الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (94)

قوله تعالى : { يا أيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ }[ النساء :94 ] . تقُولُ : ضَرَبْتُ في الأرضِ ، إذا سرْتَ لتجارةٍ أو غَزْوٍ ، أو غيره ، مقترنةً ب«في » ، وضربْتُ الأرْضَ ، دون «فِي » ، إذا قصَدتَّ قضاء الحاجَةِ ، وقال ( ص ) : ضربتم ، أي : سافرتم .

قال ( ع ) : وسببُ هذه الآية ، أنَّ سريَّةً مِنْ سَرَايَا رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لقيَتْ رجُلاً له جَمَلٌ ، ومُتَيَّعٌ ، وقيلَ : غنيمَةٌ فسلَّم على القَوْمِ ، وقال : لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، فَحَمَلَ علَيْهِ أحدُهُمْ ، فَقَتَلَهُ ، واختلف في تَعْيين القَاتِلِ والمَقْتُولِ في هذه النازلة ، والذي عليه الأكثر ، وهو في سِيَر ابْنِ إسحَاقَ ، وفي مُصنَّفِ أبي دَاوُد وغيرهما ، أنَّ القاتِلَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ ، والمقتولَ عَامِرُ بن الأَضْبطِ ، ولا خلافَ أنَّ الذي لَفَظَتْهُ الأرْضُ ، حِينَ مات ، هو مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَة ، وقرأ جمهورُ السَّبْعة : ( فَتََبَيَّنُوا ) ، وقرأ حمزة والكسائيُّ : ( فَتَثَبَّتُوا ) ( بالثاء المثلَّثة ) في الموضعَيْن هنا ، وفي ( الحُجُرَات ) ، وقرأ نافعٌ ، وغيره : ( السَّلَمَ ) ، ومعناه : الاِستسلام ، أي : ألقى بيده ، واستسلَم لكُمْ ، وأظهر دعوتكَم ، وقرأ باقي السبعة : ( السَّلاَمَ ) بالألف ، يريد : سلاَمَ ذلك المَقْتُولِ على السَّريَّة ، لأن سلامَهُ بتحيَّة الإسلام مُؤْذِنٌ بطاعَتِهِ وانقياده ، وفي بَعْضِ طرق عاصم : ( السِّلْمَ ) بكسر السين المشدَّدة ، وسكونِ اللامِ ، وهو الصُّلْح ، والمعنَى المرادُ بهذه الثلاثةِ مُتَقَارِبٌ ، وقرئ : ( لَسْتَ مُؤْمَناً ) بفتح الميم أي : لَسْنَا نُؤَمِّنُكَ .

وقوله تعالى : { فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } : عِدَةٌ منه سبحانه بما يأْتِي به مِنْ فَضْله ، من الحلال دون ارتكاب محْظُورٍ ، أي : فلا تتهافَتُوا .

واختلف في قوله : { كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ } فقال ابنُ جُبَيْرٍ : معناه كذلكَ كُنْتُمْ مستخْفِينَ مِنْ قومكم بإسلامِكُمْ ، فَمَنَّ اللَّه عليكم بإعزازِ دينِكم ، وإظهارِ شَرِيعتكم ، فَهُمُ الآنَ كذلك ، كلُّ واحدٍ منهم خَائِفٌ مِنْ قومه ، متربِّصٌ أَنْ يَصِلَ إلَيْكم ، فلم يصْلُحْ إذا وَصَل أنْ تَقْتُلُوه حتى تتبيَّنوا أَمْرَهُ ، وقال ابنُ زَيْدٍ : المعنى كَذَلِكَ كُنْتُمْ كَفَرةً ، فَمنَّ اللَّهُ علَيْكُمْ بِأنْ أسلَمْتُمْ ، فلا تُنْكِرُوا أَنْ يكُونَ هو كافراً ، ثم يسلم لِحِينه ، ثم وَكَّد تبارَكَ وتعالى الوصيَّةَ بالتبيُّن ، وأعلم أنَّه خبيرٌ بما يعمَلُه العبادُ ، وذلك منه خَبَرٌ يتضمَّن تحذيراً منه سبحانه ، أي : فاحفظوا أنْفُسَكم ، وجَنِّبوا الزَّلَل المُوبِقَ لكم .