ثم حذر تعالى عما يؤدي إلى القتل العمد من قلة المبالاة في الأمور بقوله :
( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا94 ) .
/ ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم ) أي : ذهبتم ( في سبيل الله ) إلى أرض العدو للغزو ( فتبينوا ) أي : اطلبوا بيان كل ما تأتون وما تذرون . ولا تعجلوا فيه بغير تدبر وروية ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) نهى عما هو نتيجة لترك المأمور به ، وتعيين لمادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين . أي : لا تقولوا ( لمن أظهر الانقياد لدعوتكم فقال : لا اله إلا الله ، أو سلم عليكم فحياكم بتحية الاسلام ) : لست مؤمنا في الباطن . وإنما قلته باللسان لطلب الأمان . بل اقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه ( تبتغون ) أي : تطلبون بقتله ( عرض الحياة الدنيا ) أي : ماله الذي هو سريع النفاد . والجملة حال من فاعل ( لا تقولوا ) منبئة عما يحملهم على العجلة وترك التأني . وقوله تعالى : ( فعند الله مغانم كثيرة ) تعليل للنهي عن ابتغاء ماله بما فيه من الوعد الضمني . كأنه قيل : لا تبتغوا ماله ، فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها ، فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه . أفاده أبو السعود . ثم قال : وقوله تعالى : ( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ) . تعليل للنهي عن القول المذكور . أي : مثل ذلك الذي ألقى إليكم السلام ، كنتم أنتم أيضا . في مبادئ اسلامكم . لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم ، من تحية الإسلام ونحوها . فمن الله عليكم ، بأن قبل منكم تلك المرتبة ، وعصم بها دماءكم وأموالكم ، ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم . والفاء في قوله تعالى : ( فتبينوا ) فصيحة . أي ، إذا كان الأمر كذلك ، فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم . وافعلوا به ما فعل بكم . في أوائل أموركم . من قبول ظاهر الحال ، من غير وقوف على تواطؤ الظاهر والباطن ( ان الله كان بما تعملون خبيرا ) فلا تتهافتوا في القتل وكونوا محترزين محتاطين في ذلك .
قال ابن كثير ( في سبب نزولها ) : أخرج الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال : " مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنما له . فسلم عليهم . فقالوا : ما يسلم علينا إلا ليتعوذ منا . فعمدوا إليه فقتلوه . وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم . فنزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا ) . . . إلى آخرها " . ورواه الترمذي{[2143]} ثم قال : هذا الحديث حسن صحيح . وفي الباب عن أسامة بن زيد .
ورواه الحاكم وصححه . وروى البخاري{[2144]} عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال : " كان رجل في غنيمة له . فلحقه المسلمون ، فقال : السلام عليكم . فقتلوه ، وأخذوا غنيمته . فأنزل الله في ذلك . . . إلى قوله : ( عرض الحياة الدنيا ) : ( تلك الغنيمة ) " .
وقال البخاري{[2145]} : قال حبيب بن أبي عمرة عن سعيد عن ابن عباس قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد : إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه فقتلته ، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل " . هكذا رواه البخاري معلقا مختصرا .
ورواه الحافظ أبو بكر البزار مطولا موصولا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود . فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا . وبقي رجل له مال كثير لم يبرح . فقال : أشهد أن لا اله إلا الله . وأهوى إليه المقداد فقتله . فقال له رجل من أصحابه : أقتلت رجلا شهد أن لا اله إلا الله ؟ لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم . فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله ! إن رجلا شهد أن لا اله إلا الله ، فقتله المقداد . فقال : ادعوا لي المقداد . يا مقداد ! أقتلت رجلا يقول : لا اله إلا الله ! فكيف لك ب ( لا اله إلا الله ) غدا ؟ قال : فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا ) –إلى قوله- : ( كذلك كنتم من قبل ) . . . الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد : كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار . فأظهر إيمانه فقتلته . وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل " .
قال ابن كثير : فقوله تعالى : ( كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ) ، أي : قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه . كما تقدم في الحديث المرفوع ، وكما قال تعالى : ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ) . . . الآية{[2146]} . وهذا وجه آخر في مرجع الإشارة ، غير ما سلف ، وهو الأدق . وبالقبول أحق .
قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : يستفاد من هذه الرواية ( أي : البزار ) تسمية القاتل . وأما المقتول ، فروى الثعلبي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وأخرجه عبد بن حميد من طريق قتادة نحوه . واللفظ للكلبي : " أن اسم المقتول مرداس لما انهزموا بقي هو وحده . وكان ألجأ غنمه بجبل . فلما لحقوه قال : لا اله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم . فقتله أسامة بن زيد . فلما رجعوا نزلت الآية " .
