يجوز أن يكون ''والذين'' معطوفاً على الموصول قبله ، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة ، وتكون الجملةُ من قوله : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عمران : 134 ] جملة اعتراض بين المتعاطفين .
ويجوز أن يكون " والذين " مرفوعاً بالابتداء ، و " أولَئِكَ " مبتدأ ثانٍ ، و " جَزَاؤهُمْ " مبتدأ ثالث ، و " مَغْفِرَةٌ " خبر الثالث ، والثالث وخبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول .
وقوله : { إِذَا فَعَلُواْ } شرط ، وجوابه : { ذَكَرُواْ } .
قوله : { فَاسْتَغْفَرُواْ } عطف على الجواب ، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول ، والمفعول الأول ل " اسْتَغْفَرُوا " محذوف ، أي : استغفروا الله لذنوبهم ، وقد تقدم الكلام على " استغفر " ، وأنه تعدى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجر ، وليس هو هذه اللام ، بل " من " وقد يُحْذَف .
قال ابن مسعود : قال المؤمنون : يا رسولَ الله ، كانت بو إسرائيل أكرمَ على الله مِنَّا ؛ كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارةُ ذَنْبِه مكتوبةً على عتبة بابه ، اجدع أنفك ، افعل كذا ، فأنزل الله هذه الآية {[5947]} .
قال عطاء : نزلت في نبهان التمار - وكُنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء ، تبتاعُ منه تَمْراً ، فقال لها : إن هذا التمر ليس بجيِّد ، وإن في البيت أجودَ منه ، فذهب بها إلى بيته ، فضمها إلى نفسه ، وقَبَّلها ، فقالت له : أتَّقِ الله ، فتركها ، وندم على ذلك ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية {[5948]} .
وقال مُقَاتِلٌ والكَلْبِيُّ : آخى رسولُ الله بين رجلين ، أحدهما من الأنصار ، والآخر من ثقيفٍ ، فخرج الثقفيُّ في غزاةٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقُرْعة في السفر ، وخلف الأنصاريّ على أهله ، يَتَعَاهَدُهُم ، واشترى لهم اللحمَ ذات يوم ، فلما أرادت المرأةُ أن تأخذ منه ، دخل على أثرها ، وقَبَّل يَدَهَا ، فوضعت كَفَّهَا على وَجْهها ، ثم ندم الرجل وانصرف ، ووضع الترابَ على رأسه ، وهام على وجهه ، ولما رجع الثقفيُّ لم يستقبله الأنصاريُّ ، فسأل امرأته عن حاله ، فقالت : لا أكثر اللهُ في الإخوان مثله ، ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، فطلب الأنصاريَّ الثقفيُّ حتى وجده ، فأتى به أبا بكر ؛ رجاء أن يجدَ عنده راحةً وفرجاً ، وقال الأنصاريُّ : هلكت ، وذكر القصة ، فقال أبو بكر : ويحك ! أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ؟ ثم لقيا عُمَرَ ، فقال له مثل ذلك ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما مثل مقالتهما ، فأنزل الله هذه الآية{[5949]} .
الفاحشة - هنا - نعت محذوف ، تقديره : فعلوا فِعْلَةً فاحشةً .
وأصل الفُحْش : القُبْح الخارج عن الحد ، فقوله : { فَاحِشَةً } يعني : قبيحة ، خارجة عما أذن الله فيه .
قال جَابِر : الفاحشة : الزنا{[5950]} ؛ لقوله تعالى : { وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ } [ النساء : 15 ] ، وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] .
قوله : { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } .
قال الزمخشري : " الفاحشة : ما كان فعله كاملاً في القُبْح ، وظُلْمُ النفس هو أي ذَنْب كان ، مما يؤاخذُ الإنسانُ به } " .
وقيل : الفاحشة : هي الكبيرة ، وظلم النفس هو الصغيرة .
وقيل : الفاحشة ، هي الزنا ، وظلم النفس : هو القُبْلة واللَّمْسَة والنظرة .
وقال مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ : الفاحشة ما دون الزنا من قُبْلَة أو لَمْسَةٍ ، أو نظرة ، فيما لا يحل{[5951]} .
وقيل : فعلوا فاحشة فِعْلاً ، أو ظلموا أنفسهم قولاً .
قوله : { ذَكَرُواْ اللَّهَ } أي : ذكروا وعيدَ الله وعقابه ، فيكون من باب حذف المضاف .
قال الضحاك : ذكروا العرض الأكبر على الله{[5952]} .
وقال مُقاتِلٌ والوَاقِدِيُّ : تفكروا أن الله سائلهم{[5953]} .
