الأولى : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله " هذا متصل بذكر القتل والجهاد . والضرب : السير في الأرض ، تقول العرب : ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيره ، مقترنة بفي . وتقول : ضربت الأرض دون " في " إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يخرج الرجلان يضربان الغائط يتحدثان كاشفين عن فرجيهما فإن الله يمقت على ذلك ) .
وهذه الآية نزلت في قوم من المسلمين مروا في سفرهم{[4798]} برجل معه جمل وغنيمة يبيعها فسلم على القوم وقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فحمل عليه أحدهم فقتله . فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم شق عليه ونزلت
وأخرجه البخاري عن عطاء عن ابن عباس قال : قال ابن عباس : كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال : السلام عليكم ؛ فقتلوه وأخذوا غنيمته ، فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله : " عرض الحياة الدنيا " تلك الغنيمة . قال : قرأ ابن عباس " السلام " . في غير البخاري : وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليه غنيماته . واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة ، فالذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنف أبي داود والاستيعاب لابن عبدالبر أن القاتل محلم بن جثامة ، والمقتول عامر بن الأضبط ، فدعا عليه السلام على محلم فما عاش بعد ذلك إلا سبعا ثم دفن فلم تقبله الأرض ثم دفن فلم تقبله ثم دفن ثالثة فلم تقبله ، فلما رأوا أن الأرض لا تقبله ألقوه في بعض تلك الشعاب ، وقال عليه السلام : ( إن الأرض لتقبل من هو شر منه ) . قال الحسن : أما إنها تحبس من هو شر منه ولكنه وعظ القوم ألا
وفي سنن ابن ماجة عن عمران بن حصين قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا{[4799]} من المسلمين إلى المشركين فقاتلوهم قتالا شديدا ، فمنحوهم أكتافهم فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح فلما غشيه قال : أشهد أن لا إله إلا الله ؛ إني مسلم ، فطعنه فقتله ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكت ! قال : ( وما الذي صنعت ) ؟ مرة أو مرتين ، فأخبره بالذي صنع . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه ) فقال : يا رسول الله لو شققت بطنه أكنت أعلم ما في قلبه ؟ قال : ( لا فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه ) . فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات فدفناه ، فأصبح على وجه الأرض . فقلنا : لعل عدوا نبشه ، فدفناه ثم أمرنا غلماننا يحرسونه فأصبح على ظهر الأرض . فقلنا : لعل الغلمان نعسوا ، فدفناه ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض ، فألقيناه في بعض تلك
وقيل : إن القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك الغطفاني ثم الفزاري من بني مرة من أهل فدك . وقال ابن القاسم عن مالك . وقيل : كان مرداس هذا قد أسلم من الليلة وأخبر بذلك أهله ، ولما عظم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على أسامة حلف عند ذلك ألا يقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله . وقد تقدم القول فيه . وقيل : القاتل أبو قتادة . وقيل : أبو الدرداء . ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض حين مات هو محلم الذي ذكرناه . ولعل هذه الأحوال جرت في زمان متقارب فنزلت الآية في الجميع .
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أهل المسلم الغنم والجمل وحمل ديته على طريق الائتلاف والله أعلم . وذكر الثعلبي أن أمير تلك السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي . وقيل : المقداد حكاه السهيلي .
الثانية : قوله تعالى : " فتبينوا " أي تأملوا . و " تبينوا " قراءة الجماعة ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، وقالا : من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبيت ، يقال : تبينت الأمر وتبين الأمر بنفسه ، فهو متعد ولازم . وقرأ حمزة " فتثبتوا " من التثبت بالثاء مثلثة وبعدها باء بواحدة " وتبينوا " في هذا أوكد ؛ لأن الإنسان قد يتثبت ولا يبين . وفي " إذا " معنى الشرط ، فلذلك دخلت الفاء في قوله " فتبينوا " . وقد يجازى بها كما قال :
وإذا تصبك خصاصة فتجمل{[4800]}
والجيد ألا يجازى بها كما قال الشاعر :
والنفس راغبة إذا رغَّبتها *** وإذا تُرَدُّ إلى قليل تقنع
والتبين التثبت في القتل واجب حضرا وسفرا ولا خلاف فيه ، وإنما خص السفر بالذكر ؛ لأن الحادثة التي فيها نزلت الآية وقعت في السفر .
الثالثة : قوله تعالى : " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا " السلم والسلم ، والسلام واحد ، قال البخاري . وقرئ بها كلها . واختار أبو عبيد القاسم بن سلام " السلام " . وخالفه أهل النظر فقالوا : " السلم " ههنا أشبه ؛ لأنه بمعنى الانقياد والتسليم{[4801]} ، كما قال عز وجل : " فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء{[4802]} " [ النحل : 28 ] فالسلم الاستسلام والانقياد . أي لا تقولوا لمن ألقى بيده واستسلم لكم وأظهر دعوتكم{[4803]} لست مؤمنا . وقيل : السلام قول السلام عليكم ، وهو راجع إلى الأول ؛ لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده ، ويحتمل أن يراد به الانحياز والترك . قال الأخفش : يقال فلان{[4804]} سلام إذا كان لا يخالط أحدا . والسلم ( بشد السين وكسرها وسكون اللام ) الصلح{[4805]} .
الرابعة : وروي عن أبي جعفر أنه قرأ " لست مؤمَنا " بفتح الميم الثانية ، من آمنته إذا أجرته فهو مؤمن .