وكذا أخرج الطبري{[2147]} من طريق السدي نحوه . وفي آخر رواية قتادة : " لأن تحية / المسلمين السلام ، بها يتعارفون " . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال : " أنزلت هذه الآية في مرداس " . وهذا شاهد حسن . وأسند ابن أبي حاتم : " أن أسامة حلف لا يقتل رجلا يقول : لا اله إلا الله ، بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه " .
قال بعض المفسرين من أئمة الزيدية : وبهذا اعتذر إلى علي عليه السلام حتى تخلف عنه ، وان كان عذرا غير مقبول . لأن القتال مع الإمام واجب عند خروج البغاة ويكفر يمينه .
قال الحاكم : إلا أن أمير المؤمنين أذن له . انتهى .
وروى الإمام أحمد{[2148]} عن عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه قال : " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اضم " . فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ، ومحلم بن جثامة بن قيس . فخرجنا حتى إذا كنا ببطن اضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له . معه متيع له ( تصغير متاع . وهو السلعة ) ووطب من لبن . فلما مر بنا سلم علينا . فأمسكنا عنه . وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله ، لشيء كان بينه وبينه . وأخذ بعيره ومتيعه . فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر ، نزل فينا القرآن : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله ) –الى قوله تعالى – ( خيرا ) " . ورواه ابن جرير{[2149]} عن ابن عمر وزاد : ( فجاء محلم في بردين . فجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا غفر الله لك . فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه . فما مضت له سابعة حتى مات . ودفنوه في الأرض . فلفظته الأرض ، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له . فقال إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ، ولكن الله أراد أن يعظكم . ثم طرحوه بين صدفي جبل ، وألقوا عليه الحجارة ، ونزلت " .
وروى أئمة السير ، " أنه لما كان عام خيبر ، جاء عيينة بن بدر يطلب بدم عامر وهو سيد قيس . وكان الأقرع بن حابس يرد عن محلم وهو سيد خندف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم عامر : هل لكم أن تأخذوا منا الآن خمسين بعيرا ، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة ؟ فقال عيينة بن بدر : والله ! لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائي . فلم يزل به حتى رضي بالدية " .
قال ابن اسحاق : وحدثني سالم بن النضر قال : " لم يقبلوا الدية حتى قام الأقرع بن حابس فخلا بهم . فقال : يا معشر قيس ! سألكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه . أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيغضب عليكم الله لغضبه ؟ أو يلعنكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيلعنكم الله بلعنته ؟ والله ! لتسلمنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآتين بخمسين من بني تميم كلهم يشهدون أن القتيل ما صلى قط . فلأبطلن دمه . فلما قال ذلك أخذوا الدية " .
وأخرج ابن منده عن الجزء بن الحدرجان قال : " وفد أخي ، قداد إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن . فلقيته سرية النبي صلى الله عليه وسلم . فقال لهم : أنا مؤمن . فلم يقبلوا منه وقتلوه . فبلغني ذلك . فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم ) . . . الآية . فأعطاني النبي صلى الله عليه وسلم دية أخي " .
قال القفال : ولا منافاة بين هذه الروايات . فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها . فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته . انتهى . وتقدم لنا في مقدمة التفسير في سبب النزول ما يدفع التنافي في نحو هذا . فارجع إليه .
قال الرازي : اعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين ، وأمر المجاهدين بالتثبت فيه ، لئلا يسفكوا دما حراما بتأويل ضعيف . وفي ( الاكليل ) : استدل بظاهرها على قبول توبة الزنديق إذا أظهر الاستسلام . وعلى أن الكافر يحكم له بالإسلام إذا أظهر ما ينافي اعتقاده ، على قراءة ( السلام ) وفي الآية وجوب التثبت في الأمور ، خصوصا القتل ووجوب الدعوة قبل القتال . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : في الآية دليل على أن من اظهر شيئا من علامات الإسلام لم يحل دمه حتى يختبر أمره . لأن الإسلام تحية المسلمين . وكان تحيتهم في الجاهلية بخلاف ذلك . فكانت هذه علامة . وأما على قراءة ( السلم ) بفتحتين ، أو بكسر فسكون ، فالمراد به الانقياد . وهو علامة الإسلام . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : ثمرة الآية الكريمة وجوب التثبت والتأني فيما يحتمل الحظر والاباحة لقوله : ( فتبينوا ) ( بالنون ) وهذا قراءة الأكثر . وحمزة والكسائي قراءتهما : ( فتثبتوا ) من ( الثبات ) . ويدخل في هذا أحكام كثيرة من الاعتقادات والأخبار والأفعال من الأحكام وسائر الأعمال ، فهذا حكم . والحكم الثاني أنه يجب الأخذ بالظاهر . فمن أظهر الاسلام أو شيئا من شعائر الاسلام ، لا يكذب بل يقبل منه . ويدخل ، في هذا ، الملحد والمنافق . وهذا هو مذهبنا والأكثر . ويدخل في هذا قبول توبة المرتد ، خلافا لأحمد . وقبول توبة الزنديق . وهذا قول عامة الأئمة .
