الأولى : قوله تعالى : " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " ذكر الله تعالى في هذه الآية صنفا ، هم دون الصنف الأول فألحقهم به{[3496]} برحمته ومَنِّه ، فهؤلاء هم التوابون . قال ابن عباس في رواية عطاء : نزلت هذه الآية في نبهان التمار - وكنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء باع منها تمرا ، فضمها إلى نفسه وقبلها فندم{[3497]} على ذلك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فنزلت هذه الآية . وذكر أبو داود الطيالسي في مسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : حدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له ) - ثم تلا هذه الآية - " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " - الآية ، والآية الأخرى - " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " {[3498]} [ النساء : 110 ] . وخرجه الترمذي وقال : حديث حسن . وهذا عام . وقد تنزل الآية بسبب خاص ثم تتناول جميع من فعل ذلك أو أكثر منه . وقد قيل : إن سبب نزولها أن ثقفيا خرج في غزاة وخلف صاحبا له أنصاريا على أهله ، فخانه فيها بأن اقتحم عليها فدفعت عن نفسها فقبل يدها ، فندم{[3499]} على ذلك فخرج يسيح في الأرض نادما تائبا ، فجاء الثقفي فأخبرته زوجته بفعل صاحبه ، فخرج في طلبه ، فأتى به إلى أبي بكر وعمر رجاء أن يجد عندهما فرجا فوبخاه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بفعله ، فنزلت هذه الآية . والعموم أولى للحديث . وروي عن ابن مسعود أن الصحابة قالوا : يا رسول الله ، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا ، حيث كان المذنب منهم تصبح عقوبته مكتوبة{[3500]} على باب داره ، وفي رواية : كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره : اجْدَع أنفك ، اقطع أذنك ، افعل كذا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية توسعة ورحمة وعوضا من ذلك الفعل ببني إسرائيل . ويروى أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية . والفاحشة تطلق على كل معصية ، وقد كثر اختصاصها بالزنا حتى فسر جابر بن عبدالله والسدي هذه الآية بالزنا . و " أو " في قوله : " أو ظلموا أنفسهم " قيل هي بمعنى الواو ، والمراد ما دون الكبائر . " ذكروا الله " معناه بالخوف من عقابه والحياء منه . الضحاك : ذكروا العرض الأكبر على الله . وقيل تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه ، قاله الكلبي ومقاتل . وعن مقاتل أيضا : ذكروا الله باللسان عند الذنوب . " فاستغفروا لذنوبهم " أي طلبوا الغفران لأجل ذنوبهم . وكل دعاء فيه هذا المعنى أو لفظه فهو استغفار . وقد تقدم في صدر هذه السورة{[3501]} سيد الاستغفار وإن وقته الأسحار . فالاستغفار عظيم وثوابه جسيم ، حتى لقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف ) . وروى مكحول عن أبي هريرة قال : ما رأيت أكثر استغفارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال مكحول : ما رأيت أكثر استغفارا من أبي هريرة . وكان مكحول كثير الاستغفار . قال علماؤنا : الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان ، لا التلفظ باللسان . فأما من قال بلسانه : أستغفر الله ، وقلبه مصر على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار ، وصغيرته لاحقة بالكبائر . وروي عن الحسن البصري أنه قال : استغفارنا يحتاج إلى استغفار .
قلت : هذا يقوله في زمانه ، فكيف في زماننا هذا الذي يرى فيه الإنسان مكبا على الظلم ! حريصا عليه لا يقلع ، والسُّبْحة في يده زاعما أنه يستغفر الله من ذنبه وذلك استهزاء منه واستخفاف . وفي التنزيل " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " [ البقرة : 231 ] . وقد تقدم{[3502]} .
الثانية : قوله تعالى : " ومن يغفر الذنوب إلا الله " أي ليس أحد يغفر المعصية ولا يزيل عقوبتها إلا الله . " ولم يصروا على ما فعلوا " أي ولم يثبتوا ويعزموا على ما فعلوا . وقال مجاهد : أي ولم يمضوا . وقال معبد بن صبيح : صليت خلف عثمان وعلي إلى جانبي ، فأقبل علينا فقال : صليت بغير وضوء ثم ذهب فتوضأ وصلى . " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " . الإصرار هو العزم بالقلب على الأمر وترك الإقلاع عنه . ومنه صر الدنانير أي الربط عليها ، قال الحطيئة يصف الخيل :
عوابس بالشُّعْث الكُمَاةِ إذا ابتغوا *** عُلالتها بالمُحْصَدَاتِ{[3503]} أَصَرَّتِ
أي ثبتت على عدْوِها . وقال قتادة : الإصرار الثبوت على المعاصي ، قال الشاعر :
يُصِرُّ بالليل ما تُخفِي شَوَاكلُه{[3504]} *** يا ويح كلِّ مُصِرّ القلبِ خَتَّارِ{[3505]}
قال سهل بن عبد الله : الجاهل ميت ، والناسي نائم ، والعاصي سكران ، والمصر هالك ، والإصرار هو التسويف ، والتسويف أن يقول : أتوب غدا ، وهذا دعوى النفس ، كيف يتوب غدا لا يملكه ! . وقال غير سهل : الإصرار هو أن ينوي ألاّ يتوب فإذا نوى التوبة النصوح{[3506]} خرج عن الإصرار . وقول سهل أحسن . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا توبة مع إصرار ) .
الثالثة : قال علماؤنا : الباعث على التوبة وحل الإصرار إدامة الفكر في كتاب الله العزيز الغفار ، وما ذكره الله سبحانه من تفاصيل الجنة ووعد به المطيعين ، وما وصفه من عذاب النار وتهدد به العاصين ، ودام على ذلك حتى قوي خوفه ورجاؤه فدعا الله رغبا ورهبا ، والرغبة والرهبة ثمرة الخوف والرجاء ، يخاف من العقاب ويرجو الثواب ، والله الموفق للصواب . وقد قيل : إن الباعث على ذلك تنبيه إلهي ينبه به من أراد سعادته ؛ لقبح الذنوب وضررها إذ هي سموم مهلكة .
قلت : وهذا خلاف في اللفظ لا في المعنى ، فإن الإنسان لا يتفكر في وعد الله ووعيده إلا بتنبيهه ، فإذا نظر العبد بتوفيق الله تعالى إلى نفسه فوجدها مشحونة بذنوب اكتسبها وسيئات اقترفها ، وانبعث منه الندم على ما فرط ، وترك مثل ما سبق مخافة عقوبة الله تعالى صدق عليه أنه تائب ، فإن لم يكن كذلك كان مصرا على المعصية وملازما لأسباب الهلكة . قال سهل بن عبد الله : علامة التائب أن يشغله الذنب على الطعام والشراب ، كالثلاثة الذين خُلِّفوا{[3507]} .
الرابعة : قوله تعالى : " وهم يعلمون " فيه أقوال . فقيل : أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها . قال النحاس : وهذا قول حسن . وقيل : " وهم يعلمون " أني أعاقب على الإصرار . وقال عبد الله بن عبيد بن عمير : " وهم يعلمون " أنهم إن تابوا تاب الله عليهم . وقيل : " يعلمون " أنهم إن استغفروا غفر لهم . وقيل : " يعلمون " بما حرمت عليهم ، قاله ابن إسحاق . وقال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبي : " وهم يعلمون " أن الإصرار ضار ، وأن تركه خير من التمادي . وقال الحسن بن الفضل : " وهم يعلمون " أن لهم ربا يغفر الذنب .
قلت : وهذا أخذه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال : ( أذنب عبد{[3508]} ذنبا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أي رب اغفر لي ذنبي - فذكر مثله مرتين ، وفي آخره : اعمل ما شئت فقد غفرت لك ) أخرجه مسلم . وفيه دليل على صحة التوبة بعد نقضها بمعاودة الذنب ؛ لأن التوبة الأولى طاعة وقد انقضت وصحت ، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أخرى مستأنفة ، والعود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه ؛ لأنه أضاف{[3509]} إلى الذنب نقض التوبة ، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها ؛ لأنه أضاف{[3510]} إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم ، وإنه لا غافر للذنوب سواه . وقوله في آخر الحديث ( اعمل ما شئت ) أمر معناه الإكرام في أحد الأقوال ، فيكون من باب قوله : " ادخلوها بسلام " {[3511]} [ الحجر : 46 ] . وآخر الكلام خبر{[3512]} عن حال المخاطب بأنه مغفور له ما سلف من ذنبه ، ومحفوظ إن شاء الله تعالى فيما يستقبل من شأنه .
ودلت الآية والحديث على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه ) أخرجاه في الصحيحين . وقال :
يستوجبُ العفوَ الفتى إذا اعترف *** بما جنى من الذنوب واقْتَرَفْ
أقْرِرْ بذنبك ثم اطلب تجاوزه *** إن الجحودَ جحودَ الذنب ذَنْبَان
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ) . وهذه فائدة اسم الله تعالى الغفار والتواب ، على ما بيناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى .
الخامسة : الذنوب التي يتاب منها إما كفر أو غيره ، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على ما سلف من كفره ، وليس مجرد الإيمان نفس توبة ، وغير الكفر إما حق لله تعالى ، وإما حق لغيره ، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه الترك ؛ غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرد الترك بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء كالصلاة والصوم ، ومنها ما أضاف إليها كفارة كالحنث في الأيمان والظهار وغير ذلك ، وأما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلي مستحقيها ، فإن لم يوجدوا تصدق عنهم ، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعسار فعفو الله مأمول ، وفضله مبذول ، فكم ضمن من التبعات وبدل من السيئات بالحسنات . وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى{[3513]} .
