اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (135)

يجوز أن يكون ''والذين'' معطوفاً على الموصول قبله ، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة ، وتكون الجملةُ من قوله : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] جملة اعتراض بين المتعاطفين .

ويجوز أن يكون " والذين " مرفوعاً بالابتداء ، و " أولَئِكَ " مبتدأ ثانٍ ، و " جَزَاؤهُمْ " مبتدأ ثالث ، و " مَغْفِرَةٌ " خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول .

وقوله : { إِذَا فَعَلُواْ } شرط ، وجوابه : { ذَكَرُواْ } .

قوله : { فَاسْتَغْفَرُواْ } عطف على الجواب ، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول ، والمفعول الأول ل " اسْتَغْفَرُوا " محذوف ، أي : استغفروا الله لذنوبهم ، وقد تقدم الكلام على " استغفر " ، وأنه تعدى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجر ، وليس هو هذه اللام ، بل " من " وقد يُحْذَف .

فصل في سبب النزول .

قال ابن مسعود : قال المؤمنون : يا رسولَ الله ، كانت بو إسرائيل أكرمَ على الله مِنَّا ؛ كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارةُ ذَنْبِه مكتوبةً على عتبة بابه ، اجدع أنفك ، افعل كذا ، فأنزل الله هذه الآية {[5947]} .

قال عطاء : نزلت في نبهان التمار - وكُنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء ، تبتاعُ منه تَمْراً ، فقال لها : إن هذا التمر ليس بجيِّد ، وإن في البيت أجودَ منه ، فذهب بها إلى بيته ، فضمها إلى نفسه ، وقَبَّلها ، فقالت له : أتَّقِ الله ، فتركها ، وندم على ذلك ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية {[5948]} .

وقال مُقَاتِلٌ والكَلْبِيُّ : آخى رسولُ الله بين رجلين ، أحدهما من الأنصار ، والآخر من ثقيفٍ ، فخرج الثقفيُّ في غزاةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقُرْعة في السفر ، وخلف الأنصاريّ على أهله ، يَتَعَاهَدُهُم ، واشترى لهم اللحمَ ذات يوم ، فلما أرادت المرأةُ أن تأخذ منه ، دخل على أثرها ، وقَبَّل يَدَهَا ، فوضعت كَفَّهَا على وَجْهها ، ثم ندم الرجل وانصرف ، ووضع الترابَ على رأسه ، وهام على وجهه ، ولما رجع الثقفيُّ لم يستقبله الأنصاريُّ ، فسأل امرأته عن حاله ، فقالت : لا أكثر اللهُ في الإخوان مثله ، ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، فطلب الأنصاريَّ الثقفيُّ حتى وجده ، فأتى به أبا بكر ؛ رجاء أن يجدَ عنده راحةً وفرجاً ، وقال الأنصاريُّ : هلكت ، وذكر القصة ، فقال أبو بكر : ويحك ! أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ؟ ثم لقيا عُمَرَ ، فقال له مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما مثل مقالتهما ، فأنزل الله هذه الآية{[5949]} .

الفاحشة - هنا - نعت محذوف ، تقديره : فعلوا فِعْلَةً فاحشةً .

وأصل الفُحْش : القُبْح الخارج عن الحد ، فقوله : { فَاحِشَةً } يعني : قبيحة ، خارجة عما أذن الله فيه .

قال جَابِر : الفاحشة : الزنا{[5950]} ؛ لقوله تعالى : { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ } [ النساء : 15 ] ، وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] .

قوله : { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } .

قال الزمخشري : " الفاحشة : ما كان فعله كاملاً في القُبْح ، وظُلْمُ النفس هو أي ذَنْب كان ، مما يؤاخذُ الإنسانُ به } " .

وقيل : الفاحشة : هي الكبيرة ، وظلم النفس هو الصغيرة .

وقيل : الفاحشة ، هي الزنا ، وظلم النفس : هو القُبْلة واللَّمْسَة والنظرة .

وقال مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ : الفاحشة ما دون الزنا من قُبْلَة أو لَمْسَةٍ ، أو نظرة ، فيما لا يحل{[5951]} .

وقيل : فعلوا فاحشة فِعْلاً ، أو ظلموا أنفسهم قولاً .

قوله : { ذَكَرُواْ اللَّهَ } أي : ذكروا وعيدَ الله وعقابه ، فيكون من باب حذف المضاف .

قال الضحاك : ذكروا العرض الأكبر على الله{[5952]} .

وقال مُقاتِلٌ والوَاقِدِيُّ : تفكروا أن الله سائلهم{[5953]} .

وقيل : المراد بهذا الذكر : ذكر الله بالثناء والتعظيم والإجلال ؛ لأن من أراد أن يسأل الله تعالى مسالةً ، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله تعالى ، فهاهنا لما كان المراد منه : الاستغفار من الذنوب قدَّموا عليه الثناء ، ثم اشتغلوا بالاستغفار ، { فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } أي : ندموا على فِعْل ما مضَى مع العزم على تَرْك مثله في المستقبل ، وهذا حقيقة التوبة ، فأما الاستغفار باللسان ، فلا أثر له في إزالة الذنب ، بل يجب إظهار هذا الاستغفار ، لإزالة التهمة .

وقوله : { لِذُنُوبِهِمْ } أي : لأجل ذنوبهم .

قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ } استفهام بمعنى : النفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء .

قوله : { إلاَّ اللَّهُ } بدل من الضمير المستكن في " يَغْفِرُ " ، والتقدير : لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى ، والمختار - هنا - الرفع على البدل ، لكَوْن الكلام غيرَ إيجاب . وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] .

وقال أبو البقاء " مَنْ " مبتدأ ، " يَغْفِرُ " خبره ، و { إلاَّ اللَّهُ } فاعل " يَغْفِرُ " ، أو بدل من المضمر فيه ، وهو الوجه ؛ لأنك إذا جعلت " اللهُ " فاعلاً ، احتجْتَ إلى تقدير ضمير ، أي : ومَنْ يغفر الذنوب له غير الله .

قال شهَابُ الدين : " وهذا الذي قاله - أعني : جعله الجلالة فاعلاً - يقرب من الغلط ؛ فإن الاستفهام - هنا - لا يُراد به حقيقته ، إنما يرادُ " النفي " ، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلاً من ذلك الضمير المستتر ، والعائد على " من " الاستفهامية " .

ومعنى الكلام أن المغفرة لا تُطْلب إلا من الله ؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة ، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه .

قوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل { فَاسْتَغْفَرُواْ } أي : استغفروا غير مصرين ، ويجوز أن تكون هذه الجملة منسوقة على { فاستغفروا } أي : رتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى ، والاستغفار لذنوبهم ، وعدم إصرارهم عليها ، وتكون الجملة من قوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ } - على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني ، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول .

فصل

وأصْل الإصرار : الثبات على الشيء .

قال الحسن : إتيان العبد ذَنْباً عَمْداً إصرار ، حتى يتوب{[5954]} .

وقال السُّدِّي : الإصرار : السكوت وتَرْك الاستغفار{[5955]} .

وعن أبي نُصيرة قال : لقيت مولّى لأبي بكر ، فقلتُ له : أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئاً ؟

قال : نعم ، سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً{[5956]} " .

وقيل : الإصرار : المداومة على الشيء ، وتَرْك الإقلاع عنه ، وتأكيد العزم على ألا يتركه ، من قولهم : صر الدنانير ، إذا ربط عليها ، ومنه : صُرَّة الدراهم - لما يربط منها- .

قال الحُطََيْئة : يصف خيلاً : [ الطويل ]

عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا *** عُلاَلَتَها بِالْمُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ{[5957]}

أي : ثبتت ، وأقامت ، مداومة على ما حملت عليه .

وقال الشاعر : [ البسيط ]

يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ *** يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ{[5958]}

و " ما " في قوله : { عَلَى مَا فَعَلُواْ } يجوز أن تكون اسمية بمعنى : الذي ، ويجوز أن تكون مصدرية .

قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل { فَاسْتَغْفَرُواْ } ، وأن يكون حالاً من فاعل { يُصِرُّوا } ، والتقدير : ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة ؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل ، أما العالم بالحرمة ، فإنه لا يعذر .

ومفعول { يَعْلَمُونَ } محذوف للعلم به .

فقيل : تقديره : يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب ، قاله مجاهد{[5959]} .

وقيل : يعلمون أن تَرْكه أوْلَى{[5960]} ، قاله ابنُ عباس والحسن .

وقيل : يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها .

وقال ابْنُ عَبَّاسِ ، ومُقَاتِلٍ ، والحَسَنُ ، والكَلْبِيُّ : وهم يعلمون أنها معصية{[5961]} .

وقيل : وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار{[5962]} .

وقال الضَّحَّاكُ : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب ، وقال الحسن بن الفضل : وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب{[5963]} .

وقيل : وهم يعلمون أن الله تعالى ، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب - وإن كثرت- .

وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غُفِرَ لهم .


[5947]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/137) وعزاه لابن المنذر عن عبد الله بن مسعود. وأخرجه الطبري في "تفسيره" (7/219- 220) عن ابن مسعود.
[5948]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (4/135) من رواية عطاء عن ابن عباس.
[5949]:ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (9/9) عن ابن عباس.
[5950]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/218) عن جابر وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/137) وزاد نسبته لابن المنذر. وأخرجه الطبري أيضا (7/218) عن السدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
[5951]:ذكره أبو حيان في "البحر المحيط" (3/64) عن مقاتل والكلبي.
[5952]:انظر تفسير القرطبي (4/135) و"تفسير الرازي" (9/9).
[5953]:ينظر المصدر السابق.
[5954]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/224) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/139) وزاد نسبته لعبد الرزاق وابن أبي حاتم عن الحسن.
[5955]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/224) وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" (2/139) مع السدي. وذكره أبو حيان في "البحر المحيط" (3/65).
[5956]:أخرجه أبو داود كتاب الصلاة باب في الاستغفار رقم (1514) والترمذي كتاب الدعوات باب ما أصر من استغفر رقم (3554) والطبري في "تفسيره" (7/225) وأبو يعلى (1/124- 125) رقم (137- 138، 139) عن أبي بكر الصديق. وقال الترمذي: هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث أبي نصيرة وليس إسناده بالقوي. والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/139) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في "شعب الإيمان".
[5957]:ينظر البيت في ديوانه (341) والبحر المحيط 3/60. والقرطبي 4/211 والدر المصون 2/12.
[5958]:ينظر البيت في القرطبي 4/211 والبحر المحيط 3/60 والدر المصون 2/212.
[5959]:ينظر: البحر المحيط 3/65.
[5960]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (4/136) وأبو حيان في "البحر المحيط" (3/65).
[5961]:انظر المصدر السابق.
[5962]:انظر المصدر السابق.
[5963]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (4/136) والزمخشري في "الكشاف" (1/417) وأبو حيان في "البحر المحيط" (3/65).