العبد الذنب هو الإصرار حتى يتوب ، وقال مجاهد : { لم يصروا } معناه : لم يمضوا وقال السدي : «الإصرار » هو ترك الاستغفار ، والسكوت عنه مع الذنب{[3548]} ، وقوله تعالى : { وهم يعلمون } قال السدي : معناه وهم يعلمون أنهم قد أذنبوا ، وقال ابن إسحاق : معناه ، وهم يعلمون بما حرمت عليهم ، وقال آخرون : معناه ، وهم يعلمون أن باب التوبة مفتوح لهم وقيل : المعنى ، وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار .