تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (94)

المفردات :

ضربتم في سبيل الله : سافرتم للغزو .

فتبينوا : فاطلبوا بيان الأمر والكشف عنه وتثبتوا .

ألقى إليكم السلام : حياكم بتحية الإسلام .

تبتغون عرض الحياة الدنيا : تطلبون متاعها الزائل ، ونعيمها الفاني : من مال وغيره .

التفسير :

94- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ . . . حرص الإسلام على حفظ الأعراض والأموال والدماء والعقول .

وقد ورد في كتب الصحيح وغيرها أسباب نزول هذه الآية وموجزها : أن أحد المسلمين كان في سرية للجهاد فتفرق الأعداء ، وبقي رجل في غنمه فلما أدركه المسلم ، قال الرجل : السلام عليكم إني مسلم ، فقتله المسلم ، واستاق ماله ؛ فنزلت هذه الآية ، تأمر بالتثبيت والتروي وعدم التسرع في قتل إنسان بعد إعلان إسلامه ؛ إذ ربما كان الدافع الرغبة في ماله وفي عرض الحياة الدنيا .

وقد ساق ابن جرير الطبري ثماني عشرة رواية في سبب نزول هذه الآية ، منها : ما يفيد أن القاتل هو أسامة بن زيد ، والقتيل هو مرادس بن نهيك ، ومنها : ما يفيد أن القاتل هو المقداد بن الأسود ، ومنها : ما يفيد أن القاتل غيرهما ويمكن الجمع بينهما بتعدد الأحداث ونزول الآية عقب منها .

وقد وردت روايات بهذا المعنى في البخاري والترمذي ، والحاكم ، وغيرهم .

وجاء في تفسير مقاتل بن سليمان ما يأتي :

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة ، فلقوا رجلا منهم يدعى مرادس ابن نهيك معه غنمه له وجمل أحمر ، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل ، واتبعه أسامة ، فلما بلغ مرادس الكهف ، وضع فيه غنمه ، ثم أقبل إليهم فقال : '' السلام عليكم ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله'' فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنمه ، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ؛ قال لأسامة : ''كيف أنت ولا إله إلا الله ! '' قال : يا رسول الله ، إنما قالها متعوذا ، تعوذ بها .

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ''هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه ؟ '' قال : يا رسول الله إنما قلبه بضعة من جسده {[65]} ؛ فأنزل الله خبر هذا ، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه فذلك حين يقول : تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . . .

فلما بلغ فمن الله عليكم : أي : فتاب الله عليكم ؛ حلف أسامة أن ألا يقاتل رجلا يقول : لا إله غلا الله بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه {[66]} .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ . . . يأيها الذين صدقوا الله وصدقوا رسوله فيما جاءهم به من عند ربهم ، إذا سيرتم مسيرة لله في جهاد أعدائكم .

فتبينوا . فتأنوا في قتل من أشكل عليكم أمره ؛ وابحثوا عن الحقيقة ، وتثبتوا من حال من تقاتلونهم ، ولا تقدموا على قتل أحد ، إلا إذا علمتموه يقينا حربا لكم ولله ولرسوله .

وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ . . . ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم ، مظهرا لكم أنه من أهل ملتكم ودعوتكم .

لست مؤمنا . . . أي : إنك إنما أظهرت الإسلام ، طلبا للنجاة ، بنفسك ومالك ، ولست مخلصا في إسلامك . وفي الأثر : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد بن الأسود : ''كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه فقتلته ، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة من قبل ! '' {[67]} .

تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . تريدون متاع الحياة الدنيا بالاستلاء على مال الرجل وهو متاع قليل زائل .

فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ . من رزقه وفواضل نعمه فهي خير لكم إن أطعتم الله فيما أمركم به ونهاكم عنه .

كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْل . ُ كفارا مثلهم ، أو تستخفون بدينكم كما استخفى هذا الذي قتلتموه وأخذتم ماله .

فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ . أي : هداكم الله إلى الإسلام ، أو إعلان الإيمان ، أو التوبة على الذي قتل ذلك الرجل ، فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم .

فَتَبَيَّنُواْ . تكرير للأمر بالتبيين ؛ ليؤكد عليهم .

إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا . فيعلم ما تخبئه النفوس ، وتضمره القلوب ، وبواعثها على العمل وغايتها التي لا تنكشف للناس .


[65]:(البضعة) بفتح السكون: القطعة من اللحم.
[66]:هلا شققت عن قلبه: رواه البخاري في المغازى (4269) وفي الديات (6872) ومسلم في الإيمان (96) وأبو داود في الجهاد (2643) وأحمد في مسنده (21238) من حديث أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله قلت: كان متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
[67]:كان رجل مؤمن يخفي إيمانه: رواه البخاري في الديات (6865) المقداد بن عمرو الكندي حليف بني زهرة، وكان شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: رسول الله إني لقيت كافرا فاقتتلنا فضرب يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة وقال: أسلمت لله آقتله بعد أن قالها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله قال: يا رسول الله فإنه طرح إحدى يده ثم قال ذلك بعد ما قطعها آقتله قال: لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال وقال حبيب بن أبي عمرة: عن سعيد عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم للمقداد: إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل.