قوله تعالى : { لقد كان لسبأ } روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك القطيعي ، قال : قال رجل : " يا رسول الله أخبرني عن سبأ كان رجلاً أو امرأة أو أرضاً ؟ قال : كان رجلاً من العرب وله عشرة من الولد ، تيامن منهم ستة ، وتشاءم أربعة ، فأما الذين تيامنوا : فكندة ، والأشعريون ، وأزد ، ومذحج ، وأنمار ، وحمير ، فقال رجل : وما أنمار ؟ قال الذين منهم خثعم وبجيلة : وأما الذين تشاءموا : فعاملة ، وجذام ، ولخم ، وغسان ، وسبأ هو ابن يشجب ابن يعرب بن قحطان " . { في مسكنهم } قرأ حمزة ، وحفص : مسكنهم بفتح الكاف ، على الواحد ، وقرأ الكسائي بكسر الكاف ، وقرأ الآخرون : مساكنهم على الجمع ، وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن ، { آية } دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، ثم فسر الآية فقال : { جنتان } أي : هي جنتان بستانان ، { عن يمين وشمال } أي : عن يمين الوادي وشماله . وقيل : عن يمين من أتاهم وشماله ، وكان لهم واد قد أحاطت الجنتان بذلك الوادي { كلوا } أي : وقيل لهم كلوا ، { من رزق ربكم } يعني : من ثمار الجنتين ، قال السدي ومقاتل : كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها وتمر بالجنتين فيمتلئ مكتلها من أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئاً بيدها ، { واشكروا له } أي : على ما رزقكم من النعمة ، والمعنى : اعملوا بطاعته ، { بلدة طيبة } أي : أرض سبأ بلدة طيبة ليست بسبخة ، قال ابن زيد : لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ، وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كله من طيب الهواء ، فذلك قوله تعالى : { بلدة طيبة } أي : طيبة الهواء ، { ورب غفور } قال مقاتل : وربكم إن شكرتموه فيما رزقكم رب غفور للذنوب .
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عبد الله بن هُبَيْرة ، عن عبد الرحمن بن وَعْلة قال : سمعت ابن عباس يقول{[24221]} : إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ : ما هو ؟ رجل{[24222]} أم امرأة أم أرض ؟ قال : «بل هو رجل ، ولد عَشَرة{[24223]} ، فسكن اليمن منهم ستة ، وبالشام منهم أربعة ، فأما اليمانيون : فَمَذْحِجُ ، وكِنْدَةُ ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير . وأما الشامية فلخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسان » .
ورواه عَبد ، عن الحسن بن موسى ، عن ابن لَهِيعة ، به{[24224]} . وهذا إسناد{[24225]} حسن ، ولم يخرجوه ، [ وقد روي من طرق متعددة ]{[24226]} . وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتاب " القصد والأمَمْ ، بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم " ، من حديث ابن لهيعة ، عن علقمة بن وعلة ، عن ابن عباس فذكر نحوه . وقد روي نحوه من وجه آخر .
وقال [ الإمام ] أحمد{[24227]} أيضا وعبد بن حميد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا أبو جَنَاب يحيى بن أبي حيَّة الكلبي ، عن يحيى بن هانئ بن عُرْوَة ، عن فروة بن مُسيَك قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أقاتل بمقبل قومي مدبرهم ؟ قال : " نعم ، فقاتل بمقبل قومك مدبرهم " . فلما وليت دعاني فقال : " لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام " . فقلت : يا رسول الله ، أرأيت سبأ ؛ أواد هو ، أو رجل{[24228]} ، أو ما هو ؟ قال : " [ لا ]{[24229]} ، بل رجل من العرب ، ولد له عشرة فَتَيَامَنَ ستة وتشاءم أربعة ، تيامن الأزد ، والأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار الذين يقال لهم : بجيلة وخثعم . وتشاءم لخم ، وجذام ، وعاملة ، وغسَّان " .
وهذا أيضًا إسناد جيد{[24230]} وإن كان فيه أبو جَنَاب الكلبي ، وقد تكلموا فيه{[24231]} . لكن رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب ، عن العَنْقَزِي{[24232]} ، عن أسباط بن نصر ، عن يحيى بن هانئ المرادي ، عن عمه أو عن أبيه - يشك أسباط - قال : قدم فروة بن مُسَيك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره . {[24233]}
طريق أخرى لهذا الحديث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، حدثني ابن لهيعة ، عن توبة بن نَمر{[24234]} ، عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال : كنا عند عبيدة{[24235]} بن عبد الرحمن بأفريقية فقال يومًا : ما أظن قوما بأرض إلا وهم من أهلها . فقال علي بن رباح : كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مُسَيك الغُطَيفي{[24236]} قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول{[24237]} الله ، إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية ، وإني أخشى أن يرتدّوا عن الإسلام ، أفأقاتلهم ؟ فقال : " ما أمرت فيهم بشيء بعد " . فأنزلت هذه الآية : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } الآيات ، فقال له رجل : يا رسول الله ، ما سبأ ؟ فذكر مثل هذا الحديث الذي قبله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن سبأ : ما هو ؟ أبلد ، أم رجل ، أم امرأة ؟ قال : " بل رجل ، وَلَد له عَشَرَة فسكن اليمن منهم ستة ، والشام أربعة ، أما اليمانيون : فمذحج ، وكندة ، والأزد ، والأشعريون ، وأنمار ، وحمير غير ما حلها . وأما الشام : فلخم ، وجذام ، وغسان ، وعاملة " .
فيه غرابة من حيث ذكر [ نزول ]{[24238]} الآية بالمدينة ، والسورة مكية كلها ، والله{[24239]} أعلم .
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو أسامة ، حدثني الحسن بن الحكم ، حدثنا أبو{[24240]} سَبْرَة النَّخَعِي ، عن فَرْوَة بن مُسَيْك الغُطَيْفي{[24241]} قال : قال رجل : يا رسول الله ، أخبرني عن سبأ : ما هو ؟ أرض ، أم امرأة ؟ قال : " ليس بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد ، فتيامن ستة وتشاءم أربعة ، فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وعاملة وغسان ، وأما الذين تيامنوا : فكندة ، والأشعريون ، والأزد ، ومذحج ، وحمير ، وأنمار " . فقال رجل : ما أنمار ؟ قال : " الذين منهم خثعم وبجيلة " .
ورواه الترمذي في جامعه ، عن أبي كُرَيْب وعبد بن حميد قالا حدثنا أبو أسامة ، فذكره أبسط من هذا ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب . {[24242]}
وقال أبو عمر بن عبد البر : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا ابن كثير - هو عثمان بن كثير - عن الليث بن سعد ، عن موسى بن على ، عن يزيد بن حصين ، عن تميم الداري ؛ أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ ، فذكر مثله ، فقوي هذا الحديث وحَسّن . {[24243]}
قال علماء النسب ، منهم محمد بن إسحاق : اسم سبأ : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان .
وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب ، وكان يقال له : الرائش ؛ لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه ، فسمي الرائش ، والعرب تسمي المال : ريشا ورياشا . وذكروا أنه بشَّر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه{[24244]} المتقدم ، وقال في ذلك شعرًا :
سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مُلْكًا عَظيمًا *** نَبيّ لا يُرَخِّصُ في الحَرَام
وَيَْملك بَعْدَه منْهُم مُلُوك *** يدينوه العبادَ بغَير ذام
ويَملك بَعدهم منا مُلُوك *** يَصير المُلك فينَا باقْتسَام
وَيَمْلك بَعَْد قَحْطَان نَبي *** تَقي خَبْتَة خير الأنام
وسُميَ أحْمَدًا يَا لَيْتَ أني*** أُعَمَّرُ بَعْد مَبْعَثه بعام
فأعضُده وأَحْبوه بنَصْري *** بكُل مُدَجّج وبكُل رام
متى يَظْهَرْ فَكُونُوا نَاصريه *** وَمَنْ يَلْقَاهُ يُبْلغه سَلامي
ذكر ذلك الهمداني في كتاب " الإكليل " .
واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه من سلالة إرم بن سام بن نوح ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث{[24245]} طرائق .
والثاني : أنه من سلالة عَابَر ، وهو هود ، عليه الصلاة والسلام ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضًا .
والثالث : أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، عليهما السلام ، واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضا . وقد ذكر ذلك مستقصى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر النَّمري ، رحمه الله ، في كتابه [ المسمى ]{[24246]} : " الإنباه على ذكر أصول القبائل الرواة " {[24247]} .
