الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (94)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية .

الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : " نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف بن سعد [ بن ذبيان ] يقال له : مرداش بن نهيك وكان من أهل فدك وكان مسلماً لم يسلم من قومه غيره ، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم وكان على السرية يومئذ رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا وأقام الرجل لأنهُ كان على دين المسلمين .

فلما راى الخيل خاف أن تكون من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول في الجبل وصعد هو إلى الجبل ، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبّرون ، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبّر فنزل وهو يقول : لا اله إلاّ الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أُسامة بن زيد بن حارثة فقتله وأخذوا غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً .

وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قتلتموه إرادة ما معه " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على اسامة بن زيد فقال : يا رسول الله استغفر لي وقال : " فكيف بلا اله إلاّ الله " قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات .

قال أُسامة : فما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلاّ يومئذ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد ، ثلاث مرات . فقال : إعتق رقبة " .

وبمثله قال قتادة ، وروى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس . قال : مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه غنم فسلّم عليهم فقالوا : ما سلم عليكم إلاّ متعوّذاً ، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .

وروى المبارك عن الحسن " أنّ أُناساً من المسلمين لقوا أُناساً من المشركين فحملوا عليهم فهزموهم قال : فشدَّ رجل منهم وتبعه رجل وأراد متاعه فلما غشيه بالسيف . قال : إني مسلم إنّي مسلم وكذّبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه .

قال : وكان والله قليلاً نزراً .

قال : فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أقتلته بعد ما زعم أنه مسلم ، فقال : يا رسول الله إنما قالها متعوذاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فهلاّ شققت عن قلبه ؟ " . قال : لِمَ يا رسول الله ؟ قال : " لتنظر صادقاً كان أو كاذباً " قال أو كنت أعلم ذلك يا رسول الله ؟ قال : " إنما ينبىء عنه لسانه " قال : فما لبث القاتل أن مات ودفن فأصبح . وقد وضع إلى جنب قبره ، ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثاً فلما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تقبله أخذوا رجله وألقوه في بعض تلك الشعاب ، قال : فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية " .

قال الحسن : أما ذاك ما كان أن تكون الأرض [ تحبس ] من هو شر منه ولكن وعظاً لقوم أن لا يعودوا إلى مثل فعله .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي إذا سرتم في الأرض مجاهدين { فَتَبَيَّنُواْ } يعني المؤمن من الكافر ، ومن قرأ بالتاء والثاء أي قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } لأن تحية المؤمن السلام بها يتعارفون وبها يحيي بعضهم بعضاً .

قال : ابن سيرين : إنما قال : ( إليكم ) لأنه سلّم عليهم رجل فقتلوه ومن قرأ السّلام فمعناه المقادة يعني يطلبون بذلك الغنم والغنيمة وسلب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها ، ويقال : العرض ماسوى الدراهم والدنانير { فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } يعني ثواباً كثيراً لمن ترك قتل المؤمن { كَذلِكَ كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } تأمنون في قومكم من المؤمنين بلا اله إلاّ الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها ، فنهاهم أن يخيفوا أحداً بأمر كانوا يأمنون بمثله وهم في قومهم { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } بالهجرة { فَتَبَيَّنُواْ } أن تقتلوا مؤمناً { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الخير والشر { خَبِيراً } .

روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } ، قال : حرّم الله على المؤمن أن يقول لمن عهد أن لا اله إلاّ الله : لست مؤمناً ، كما حرّم عليهم الميتة فهو آمن على ماله ودمه فلا يردّوا عليه قوله ( وهو مؤمن ) .

زعم ابن [ سيرين ] هو القول بهذه الآية .

وقالوا لما قال الله { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } منعهم من قبلهم بعد اظهارهم الإسلام ولم يكن ذلك إلاّ قولهم فلولا أن الإيمان هو القول ، وذلك أن القوم لما شكّوا في حال أصله كان هذا القول منه تعوذاً ؟ فقتلوه والله تعالى لم يجعل إلى عبده غير الحكم بالظاهر .

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلاّ الله " وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط » . ألا ترى أنّ المنافقين كانوا يقولون هذا القول . ثم لم يكن ذلك ايماناً منهم . وقد تبين من معنى هذه الآية ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هلا شققت عن قلبه "

فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره ، وأنّ حقيقة التصديق بالقول ، ولكن ليس للعبد حكم إلاّ على ما سمعه منه فقط ، وفي هذه الآية ردٌّ على أهل القدر وهو أنّ الله تعالى أخبر أنه منَّ على المؤمنين من بين جميع الخلق . ممن خصّهم بالتوفيق فصاروا مخصوصين بالإيمان وأنّ الله لو خلق الخلق كلّهم للإيمان . كما زعمت القدرية فما معنى اختصاصهم بالمنة من بين الخلق كلّهم ، وبالفصل بينهم وبين من قال إنّ المتنعم في الإيمان بالله إذ كانوا مساوين لغيرهم في جميع المعاني فأقروا ولم يعاندوا كما عاند غيرهم منع مساواتهم لهم في جميع المعاني .