غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (94)

92

ثم بالغ في تحريم قتل المؤمن فقال : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا } لتفعل ههنا بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوّكوا فيه عن غير روية { ولا تقولوا لما ألقى إليكم السلام } وهو والسلم بمعنى الاستسلام ، وقيل الإسلام ، وقيل التحية يعني سلام أهل الإسلام . قال السدي : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على سرية ، فلقي مرداس بن نهيك رجلاً من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره وكان يقول لا إله إلاّ الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهرب ثقة بإسلامه ، فقتله أسامة واستاق غنماً كانت معه . فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره فقال : قتلت رجلاً يقول لا إله إلاّ الله . فقال : يا رسول الله إنما تعوذ من القتل . فقال : كيف أنت إذا خاصمك يوم القيامة بلا إله إلاّ الله ؟ قال : فما زال يردّدها عليّ أقتلت رجلاً وهو يقول لا إله إلاّ الله حتى تمنيت لو أنّ إسلامي كان يومئذٍ فنزلت الآية . وقد روى الكلبي وقتادة مثل ذلك . وقال الحسن : " إنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا يتطرّفون فلقوا المشركين فهزموهم فشذ منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين وأراد متاعه ، فلما غشيه بالسنان قال : إني مسلم فكذبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه وكان قليلاً ، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قتلته بعد ما زعم أنه مسلم . قال : يا رسول الله إنما قالها متعوّذاً . قال : فهلاّ شققت عن قلبه ؟ قال : لم ؟ قال : لتنظر أصادق هو أم كاذب . قال : وكنت أعلم ذلك يا رسول الله ؟ قال : ويلك إنك لم تكن لتعلم ذلك إنما يبين عنه لسانه . قال : فما لبث القاتل أن مات فدفن فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره . قال : ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثاً . فلما رأوا أنّ الأرض لا تقبله ألقوا عليه الحجارة " .

قال الحسن : إنّ الأرض تجن من هو شر منه ولكن وعظ القوم أن لا يعودوا . وعن سعيد بن جبير قال : خرج المقداد بن الأسود في سرية فإذا هم برجل في غنيمة له فأرادوا قتله فقال : لا إله إلاّ الله . فقتله المقداد . فقيل له : أقتلته وقد قال لا إله إلاّ الله ؟ فقال : ودّ لو فرّ بأهله وماله . فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فنزلت . قال القفال : ولا منافاة بين هذه الروايات ، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته . وعن أبي عبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرفع عنه الرمح " . قال الفقهاء : توبة الزنديق مقبولة لإطلاق هذه الآية . وقال أبو حنيفة : إسلام الصبي يصح لإطلاق الآية . وقال الشافعي : لا يصح وإلاّ لوجب عليه لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذناً في الكفر وهو غير جائز ، لكنه غير واجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم : " رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ " . وقال أكثر الفقهاء : لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن أو مسلم لا يحكم بإسلامه لأنه يعتقد أن الإيمان والإسلام هو دينه . ولو قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحصل الجزم بإسلامه لأنّ منهم من يقول إنه رسول العرب وحدهم ومنهم من يقول إنّ محمداً الذي هو الرسول الحق المنتظر بعد ، فلا بد أن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل ، وأن الدين الذي هو موجود فيما بين المسلمين حق . { تبتغون عرض الحياة الدنيا } قال أبو عبيدة : جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء . يقال : إنّ الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر ، سمي عرضاً لأنه عارض زائل غير باقٍ ، ومنه العرض لمقابل الجوهر لقلة ثباته كما قيل : العرض لا يبقى زمانين { فعند الله مغانم كثيرة } يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام متعوّذاً به لتأخذوا ماله . وقيل : يريد ما أعدّ لعباده من حسن الثواب في الآخرة { كذلك كنتم من قبل } اختلفوا في وجه الشبه فقال الأكثرون : يريد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام سمعت منكم كلمة الشهادة فحقنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم { فمنّ الله عليكم } بالاستقامة والاشتهار بالإيمان وأن صرتم أعلاماً فيه ، فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام ما فعل بكم .

واعترض بأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء لأنا آمنا بالاختيار وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف ، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر ؟ وعن سعيد بن جبير : المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى إيمانه هذا الراعي عن قومه { فمنّ الله عليكم } بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم . وأورد عليه أن إخفاء الإيمان ما كان عاماً فيهم . وفي التفسير الكبير : المراد أنكم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام فمنّ الله عليكم بتقوية ذلك الميل وتزايد نور الإيمان ، فكذا هؤلاء قد حدث لهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم إيمانهم إلى أن تتكامل رغبتهم فيه . وقيل : إنّ قوله : { فمنّ الله عليكم } منقطع عما تقدمه . وذلك أن القوم لما نهاهم عن قتل منّ تكلّم بلا إله إلاّ الله ذكر أن الله من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر ، ثم أعاد الأمر بالتبين مبالغة في التحذير ، ثم حذر عن الإضمار خلاف الإظهار فقال : { إنّ الله كان بما تعملون خبيراً } وفيه من الوعيد ما فيه .

/خ101