السادسة : ليس على الإنسان إذا لم يذكر ذنبه ويعلمه أن يتوب منه بعينه ، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبا تاب منه . وقد تأول كثير من الناس فيما ذكر شيخنا أبو محمد عبد المعطي الإسكندراني رضي الله عنه أن الإمام المحاسبي رحمه الله يرى أن التوبة من أجناس المعاصي لا تصح ، وإن الندم على جملتها لا يكفي ، بل لا بد أن يتوب من كل فعل بجارحته وكل عقد بقلبه على التعيين . ظنوا ذلك من قوله ، وليس هذا مراده ، ولا يقتضيه كلامه ، بل حكم المكلف إذا عرف حكم أفعاله ، وعرف المعصية من غيرها ، صحت منه التوبة من جملة ما عرف ، فإنه إن لم يعرف كون فعله الماضي معصية لا يمكنه أن يتوب منه لا على الجملة ولا على التفصيل ، ومثاله رجل كان يتعاطى بابا من أبواب الربا ولا يعرف أنه ربا فإذا سمع كلام الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " {[3514]} [ البقرة : 279 ] عظم عليه هذا التهديد ، وظن أنه سالم من الربا ، فإذا علم حقيقة الربا الآن ، ثم تفكر فيما مضى من أيامه وعلم أنه لابس منه شيئا كثيرا في أوقات متقدمة ، صح أن يندم عليه الآن جملة ، ولا يلزمه تعيين أوقاته ، وهكذا كل ما واقع من الذنوب والسيئات كالغيبة والنميمة وغير ذلك من المحرمات التي لم يعرف كونها محرمة ، فإذا فقه العبد وتفقد ما مضى من كلامه تاب من ذلك جملة ، وندم على ما فرط فيه من حق الله تعالى ، وإذا استحل من كان ظلمه فحالَلَه على الجملة وطابت نفسه بترك حقه جاز ؛ لأنه من باب هبة المجهول ، هذا مع شح العبد وحرصه على طلب حقه ، فكيف بأكرم الأكرمين المتفضل بالطاعات وأسبابها والعفو عن المعاصي صغارها وكبارها . قال شيخنا رحمه الله تعالى : هذا مراد الإمام ، والذي يدل عليه كلامه لمن تفقده ، وما ظنه به الظان من أنه لا يصح الندم إلا على فعل فعل ، وحركة حركة ، وسكنة سكنة على التعيين هو من باب تكليف مالا يطاق ، الذي لم يقع شرعا وإن جاز عقلا ، ويلزم عنه أن يعرف كم جرعة جرعها في شرب الخمر ، وكم حركة تحركها في الزنا ، وكم خطوة مشاها إلى محرم ، وهذا مالا يطيقه أحد ، ولا تتأتى منه توبة على التفصيل . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان من أحكام التوبة وشروطها في " النساء " {[3515]} وغيرها إن شاء الله تعالى .
السابعة : في قوله تعالى : " ولم يصروا " حجة واضحة ودلالة قاطعة لما قاله سيف السنة ، ولسان الأمة القاضي أبو بكر بن الطيب : أن الإنسان يؤاخذ بما وطن عليه بضميره{[3516]} ، وعزم عليه بقلبه من المعصية .
قلت : وفي التنزيل : " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " {[3517]} [ الحج : 25 ] وقال : " فأصبحت كالصريم " {[3518]} [ القلم : 20 ] . فعوقبوا قبل فعلهم بعزمهم وسيأتي بيانه . وفي البخاري ( إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ) قالوا : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : ( إنه كان حريصا على قتل صاحبه ) . فعلق الوعيد على الحرص وهو العزم وألغى إظهار السلاح ، وأنَصُّ من هذا ما خرجه الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري وصححه مرفوعا ( إنما الدنيا لأربعة نفر رجل أعطاه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم الله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل ، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فأجرهما سواء ، ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط في ماله بغير علم{[3519]} لا يتقي فيه ربه ولا يصل به رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل ، ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فوزرهما سواء ) . وهذا الذي صار إليه القاضي هو الذي عليه عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ، ولا يُلتفت إلى خلاف من زعم أن ما يهم الإنسان به وإن وطن عليه{[3520]} لا يؤاخذ به . ولا حجة له{[3521]} في قوله عليه السلام : ( من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه فإن عمِلها كتبت سيئة واحدة ) لأن معنى ( فلم يعملها ) فلم يعزم على عملها بدليل ما ذكرنا ، ومعنى ( فإن عملها ) أي أظهرها أو عزم عليها بدليل ما وصفنا . وبالله توفيقنا .