وقال مالك : لا تقبل ، لأن هذا عين مذهبهم أنهم يظهرون خلاف ما يبطنون .
قال الراضي بالله والامام يحيى : ان أظهروا ما يعتادون اخفاءه قبلت توبتهم . والا فلا .
قال علي خليل : تقبل توبتهم ، ولو عرفنا من باطنهم خلاف ما أظهروا . كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين ، وقد أخبر الله تعالى بكفرهم .
وقال أبو مضر : تقبل ما لم يعرف كذبهم . وهذا الخلاف في الظاهر . أما عند الله ، إذا صدق ، فهي مقبولة وفاقا . قال الحاكم : وتدل على أن التوصل بالسبب المحرم إلى المال لا يجوز . وقد ذكر العلماء صورا في التوصل إلى المباح بالمحظور ، مختلفة . ذكرت في غير هذا / الموضع . والحجة هنا من قوله تعالى : تبتغون عرض الحياة الدنيا ) . لأن الذي قصد هنا أخذه ، محظور . لأن إظهار الإسلام يحقن النفس والمال . فذلك توصل بمحظور إلى محظور .
وقوله تعالى : ( لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا ) . قرئ السلم وهذه قراءة نافع وحمزة وابن عامر بغير ألف وهو الاستسلام . وقيل : اظهار الاسلام . وقرأ الباقون : ( السلام ) بألف وهو التحية . انتهى .
وقال أبو منصور في ( التأويلات ) : فيه الأمر بالتثبت عند الشبهة ، والنهي عن الاقدام عندها . وهكذا الواجب على المؤمن الوقف عند اعتراض الشبهة في كل فعل وكل خبر . لأن الله تعالى أمر بالتثبت في الأعمال بقوله : ( فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا ) . وقال في الخبر : ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ){[2150]} . أمر بالتثبت في الأخبار عند الشبهة ، كما أمر في الأفعال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) {[2151]} . وفي الآية دليل فساد قول المعتزلة . لأنه نهاهم أن يقولوا ( لمن قال : إني مسلم ) لست مؤمنا . وهم يقولون : صاحب الكبيرة ليس بمؤمن . وهو يقول ألف مرة ( على مثل ) أني مسلم . فإذا نهى أن يقولوا : ليس بمؤمن . أمرهم أن يقولوا : هو مؤمن . فيقال لهم : أنتم أعلم أم الله ؟ على ما قيل لأولئك . انتهى .
وقال الرازي : قال أكثر الفقهاء : لو قال اليهودي والنصراني : أنا مؤمن ، أو قال : أنا مسلم ، لا يحكم بهذا القدر باسلامه . لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الاسلام . وهو الايمان . ولو قال : لا اله الا الله محمد رسول الله . فعند قوم لا يحكم باسلامه ، لأن فيهم من يقول : انه رسول الله إلى العرب ، لا إلى الكل . ومنهم من يقول : إن محمدا الذي هو الرسول الحق ، بعد ما جاء ، وسيجيء بعد ذلك . بل لا بد وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل ، وان الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق والله أعلم . انتهى .
أقول : كل من قال : أنا مؤمن وأنا مسلم ، من المحاربين ، مظهرا الانقياد لنا ، وأنه من ملتنا ، فإنه يحكم باسلامه ، ويكف عن قتله وأخذ ماله . كتابيا كان أو مشركا . وهذا هو المقصود من الآية . وأما مسألة من أراد الدخول في الاسلام وهو على عقيدة فاسدة ، وأنه لا بد في صحة إسلامه من تبرئه عنها ، ونبذها ظهريا ، وأنه لا يكتفى بقوله : أنا مسلم –فذاك بحث آخر مسلم . لكن ليس مما تشمله الآية . كما أن من أظهر الإسلام وأتى بالشهادتين ولم يدن بشرائع الاسلام واقامة شعائره ، كبعض القبائل البادية الجافية ، فإنه يجب على الإمام قتالهم . ولا يقال : إن الآية تشملهم لما ذكرنا . وظاهر أن مدار النهي في الآية إنما هو على سفك الدماء ابتغاء عرض الدنيا . لقوله ( تبتغون ) . وهو حال كما أسلفنا . والحال قيد لعاملها . فما ذكره الرازي عن الفقهاء ليس مما تشمله الآية . لأن البحث ليس في القدر الذي يصير به الكافر مسلما ، بل في الكف عن قتل المنقاد لنا . فافهم .