ومعنى قوله عليه السلام : «كان رجلا من العرب » يعني : العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل ، عليه السلام ، من سلالة سام بن نوح . وعلى القول الثالث : كان من سلالة الخليل ، عليه السلام ، وليس هذا بالمشهور عندهم ، والله أعلم . ولكن في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بنفر من " أسلَمَ " ينتضلون ، فقال : «ارموا بني إسماعيل ، فإن أباكم كان راميا »{[24248]} . فأسلم قبيلة من الأنصار ، والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ ، نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد ، حين بعث الله عليهم سيل العرم ، ونزلت طائفة منهم بالشام ، وإنما{[24249]} قيل لهم : غَسَّان بماء نزلوا عليه قيلَ : باليمن . وقيل : إنه قريب من المُشَلَّل{[24250]} ، كما قال حسان بن ثابت :
إمَّا سَألت فَإنَّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ *** الأزْدُ نِسْبَتُنَا ، والماء غَسَّانُ{[24251]}
ومعنى قوله : " ولد له عشرة من العرب " أي : كان{[24252]} من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن ، لا أنهم ولدوا من صلبه ، بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة والأقل والأكثر ، كما هو مقرر مبين في مواضعه من{[24253]} كتب النسب .
ومعنى قوله : " فتيامن منهم ستة ، وتشاءم منهم أربعة " أي : بعد ما أرسل الله عليهم سيل العرم ، منهم مَنْ أقام ببلادهم ، ومنهم مَنْ نزح عنها إلى غيرها ، وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم ، فعَمَدَ ملوكهم الأقادم ، فبنوا بينهما سدًا عظيما محكما حتى ارتفع الماء ، وحُكمَ على حافات ذينك الجبلين ، فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن ، كما ذكر غير واحد من السلف ، منهم قتادة : أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل ، وهو الذي تخترف{[24254]} فيه الثمار ، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قُطَّاف ، لكثرته ونضجه واستوائه ، وكان هذا السد بمأرب : بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل ، ويعرف بسد مأرب .
وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ، ولا شيء من الهوام ، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ، ليوحدوه ويعبدوه ، كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } ، ثم فسرها بقوله : { جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أي : من ناحيتي الجبلين والبلدة بين{[24255]} ذلك ، { كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي : غفور لكم إن استمررتم على التوحيد .
جرَّ خبرُ سليمان عليه السلام إلى ذكر سبأ لما بين مُلك سليمان وبين مملكة سبأ من الاتصال بسبب قصة « بلقيس » ، ولأن في حال أهل سبأ مضادة لأحوال داود وسليمان ، إذ كان هذان مثلاً في إسباغ النعمة على الشاكرين ، وكان أولئك مثلاً لسلب النعمة عن الكافرين ، وفيهم موعظة للمشركين إذ كانوا في بحبوحة من النعمة فلما جاءهم رسول من المُنعِم عليهم يذكرهم بربهم ويوقظهم بأنهم خاطئون إذ عبدوا غيره ، كذّبوه وأعرضوا عن النظر في دلالة تلك النعمة على المنعِم المتفرد بالإلهية .
وقال ابن عطية عند الكلام على قوله تعالى : { ولقد آتينا داود منا فضلاً } [ سبأ : 10 ] « لمّا فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم ( أي للمشركين أي لحالهم ) بسبإ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتوّ » اهـ . فهذه القصة تمثيل أمة بأمة ، وبلاد بأخرى ، وذلك من قياس وعبرِه . وهي فائدة تدوين التاريخ وتقلبات الأمم كما قال تعالى : { ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم اللَّه فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون } [ النحل : 112 ، 113 ] فسوَق هذه القصة تعريض بأشباه سبأ . والمعنى : لقد كان لسبأ في حال مساكنهم ونظام بلادهم آية . والآية هنا : الأمارة والدلالة بتبدل الأحوال وتقلب الأزمان ، فهي آية على تصرف الله ونعمته عليهم فلم يهتدوا بتلك الآية فأشركوا به ، وقد كان في إنعامه عليهم ما هو دليل على وجوده ثم على وحدانيته .
والتأكيد بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين بالتعريض بهذه القصة منزلةَ من يتردد في ذلك لعدم اتعاظهم بحال قوم من أهل بلادهم ، وتجريد { كان } من تأنيث الفعل لأن اسمها غير حقيقي للتأنيث ولوقوع الفصل بالمجرور .
واللام في { لسبأ } متعلق ب { آية } . والمساكن : البلاد التي يسكنونها بقرينة قوله : { جنتان عن يمين وشمال } والمساكن : ديار السكنى . وتقدم الكلام على سبأ عند قوله : { وجئتك من سبأ } في سورة النمل ( 22 ) .