وقيل : المراد بهذا الذكر : ذكر الله بالثناء والتعظيم والإجلال ؛ لأن من أراد أن يسأل الله تعالى مسالةً ، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله تعالى ، فهاهنا لما كان المراد منه : الاستغفار من الذنوب قدَّموا عليه الثناء ، ثم اشتغلوا بالاستغفار ، { فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } أي : ندموا على فِعْل ما مضَى مع العزم على تَرْك مثله في المستقبل ، وهذا حقيقة التوبة ، فأما الاستغفار باللسان ، فلا أثر له في إزالة الذنب ، بل يجب إظهار هذا الاستغفار ، لإزالة التهمة .
وقوله : { لِذُنُوبِهِمْ } أي : لأجل ذنوبهم .
قوله : { وَمَنْ يَغْفِرُ } استفهام بمعنى : النفي ، ولذلك وقع بعده الاستثناء .
قوله : { إلاَّ اللَّهُ } بدل من الضمير المستكن في " يَغْفِرُ " ، والتقدير : لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى ، والمختار - هنا - الرفع على البدل ، لكَوْن الكلام غيرَ إيجاب . وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] .
وقال أبو البقاء " مَنْ " مبتدأ ، " يَغْفِرُ " خبره ، و { إلاَّ اللَّهُ } فاعل " يَغْفِرُ " ، أو بدل من المضمر فيه ، وهو الوجه ؛ لأنك إذا جعلت " اللهُ " فاعلاً ، احتجْتَ إلى تقدير ضمير ، أي : ومَنْ يغفر الذنوب له غير الله .
قال شهَابُ الدين : " وهذا الذي قاله - أعني : جعله الجلالة فاعلاً - يقرب من الغلط ؛ فإن الاستفهام - هنا - لا يُراد به حقيقته ، إنما يرادُ " النفي " ، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلاً من ذلك الضمير المستتر ، والعائد على " من " الاستفهامية " .
ومعنى الكلام أن المغفرة لا تُطْلب إلا من الله ؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة ، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه .
قوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل { فَاسْتَغْفَرُواْ } أي : استغفروا غير مصرين ، ويجوز أن تكون هذه الجملة منسوقة على { فاستغفروا } أي : رتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى ، والاستغفار لذنوبهم ، وعدم إصرارهم عليها ، وتكون الجملة من قوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ } - على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني ، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول .
وأصْل الإصرار : الثبات على الشيء .
قال الحسن : إتيان العبد ذَنْباً عَمْداً إصرار ، حتى يتوب{[5954]} .
وقال السُّدِّي : الإصرار : السكوت وتَرْك الاستغفار{[5955]} .
وعن أبي نُصيرة قال : لقيت مولّى لأبي بكر ، فقلتُ له : أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئاً ؟
قال : نعم ، سمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً{[5956]} " .
وقيل : الإصرار : المداومة على الشيء ، وتَرْك الإقلاع عنه ، وتأكيد العزم على ألا يتركه ، من قولهم : صر الدنانير ، إذا ربط عليها ، ومنه : صُرَّة الدراهم - لما يربط منها- .
قال الحُطََيْئة : يصف خيلاً : [ الطويل ]
عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا *** عُلاَلَتَها بِالْمُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ{[5957]}
أي : ثبتت ، وأقامت ، مداومة على ما حملت عليه .
يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ *** يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ{[5958]}
و " ما " في قوله : { عَلَى مَا فَعَلُواْ } يجوز أن تكون اسمية بمعنى : الذي ، ويجوز أن تكون مصدرية .
قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل { فَاسْتَغْفَرُواْ } ، وأن يكون حالاً من فاعل { يُصِرُّوا } ، والتقدير : ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة ؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل ، أما العالم بالحرمة ، فإنه لا يعذر .
ومفعول { يَعْلَمُونَ } محذوف للعلم به .
فقيل : تقديره : يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب ، قاله مجاهد{[5959]} .
وقيل : يعلمون أن تَرْكه أوْلَى{[5960]} ، قاله ابنُ عباس والحسن .
وقيل : يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها .
وقال ابْنُ عَبَّاسِ ، ومُقَاتِلٍ ، والحَسَنُ ، والكَلْبِيُّ : وهم يعلمون أنها معصية{[5961]} .
وقيل : وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار{[5962]} .
وقال الضَّحَّاكُ : وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب ، وقال الحسن بن الفضل : وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب{[5963]} .
وقيل : وهم يعلمون أن الله تعالى ، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب - وإن كثرت- .