الخامسة : والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له جاز له قتله ، فإن قال : لا إله إلا الله لم يجز قتله ؛ لأنه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله : فإن قتله بعد ذلك قتل به . وإنما سقط القتل عن هؤلاء لأجل أنهم كانوا في صدر الإسلام وتأولوا أنه قالها متعوذا وخوفا من السلاح ، وأن العاصم قولها مطمئنا ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاصم كيفما قالها ؛ ولذلك قال لأسامة : ( أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ) أخرجه مسلم . أي تنظر{[4806]} أصادق هو في قوله أم كاذب ؟ وذلك لا يمكن فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه . وفي هذا من الفقه باب عظيم ، وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر .
السادسة : فإن قال : سلام عليكم فلا ينبغي أن يقتل أيضا حتى يعلم ما وراء هذا ؛ لأنه موضع إشكال . وقد قال مالك في الكافر يوجد فيقول : جئت مستأمنا أطلب الأمان : هذه أمور مشكلة ، وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام ؛ لأن الكفر قد ثبت له فلا بد أن يظهر منه ما يدل على قوله ، ولا يكفي أن يقول أنا مسلم ولا أنا مؤمن ولا أن يصلي حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بها عليه في قوله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) .
السابعة : فإن صلى أو فعل فعلا من خصائص الإسلام فقد اختلف فيه علماؤنا ، فقال ابن العربي : نرى أنه لا يكون بذلك مسلما ، أما أنه يقال له : ما وراء هذه الصلاة ؟ فإن قال : صلاة مسلم ، قيل له : قل لا إله إلا الله{[4807]} ؛ فإن قالها تبين صدقه ، وإن أبى علمنا أن ذلك تلاعب ، وكانت عند من يرى إسلامه ردة ، والصحيح أنه كفر أصلي ليس بردة . وكذلك هذا الذي قال : سلام عليكم ، يكلف{[4808]} الكلمة ، فإن قالها تحقق رشاده ، وإن أبى تبين عناده وقتل . وهذا معنى قوله : " فتبينوا " أي الأمر المشكل ، أو " تثبتوا " ولا تعجلوا المعنيان سواء . فإن قتله أحد فقد أتى منهيا عنه . فإن قيل : فتغليظ النبي صلى الله عليه وسلم على محلم ، ونبذه من قبره كيف مخرجه ؟ قلنا : لأنه علم من نيته أنه لم يبال بإسلامه فقتله متعمدا لأجل الحنة التي كانت بينهما في الجاهلية .
الثامنة : قوله تعالى : " تبتغون عرض الحياة الدنيا " أي تبتغون أخذ ماله : ويسمى متاع الدنيا عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت . قال أبو عبيدة : يقال جميع متاع الحياة{[4809]} الدنيا عرض بفتح الراء ؛ ومنه{[4810]} : ( الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر ) . والعرض ( بسكون الراء ) ما سوى الدنانير والدراهم ، فكل عرض عرض ، وليس كل عرض عرضا . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ) . وقد أخذ بعض العلماء هذا المعنى فنظمه :
تقنَّع بما يكفيك واستعمل الرضا *** فإنك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال *** إنما يكون الغنى والفقر من قبل النفس
وهذا يصحح قول أبي عبيدة : فإن المال يشمل كل ما يتمول . وفي كتاب العين : العرض ما نيل من الدنيا ، ومنه قوله تعالى : " تريدون عرض الدنيا{[4811]} " [ الأنفال : 67 ] وجمعه عروض . وفي المجمل لابن فارس : والعرض ما يعترض الإنسان من مرض أو نحوه{[4812]} وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قل أو كثر . والعرض من الأثاث ما كان غير نقد . وأعرض الشيء إذا ظهر وأمكن . والعرض خلاف الطول .
التاسعة : قوله تعالى : " فعند الله مغانم كثيرة " عدة من الله تعالى بما يأتي به على وجهه ومن حله دون ارتكاب محظور ، أي فلا تتهافتوا . " كذلك كنتم من قبل " أي كذلك كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم خوفا منكم على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز الدين وغلبة المشركين ، فهم الآن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم ، فلا يصلح إذ وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره . وقال ابن زيد : المعنى كذلك كنتم كفرة " فمن الله عليكم " بأن أسلمتم فلا تنكروا أن يكون هو كذلك ثم يسلم لحينه حين لقيكم فيجب أن تتثبتوا في أمره .
العاشرة : استدل بهذه الآية من قال : إن الإيمان هو القول ، لقوله تعالى : " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا " . قالوا : ولما منع أن يقال لمن قال لا إله إلا الله لست مؤمنا منع من قتلهم بمجرد القول . ولولا الإيمان الذي هو هذا القول{[4813]} لم يعب قولهم . قلنا : إنما شك القوم في حالة أن يكون هذا القول منه تعوذا فقتلوه ، والله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط ، ألا ترى أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول وليسوا بمؤمنين حسب ما تقدم بيانه في " البقرة{[4814]} " وقد كشف البيان في هذا قوله عليه السلام : ( أفلا شققت عن قلبه ) ؟ فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره ، وأن حقيقته التصديق بالقلب ، ولكن ليس للعبد طريق إليه إلا ما سمع منه فقط . واستدل بهذا أيضا من قال : إن الزنديق تقبل توبته إذا أظهر الإسلام ؛ قال : لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره متى أظهر الإسلام . وقد مضى القول في هذا في أول البقرة . وفيها رد على القدرية ، فإن الله تعالى أخبر أنه من على المؤمنين من بين جميع الخلق بأن خصهم بالتوفيق ، والقدرية تقول : خلقهم كلهم للإيمان . ولو كان كما زعموا لما كان لاختصاص المؤمنين بالمنة من بين الخلق معنى .
الحادية عشرة : قوله تعالى : " فتبينوا " أعاد الأمر بالتبيين للتأكيد . " إن الله كان بما تعملون خبيرا " تحذير عن مخالفة أمر الله ، أي احفظوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم .