معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (94)

{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } . يعني إذا سافرتم في سبيل الله ، يعني : الجهاد . { فتبينوا } قرأ حمزة والكسائي هاهنا في موضعين ، وفي سورة الحجرات بالتاء ، والثاء ، من التثبيت . أي : قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر ، وقرأ الآخرون بالياء والنون ، من التبين ، يقال : تبينت الأمر إذا تأملته .

قوله تعالى : { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم } . هكذا قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وحمزة ، أي : المعادة ، وهو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله . وقرأ الآخرون السلام ، وهو السلام الذي هو تحية المسلمين ، لأنه كان قد سلم عليهم ، وقيل : السلم والسلام واحد ، أي : لا تقولوا لمن سلم عليكم لست مؤمناً ، فذلك قوله تعالى : { لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا } ، يعني : تطلبون الغنم والغنيمة ، وعرض الحياة الدنيا منافعها ومتاعها .

قوله تعالى : { فعند الله مغانم } أي غنائم .

قوله تعالى : { كثيرة } ، وقيل : ثواب كثير ، لمن اتقى قتل المؤمن .

قوله تعالى : { كذلك كنتم من قبل } . قال سعيد بن جبير : كذلك كنتم تكتمون إيمانكم من المشركين .

قوله تعالى : { فمن الله عليكم } ، بإظهار الإسلام ، وقال قتادة : كنتم ضلالاً من قبل فمن الله عليكم بالهداية . وقيل معناه : كذلك كنتم من قبل تأمنون في قومكم بلا إله إلا الله قبل الهجرة ، قلا تخيفوا من قالها ، فمن الله عليكم بالهجرة .

قوله تعالى : { فتبينوا } أن تقتلوا مؤمناً .

قوله تعالى : { إن الله كان بما تعملون خبيراً } ، قلت : إذا رأى الغزاة في بلد أو قرية شعار الإسلام فعليهم أن يكفوا عنهم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً فإن سمع أذاناً كف عنهم ، وإن لم يسمع أغار عليهم .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق ، عن ابن عصام عن أبيه " أن النبي صلى الله عليه وسلم . كان إذا بعث سريةً قال : ( إذا رأيتم مسجداً ، أو سمعتم أذاناً ، فلا تقتلوا أحداً ) " .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (94)

{ يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } سافرتم وذهبتم للغزو . { فتبينوا } فاطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تعجلوا فيه . وقرأ حمزة والكسائي " فتثبتوا " في الموضعين هنا ، وفي " الحجرات " من التثبت . { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام } لمن حياكم بتحية الإسلام . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة السلم بغير الألف أي الاستسلام والانقياد وفسر به السلام أيضا . { لست مؤمنا } وإنما فعلت ذلك متعوذا . وقرئ { مؤمنا } بالفتح أي مبذولا له الأمان . { تبتغون عرض الحياة الدنيا } تطلبون ماله الذي هو حطام سريع النفاذ ، وحال من الضمير في تقولوا مشعر بما هو الحامل لهم على العجلة وترك التثبت . { فعند الله مغانم } لكم . { كثيرة } نغنيكم عن قتل أمثاله لماله . { كذلك كنتم من قبل } أي أول ما دخلتم في الإسلام تفوهتم بكلمتي الشهادة فحصنت بها دماؤكم وأموالكم من غير أن يعلم مواطأة قلوبكم ألسنتكم .

{ فمن الله عليكم } بالاشتهار بالإيمان والاستقامة في الدين . { فتبينوا } وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل الله بكم ، ولا تبادروا إلى قتلهم ظنا بأنهم دخلوا فيه اتقاء وخوفا ، فإن إبقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل امرئ مسلم . وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر وترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم . { إن الله كان بما تعلمون خبيرا } عالما به وبالغرض منه فلا تتهافتوا في القتل واحتاطوا .

روي ( أن سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فدك فهربوا وبقي مرداس ثقة بإسلامه ، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد ، فلما تلاحقوا به وكبروا كبر ونزل وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة واستاق غنمه ) وقيل نزل في المقداد مر برجل في غنيمة فأراد قتله فقال : لا إله إلا الله . فقتله وقال : ود لو فر بأهله وماله . وفيه دليل على صحة إيمان المكره وأن المجتهد قد يخطئ وأن خطأه مغتفر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (94)

تقول العرب : ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره مقترنة ب «في » ، وتقول : ضربت الأرض دون «في » إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ، ومنه قول - النبي عليه السلام : «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك »{[4212]} وسبب هذه الآية : أن سرية من سرايا رسول الله لقيت رجلاً له جمل ومتيع ، وقيل غنيمة ، فسلم على القوم ، وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فحمل عليه أحدهم فقتله ، فشق ذلك على رسول الله ونزلت الآية فيه{[4213]} .

واختلف المفسرون في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة ، فالذي عليه الأكثر - وهو في سيرة ابن إسحاق وفي مصنف أبي داود وغيرهما : أن القاتل محلم بن جثامة والمقتول عامر بن الأضبط ، والحديث بكماله في المصنف لأبي دواد{[4214]} ، وفي السير وفي الاستيعاب{[4215]} ، وقالت فرقة : القاتل أسامة بن زيد ، والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني{[4216]} ، وقالت فرقة : القاتل أبو قتادة{[4217]} ، وقالت فرقة : القاتل غالب الليثي ، والمقتول مرداس{[4218]} ، وقالت فرقة : القاتل هو أبو الدرداء ، ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم بن جثامة .

وقرأ جمهور السبعة { فتبينوا } وقرأ حمزة والكسائي «فتثبتوا » بالثاء مثلثة في الموضعين وفي الحجرات ، وقال قوم : «تبينوا » أبلغ وأشد من «تثبتوا » ، لأن المتثبت قد لا يتبين ، وقال أبو عبيد : هما متقاربان .

قال القاضي أبو محمد : والصحيح ما قال أبو عبيد ، لأن تبين الرجل لا يقتضي أن الشيء بان له ، بل يقتضي محاولة اليقين ، كما أن ثبت تقتضي محاولة اليقين ، فهما سواء ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة وابن كثير في بعض طرقه ، «السَّلَم » بتشديد السين وفتحه وفتح اللام ، ومعناه : الاستسلام أي ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم ، وقرأ بقية السبعة «السلام » يريد سلم ذلك المقتول على السرية ، لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده ، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك ، قال الأخفش : يقال : فلان سلام إذا كان لا يخالط أحداً ، وروي في بعض طرق عاصم «السِّلْم » بكسر السين وسكون اللام وهو الصحيح ، والمعنى المراد بهذه الثلاثة يتقارب ، وقرأ الجحدري «السَّلْم » بفتح السين وسكون اللام ، والعرض : هو المتيع والجمل ، أو الغنيمة التي كانت للرجل المقتول ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو حمزة واليماني «لست مؤمَناً » بفتح الميم ، أي لسنا نؤمنك في نفسك ، وقوله تعالى : { فعند الله مغانم كثيرة } عدة بما يأتي به الله على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور أي فلا تتهافتوا .

واختلف المتأولون في قوله تعالى : { كذلك كنتم من قبل } فقال سعيد بن جبير : معناه كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم ، خائفين منهم على أنفسكم ، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينكم ، وإظهار شريعتكم ، فهم الآن كذلك ، كل واحد منهم خائف من قومه ، متربص أن يصل إليكم فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره ، وقال ابن زيد : كذلك كنتم كفرة فمنّ الله عليكم بأن أسلمتم ، فلا تنكروا أن يكون هو كافراً ثم يسلم لحينه حين لقيكم ، فيجب أن يتثبت في أمره ، ويحتمل أن يكون المعنى إشارة بذلك إلى القتل قبل التثبت ، أي على هذه الحال كنتم في جاهليتكم لا تتثبتون ، حتى جاء الله بالإسلام ومنّ عليكم ، ثم أكد تبارك وتعالى الوصية بالتبين ، وأعلم أنه خبير بما يعمله العباد ، وذلك منه خبر يتضمن تحذيراً منه تعالى ، لأن المعنى { إن الله بما تعملون خبيراً } ، فاحفظوا نفوسكم ، وجنبوا الزلل الموبق بكم .


[4212]:- الحديث عن أبي سعيد الخدري، رواه أبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة في صحيحه، ولفظه كلفظ أبي داود، وقد رواه كلهم من رواية هلال بن عياض، أو عياض بن هلال عن أبي سعيد. (الترغيب والترهيب) 1/136.
[4213]:- أخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال: (كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله: (عرض الحياة الدنيا)، تلك الغنيمة، وأخرجه أيضا عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. (الدر المنثور) 2/199.
[4214]:- وأخرجه ابن سعد، وابن أبي شيبة، وأحمد، وابن جرير، والطبراني، وابن المنذر، وغيرهم عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، وفيه أن القاتل هو: محلّم بن جثّامة بن قيس الليثي، وأن القتيل هو عامر بن الأضبط الأشجعي، وكان على قعود له معه متيع له، وقطب من لبن، وفي هذا الخبر أن النفر من المسلمين الذين خرجوا كان فيهم الحارث بن ربعي أبو قتادة، ولكنه لم ينسب له القتل.
[4215]:- جاء في الاستيعاب عن (عامر) هذا: "عامر بن الأضبط الأشجعي، هو الذي قتلته سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم يظنونه متعوذا يقول: لا إله إلا الله، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لقاتله قولا عظيما، وقال: فهلا شققت عن قلبه، فأنزل الله فيه: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله} الآية 2/ 787.
[4216]:- أخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله} قال: هذا الحديث في شأن مرداس، رجل من غطفان- ولكن الخبر لم يحدد اسم القاتل. وفي خبر آخر أخرجه ابن جرير عن السدي أن القاتل هو أسامة بن زيد. (الدر المنثور) 2/200.
[4217]:- أخرجه البزار، والدارقطني، والطبراني عن ابن عباس. (الدر المنثور) 2/ 200.
[4218]:- ذكر ذلك الثعلبي، كما قال القرطبي 5/ 337.