الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (135)

{ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } الآية .

قال ابن عباس : " قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منّا ، كان أحدهم إذا أذنب ذنباً أصبحت كفارة ذنبهم مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك وأذنك ، افعل كذا ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بخير من ذلك " فقرأ عليهم هذه الآيات " .

وقال عطاء : نزلت هذه الآية في نبهان التمار وكنيته أبو مقبل أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمراً فقال لها : إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فهل لك فيه ؟ قالت : نعم ، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها وندم على ذلك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية .

وقال مقاتل والكلبي : " آخا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف ، فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله ، فاشترى لهم اللحم ذات يوم ، فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها فدخلت المرأة بيتاً فتبعها فاتقته بيدها ، فقبّل يدها ثم ندم وانصرف ، فقالت له : والله ما حفظت غيبة أخيك ولا نلت حاجتك ، فخرج الأنصاري ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه ، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله .

فقالت : لا أكثر الله في الاخوان مثله ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، وطلبه الثقفي حتى وجده ، فأتى به أبا بكر( رضي الله عنه ) رجاء أن يجدا راحة عنده فخرجا ، وقال الأنصاري : هلكت ، قال : وما أهلكك ؟ فذكر له القصة ، فقال أبو بكر : ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ، ثم لقى عمر( رضي الله عنه ) فقال : مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما ، فأنزل الله تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } " هي صفة لاسم متروك تقديره : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } يعني قبيحة خارجة عمّا أذن الله فيه ، وأصل الفحش القبيح والخروج عن الحد ، ولذلك قيل للمفرط في الطول أنه فاحش الطول ، والكلام القبيح غير [ القصد ] فالكلام فاحش والمتكلم به مفحش .

قال السدي : يعني بالفاحشة هاهنا الزّنا ، يدل عليه ما روى حماد بن ثابت عن جابر { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً } قال : زنى القوم وربّ الكعبة ، أو ظلموا أنفسهم بالمعصية .

وقال مقاتل والكلبي : وهو ما دون الزنا من قُبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل .

الأصم : فعلوا فاحشة الكبائر أو ظلموا أنفسهم بالصغائر ، وقيل : فعلوا فاحشة فعلا وظلموا أنفسهم قولا .

{ ذَكَرُواْ اللَّهَ } قال الضحاك : ذكروا العرض الأكبر على الله عزّ وجلّ ، مقاتل والواقدي : تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه ، مقاتل بن حيان : ذكروا الله باللسان عند الذنوب فاستغفروا لذنوبهم . { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ } : أي وهل يغفر الذنوب إلاّ الله وما يغفر الذنوب إلاّ الله ؛ فلذلك رفع . { وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ } واختلفوا في معنى الإصرار :

فقال أكثر المفسرين : معناه لم يقيموا ولم يدوموا ولم يثبتوا عليه ، ولكنهم تابوا وأقرّوا واستغفروا .

قتادة : إيّاكم والإصرار ، فإنما هلك المصرون الماضون قدماً قدماً في معاصي الله ، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله ، ولا يتوبون من ذنب أصابوه ، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك .

وقال الحسن : اتيان العبد ذنباً عمداً إصراراً ، السدي : الإصرار السكوت وترك الاستغفار ، وفي الخبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أصرَّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " .

وروى عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس كبيرة بكبيرة مع الاستغفار وليس صغيرة بصغيرة مع الإصرار " وأصل الإصرار الثبات على الشيء .

قال الحُطيئة : يصف الخيل : عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا *** غلالتها بالمحصدات أصرّت

أي ثبتت على عدوّها ، نظم الآية : ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ، { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ } .

قال ابن عباس والحسن ومقاتل وابن يسار : ( وهم يعلمون ) أنها معصية .

الضحاك : ( وهم يعلمون ) أن الله يملك مغفرة ذنوبهم . السدي : ( وهم يعلمون ) أنهم قد أذنبوا . وقيل : ( وهم يعلمون ) أن الإصرار ضار ، فإن ترك الإصرار خير من التمادي ، كما قيل : أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه *** إن الجحود الذنب ذنبان

وقال الحسين بن الفضل : ( وهم يعلمون ) أن لهم ربّاً يغفر الذنوب ، وإنما اقتبس هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أذنب ذنباً وعلم أن له ربّاً يغفر الذنوب غفر له وإن لم يستغفر " .

وقال صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عزّ وجلّ : من علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أُبالي " .

وقال عبيد بن عمير : في بعض الكتب المنزلة : يابن آدم إنك ما دعوتني وما رجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي . وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مرَّ رجل ممّن كان قبلكم في بني إسرائيل بجمجمة فنظر إليها فحدث نفسه بشيء ثم قال : أنت أنت وأنا أنا ، أنت العواد بالمغفرة وأنا العواد بالذنوب ثم خرَّ لله ساجداً ، فقيل له ارفع رأسك فأنا العواد بالمغفرة وأنت العواد بالذنوب فرفع رأسه فغفر له " " .

وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم وإن التوبة تمحق الحوبة .