الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (94)

قوله : ( يَأَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ) الآية [ 94 ] .

من قرأ بالتاء( {[13307]} ) ، فمعناه فتثبتوا حتى يتبين لكم الفاسق من غيره ، والمأمور بالتثبت في فسحة أوسع من المأمور بالتبيين ، لأن المأمور بالتبين قد لا يعذر على ذلك ، والمأمور بالتثبت لاشك أنه يقدر على ذلك ، فهو في فسحة من أمره ، ومقدرة على فعل ما أمر به ، وليس كذلك المأمور بالتبين لأنه قد لا يتبين له ما يريد إذا تبين ، والتثبت لا يمنع عليه من نفسه .

ومن قرأ بالياء فمعناه : تبينوا الفاسق من غيره ، ولاتعجلوا حتى تتبينوا ، فإن العجلة من الشيطان . وقال أبو عبيدة( {[13308]} ) : إحداهما قريبة من ( الأخرى )( {[13309]} ) .

وقال النحاس وغيره : فتبينوا أؤكد( {[13310]} ) لأن الإنسان قد يتثبت ( {[13311]} )ولا يتبين( {[13312]} ) . وهو( {[13313]} ) لا يتبين إلا مع التثبت ، ففي البيان يقع التثبت وليس بالتثبت يقع البيان . [ فالبيان( {[13314]} ) ] لابد منه فكل من تبين أمراً فبعد أن يتثبت فيه بان له ، وليس كل من تثبت في أمر تبينه ، فالبيان على هذا أوكد وأعلم ، ولكنه أشد كلفة في التثبت .

ومعنى الآية أن الله تعالى أمر المؤمنين إذا ضربوا في الأرض أي : ساروا في الجهاد أن يتثبتوا في القتل ، إذا أشكل عليهم الأمر ، فلم يعرفوا حقيقة إسلام( {[13315]} ) من أرادوا قتله ، وأن لا يقولوا لمن ألقى إليهم السلم ، أي : من استسلم في أيديهم ( لَسْتَ مُومِناً ) ليأخذوا ما معه .

ومن قرأ السلام : ( {[13316]} ) فمعناه لا تقولوا لمن سلم عليكم ( لَسْتَ مُومِناً ) لتأخذوا ما معه ، فعند الله مغانم كثيرة من رزقه ، فلا يغرنكم سَلَب من استسلم في أيديكم . ( كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ ) أي : كنتم من قبل مثل هذا الذي قتلتموه ، وأخذتم ماله استخفى بدينه من قومه حذراً على نفسه منهم ، وكذلك كنتم .

وقيل : معناه ، وكذلك كنتم كفاراً مثله ، فهداكم الله وأعز دينكم ، ومَنَّ عليكم بالإسلام والتوبة( {[13317]} ) .

وقيل : ( {[13318]} ) معنى( {[13319]} ) : ( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ) فقد مَنَّ الله عليكم بالتوبة من قتيلكم هذا الذي استسلم إليكم ، ثم قتلتموه وأخذتم ماله ، فتثبتوا أي : لا تعجلوا في قتل من التبس عليكم أمر إسلامه .

وقرأ أبو رجاء : السِلْم بكسر السين .

وقرأ أبو جعفر : ( لست مؤمَناً ) بفتح الميم( {[13320]} ) أي : لسنا نؤمنك .

وهذه الآية نزلت في قتيل من غطفان اسمه مرداس( {[13321]} ) كان قد أسلم ، فقتلته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قال : إني مسلم ، وقيل : بعدما سلم عليهم . وقيل : بعدما قال : إني مسلم لا إله إلا الله ، وكانت معه غنيمة فأخذوها( {[13322]} ) .

ويروى أن الذي قتله مات ودفن ، فلفظته( {[13323]} ) الأرض ثلاث مرات ، يدفن وتلفظه الأرض فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلقوه في غار من الغيران ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الأرض تقبل من هو شر منه ، ولكن الله جعله لكم عبرة " ( {[13324]} ) .

وقراءة من قرأ السلام يدل على أن ما روي أنه كان رجل معه غنيمة لقيه( {[13325]} ) سرية من المسلمين ، فقال : السلام عليكم ، وكانت جُنَّة لا يقتل من قالها ، فقتل الرجل وأخذ ما معه .

وحجة من قرأ السلام ما روي أنه قال لهم : إني مسلم وما روي أنه قال : إني مسلم لا إله إلا الله .

قوله : ( [ إِنَّ اللَّهَ ]( {[13326]} ) كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) أي : خبيراً بما تصنعون في طلبكم الغنيمة ، ولم تقبلوا منه ما قال لكم .


[13307]:- قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم: فتبينوا بالتاء والنون، وقرأ حمزة والكسائي فتثبتوا بالتاء والثاء. انظر: معاني الفراء 1/283، ومعاني الأخفش 1/452، والسبعة: 236.
[13308]:- (أ) (ج): أبو عبيدة، ونسبة القول إلى أبي عبيد وردت في الكشف 1/395، والمحرر 4/21ç، والجامع للأحكام 5/337، والبحر 3/328.
[13309]:- ساقط من (د).
[13310]:- (أ): أو كذا...
[13311]:- (د): بياض في موضع يتثبت.
[13312]:- انظر: إعراب النحاس 1/445.
[13313]:- (ج): الو هو.
[13314]:- زيادة يقتضيها السياق.
[13315]:- (د): الإسلام.
[13316]:- (أ) (ج): السلم. في السلم ثلاث قراءات: (أ): السلم بدون ألف وهي قراءة أهل الحرمين والكوفة. (ب): السلام بألف وهي قراءة ابن عباس وأبي عمرو وعاصم الجحداني وأبي عبد الرحمن. (ج): السِلْم بكسر السين وسكون اللام وهي قراءة أبي رجاء ورواية عن عاصم. انظر: معاني الفراء 1/283، السبعة 236، وإعراب النحاس 1/416، والكشف 1/395.
[13317]:- انظر: معاني الزجاج 2/92.
[13318]:- عزه الطبري لقتادة في جامع البيان 5/227.
[13319]:- (أ) (ج): معناه.
[13320]:- هي قراءة شاذة تنسب لابن عباس وابن مسعود ومحمد بن علي في مختصر الشواذ: 28 وإلى عكرمة وأبي العالية ويحيى بن يعمرو في البحر 3/329.
[13321]:- هو مرداس بن عمرو بن نهيد العمري الأسلمي من أهل فداك ولم يكن أسلم من قومه غيره بقي حين هرب قومه من المسلمين فكبر وأعلن الشهادة فلم يصدق، ويقال قتله أسامة بن زيد. انظر: أسد الغابة 4/367، الإصابة 3/380.
[13322]:- انظر: جامع البيان 5/224، وأسباب النزول: 100، ولباب النقول: 77.
[13323]:- (ج): ودفن في فضته فنفضته.
[13324]:- خرجه ابن ماجه في كتاب الفتن 2/1297.
[13325]:- كذا... وصوابه لقيته.
[13326]:- ساقط من (أ).