محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (135)

/

135

( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون135 ) .

( والذين إذا فعلوا فاحشة ) من السيئات الكبار ( أو ظلموا أنفسهم ) أي بأي نوع من الذنوب ( ذكروا الله ) أي تذكروا حقه وعهده ، فاستحيوه وخافوه ( فاستغفروا لذنوبهم ) أي لأجلها بالتوبة والإنابة إليه تعالى .

قال البقاعي : ولما كان هذا مفهما أنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب ، أتبعه بتحقيق ذلك ، ونفى القدرة عليه عن غيره ، مرغبا في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين بقوله : ( ومن يغفر الذنوب ) أي يمحو آثارها حتى لا تذكر ولا يجازى عليها ( إلا الله ) أي الملك الأعلى . وقال أبو السعود " من " استفهام انكاري . أي لا يغفر الذنوب أحد الا الله ، خلا أن دلالة الاستفهام في الانتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأن كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الانتفاء ، فيسارع الى الجواب به . والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة ، والجملة معترضة بين المعطوفين ، أو بين الحال وصاحبها لتقرير الاستغفار والحث عليه ، والاشعار بالوعد بالقبول .

وقال الزمخشري : في هذه الجملة وصف لذاته تعالى بسعة الرحمة ، وقرب المغفرة ، وأن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، أنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأن عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه ، وجب العفو والتجاوز . وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط ، وأن الذنوب وان جلت فان عفوه أجل ، وكرمه أعظم . والمعنى أنه وحده معه مصححات المغفرة –انتهى-

/ وفي ( مسند ) الامام أحمد عن الأسود بن سريع رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير ، فقال : اللهم إني أتوب اليك ولا أتوب الى محمد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عرف الحق لأهله " . وفيه أيضا : عن أبي سعيد الخدري قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ! فقال الله : فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني " .

وفيه أيضا : عن علي رضي الله عنه قال : " كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ، وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني ، وصدق أبو بكر ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ، ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل الا غفر له " ، ورواه أهل ( السنن ) وابن حبان في ( صحيحه ) وغيرهم –قال الترمذي : حديث حسن ( ولم يصروا ) أي لم يقيموا ( على ما فعلوا ) أي ما فعلوه من الذنوب من غير استغفار ( وهم يعلمون ) حال من فاعل ( يصروا ) أي لم يصروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه ، والنهي عنه ، والوعيد عليه . والتقييد بذلك ، لما أنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح . وقد روى أبو داود والترمذي والبزار وأبو يعلى عن مولى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة " ، / وإسناده لا بأس به . قال ابن كثير : وقول علي بن المديني والترمذي : ليس اسناد هذا الحديث بذاك –فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر ، ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ، ويكفيه نسبته الى أبي بكر ، فهو حديث حسن –والله أعلم .