البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (135)

الإصرار : اعتزام الدوام على الأمر .

وترك الإقلاع عنه ، من صرّ الدنانير ربط عليها .

وقال أبو السمال :

علم الله أنها مني صرى *** أي عزيمة .

وقال الحطيئة يصف الخيل :

عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا *** علاليها بالمحضرات أصرت

أي ثبتت على عدوها .

وقال آخر :

يصر بالليل ما تخفى شواكله *** يا ويح كل مصر القلب ختار

{ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } نزلت في قول الجمهور بسبب منهال التمار ، ويكنى : أبا مقبل ، أتته امرأة تشتري منه تمراً فضمها وقبلها ثم ندم .

وقيل : ضرب على عجزها .

والعطف بالواو مشعر بالمغايرة .

لمّا ذكر الصنف الأعلى وهم المتقون الموصوفون بتلك الأوصاف الجميلة ، ذكر مَنْ دونهم ممن قارف المعاصي وتاب وأقلع ، وليس من باب عطف الصفات واتحاد الموصوف .

وقيل : أنه من عطف الصفات ، وأنه من نعت المتقين روى ذلك عن الحسن .

قال ابن عباس : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة .

وقال مقاتل : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس سائر المعاصي .

وقال النخعي : الفاحشة القبائح ، وظلم النفس من الفاحشة وهو لزيادة البيان .

وقيل : جميع المعاصي وظلم النفس العمل بغير علم ولا حجة .

وقال الباقر : الفاحشة النظر إلى الأفعال ، وظلم النفس رؤية النجاة بالأعمال .

وقيل : الفاحشة الكبيرة ، وظلم النفس الصغيرة .

وقيل : الفاحشة ما تظوهر به من المعاصي ، وقيل : ما أخفى منها .

وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل ، وظلم النفس بالمعصية ، وقيل : الفاحشة الذنب الذي فيه تبعة للمخلوقين ، وظلم النفس ما بين العبد وبين ربه .

وهذه تخصيصات تحتاج إلى دليل .

وكثر استعمال الفاحشة في الزنا ، ولذلك قال جابر حين سمع الآية : زنوا ورب الكعبة .

ومعنى { اذكروا الله } ذكروا وعيده قاله : ابن جرير وغيره .

وقيل : العرض على الله قاله الضحاك .

أو السؤال عنه يوم القيامة قاله : الكلبي ومقاتل والواقدي .

وقيل : نهي الله .

وقيل : غفرانه .

وقيل : تعرضوا لذكره بالقلوب ليبعثهم على التوبة .

وقيل : عظيم عفوه فطمعوا في مغفرته .

وقيل : إحسانه فاستحيوا من إساءتهم .

وهذه الأقوال كلها على أن الذكر هو بالقلب .

وقيل : هو باللسان ، وهو الاستغفار .

ذكروا الله بقلوبهم : اللهم اغفر لنا ذنوبنا ، قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وعطاء في آخرين .

وروي عن أبي هريرة « ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم » ولا بدّ مع ذكر اللسان من مواطأة القلب ، وإلاّ فلا اعتبار بهذا الاستغفار .

ومن استغفر وهو مصرّفاً فاستغفاره يحتاج إلى استغفار .

والاستغفار سؤال الله بعد التوبة الغفران .

وقيل : ندموا وإن لم يسألوا .

والظاهر الأول .

ومفعول استغفروا الله محذوف لفهم المعنى ، أي فاستغفروا لذنوبهم .

وتقدم الكلام على هذا الفعل وتعديته .

{ ومن يغفر الذنوب إلا الله } جملة اعتراض المتعاطفين ، أو بين ذي الحال والحال .

وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة إعراباً في قوله : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } وهذه الجملة الاعتراضية فيها ترفيق للنفس ، وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه ، واختصاصه بغفران الذنب .

قال الزمخشري : وصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة ، وأنَّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنّه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأنّ العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز .

وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط .

وأنّ الذنوب وإنْ جلت فإنَّ عفوه أجل ، وكرمه أعظم .

والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة انتهى .

وهو كلام حسن ، غير أنه لم يخرج عن ألفاظ المعتزلة في قوله : وإنّ عدله يوجب المغفرة للتائب .

وفي قوله : وجب العفو والتجاوز ، ولو لم نعلم أن مذهبه الاعتزال لتأولنا كلامه بأن هذا الوجوب هو بالوعد الصادق ، فهو من جهة السمع لا من جهة العقل فقط .

{ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } أي ولم يقيموا على قبيح فعلهم .

وهذه الجملة معطوفة على فاستغفروا ، فهي من بعض أجزاء الجزاء المترتب على الشرط .

ويجوز أن تكون الواو للحال ويكون حالاً من الفاعل في فاستغفروا فهي من بعض أجزاء الجزاء ، أي : فاستغفروا لذنوبهم غير مصرّين .

وما موصولة اسمية ، ويجوز أن تكون مصدرية .

قال قتادة : الإصرار المضي في الذنب قدماً .

وقال الحسن : هو إتيان الذنب حتى يتوب .

وقال مجاهد : لم يصرّوا لم يمضوا .

وقال السدي : هو ترك الاستغفار والسكوت عنه مع الذنب .

والجملة من قوله : { وهم يعلمون } قال الزمخشري : حال من فعل الإصرار ، وحرف النفي منصب عليهما معاً ، والمعنى : وليسوا ممن يصرّ على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها ، لأنه قد يعذر من لم يعلم قبح القبيح .

وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون ، وتائبون ، ومصرّون .

وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه انتهى كلامه .

وآخره على طريقته الاعتزالية من : أن من مات مصرًّا دخل النار ولا يخرج منها أبداً .

وأجاز أبو البقاء أن يكون : وهم يعلمون حالاً من الضمير في فاستغفروا ، فإنْ أعربنا ولم يصرّوا جملة حالية من الضمير في فاستغفروا ، جاز أن يكون : وهم يعلمون حالاً منه أيضاً .

وإن كان ولم يصروا معطوفاً على فاستغفروا كان ما قاله أبو البقاء بعيداً للفصل بين ذي الحال والحال بالجملة .

وأما متعلق العلم فتقدم في كلام الزمخشري .

وقال أبو البقاء : وهم يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو الله عنها .

وقال ابن عباس والحسن : وهم يعلمون أن تركه أولى من التمادي .

وقال مجاهد وأبو عمارة : يعلمون أن الله يتوب على من تاب .

وقال السدي ومقاتل : يعلمون أنهم قد أذنبوا .

وقيل : يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها ، أطلق اسم العلم على الذكر لأنه من ثمرته .

وقال ابن إسحاق : يعلمون ما حرمت عليهم .

وقال الحسين بن الفضل : يعلمون أنّ لهم رباً يغفر الذنب .

وقال ابن بحر : يعلمون بالذنب .

وقيل : يعلمون العفو عن الذنوب وإن كثرت .

/خ141