الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (135)

قوله سبحانه : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله }[ آل عمران :135 ] .

ذكر سبحانه في هذه الآيةِ صِنْفاً هو دُون الصِّنف الأول ، فألحقهم بهم برَحْمته ومَنِّه ، وهم التَّوَّابون ، وروي في سَبَب نُزُول هاتَيْن الآيتَيْن ، أن الصحابَةَ ( رضي اللَّه عنهم ) ، قَالُوا : يا رَسُولَ اللَّهِ ، كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَّا حِينَ كَانَ المُذْنِبُ مِنْهُمْ يُصْبِحْ ، وَعُقُوبَتُهُ مَكْتُوبَةٌ على بَابِ دَارِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ ، تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً ، وَعِوَضاً مِنْ ذَلِكَ الفِعْلِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ » .

ورُوِيَ أَنَّ إبليسَ بكى ، حين نزَلَتْ هذه الآيةُ ، والفاحشةُ لفظٌ يعمُّ جميع المعاصِي ، وقد كثر استعماله في الزِّنا ، حتى فسر السُّدِّيُّ الفاحشَةَ هنا بالزِّنَا ، وقال قومٌ : الفاحِشَةُ هنا : إشارةٌ إلى الكبائِرِ ، وظُلْمُ النَّفْس : إشارةٌ إلى الصَّغائر ، ( واستغفروا ) معناه : طلبوا الغُفْران .

قال النوويُّ : وَرُوِّينَا في " سنن ابْنِ ماجه " ، بإسنادٍ جيدٍ ، عن عبد اللَّه بْنُ بُسْرٍ ( بضم الباء ) ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( طوبى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ استغفارا كَثِيراً ) اه من «الحلية » .

و{ ذَكَرُواْ الله } : معناه : بالخَوْفِ من عقابِهِ ، والحَيَاءِ منه ، إذ هو المُنْعِمُ المتطَوِّل ، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } اعتراضا موقِّفاً للنفْس ، داعياً إلى اللَّه ، مرجِّياً في عفوه ، إذا رجع إلَيْه ، وجاء اسم اللَّهِ مرفوعًا بعد الاستثناء ، والكلامُ موجَبٌ حملاً على المعنى ، إذ هو بمعنى : ومَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللَّه ، وعن عليِّ بْنِ أبي طالبٍ ( رضي اللَّه عنه ) ، قَالَ : حدَّثني أبو بكر رضي اللَّه عنه ، وصَدَقَ أبو بَكْرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْباً ، ثُمَّ يَقُومُ ، فَيَتَطَهَّرُ ، ثُمَّ يُصَلِّي ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ) ثُمَّ قرأَ هذه الآيةَ : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله . . . } إلى آخر الآية رواه أبو داود ، والترمذيُّ ، والنسائيُّ ، وابن ماجة ، وابْنُ حِبَّانَ ، في «صحيحه » ، وقال الترمذيُّ ، واللفظ له : حديثٌ حَسَن اه . من «السلاح » .

وقوله سبحانه : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } : الإصْرَارُ : هو المُقَامُ على الذَّنْبِ ، واعتقادُ العودة إليه ، وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، قال السُّدِّيُّ : معناه : وهم يعلَمُونَ أنهم قد أَذْنَبُوا ، وقال ابنُ إسحاق : معناه : وهم يعلمون بمَا حَرَّمْتُ عليهم ، وقيل : وهم يعلَمُونَ أنَّ بابِ التوبة مفتوحٌ ، وقيل : وهم يعلمون أنِّي أعاقب عَلَى الإصرار .