واسم سبأ يطلق على الأمة كما هنا وعلى بلادهم كما في آية النمل وتقدم تفصيله .
وقرأ الجمهور { في مساكنهم } بصيغة جمع مسكن . وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف بلفظ المفرد { في مسكنهم } إلا أن حمزة وحفصاً فتَحَا الكاف ، والكسائي وخلف كسرا الكاف وهو خارج عن القياس لأنه مضارع غير مكسور العين فحق اسم المكان منه فتح العين . وشذ نحو قولهم : مسجد لبيت الصلاة .
و { جنتان } بدل من { آية } باعتبار تكملته بما اتصل به من المتعلق والقول المقدر .
و { جنتان } تشبيه بليغ ، أي في مساكنهم شبيه جنتين في أنه مغترس أشجاراً ذاتتِ ثمر متصل بعضها ببعض مثل ما يعرف من حال الجنات ، وتثنية جنتين باعتبار أن ما على يمين السَّائر كجنة ، وما على يسَاره كجنة .
وقيل : كان لكل رجل منهم في مَسكنه ، أي داره جنتان جنة عن يمين المسكن وجنة عن شماله فكانوا يتفيؤون ظِلالهما في الصباح والمساء ويجتنون ثمارهما من نخيل وأعناب وغيرها ، فيكون معنى التركيب على التوزيع ، أي : لكل مسكن جنتان ، كقولهم : ركِب القومُ دوابهم ، وهذا مناسب لقوله : { في مساكنهم } دون أن يقول في بلادهم ، أو ديارهم ، ويجوز أن يكون المراد أن مدينتهم وهي مأرب كانت محفوفة على يمينها وشمالها بغابة من الجنات يصطافون فيها ويستثمروها مثل غوطة دمشق ، وهذا يناسب قوله بعدُ { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } [ سبأ : 16 ] لأن ظاهره أن المبدل به جنتان اثنتان ، إلا أن تجعله على التوزيع من مقابلة المتعدد بالمتعدد .
والمعنى : أنهم كانوا أهل جنّات مغروسة أشجاراً مثمرة وأعناباً .
وكانت مدينتهم مأرب ( بهمزة ساكنة بعد الميم ) وهي بين صنعاء وحضرموت ، قبل ، كان السائر في طرائقها لو وضع على رأسه مكتلاً لوجده قد ملىء ثماراً مما يسقط من الأشجار التي يسير تحتها . ولعل في هذا القول شيئاً من المبالغة إلا أنها تؤذن بوفرة . وكان ذلك بسبب تدبير ألهمهم الله إياه في اختزان المياه النازلة في مواسم المطر بما بنوا من السد العظيم في مأرب .
وجملة { كلوا من رزق ربكم } مقول قول إما من دلالة لسان الحال كما في قوله :
وإما أُبلغوه على ألسنة أنبياء بعثوا منهم ، قيل : بعث فيهم اثنا عشر نبيئاً ، أي مثل تُبع أسعد ، فقد نقل أنه كان نبيئاً كما أشار إليه قوله تعالى : { وقوم تبع } [ ق : 14 ] أو غيره ، قال تعالى : { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [ غافر : 78 ] ، أو من غيرهم مما قاله سليمان بلقيس أو مما قاله الصالحون من رسل سليمان إلى سبأ ، وفي جعل { جنتان } في نظم الكلام بدلاً عن آية كناية عن طيب تربة بلادهم . قيل : كانوا يزرعون ثلاث مرات في كل عام .
والطيِّبة : الحسنة في جنسها الملائمة لمزاولها ومستثمرها قال تعالى : { وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف } [ يونس : 22 ] وقال : { فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] وقال : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } [ الأعراف : 58 ] وقال : { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } [ آل عمران : 38 ] . وفي حديث أبي طلحة في صدقته بحائط ( بئرحاء ) : « وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب » . والطيّب ضد الخبيث قال تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 2 ] وقال : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] .
واشتقاقه من الطِيب بكسر الطاء بوزن فِعْل وهو الشيء الذي تعبق منه رائحة لذيذة .
وجملة { بلدة طيبة } من تمام القول وهي مستأنفة في الكلام المقول ، أي بلدةٌ لكم طيبة ، وتنكير { بلدة } للتعظيم . و { بلدة } مبتدأ و { طيبة } نعت ل { بلدة } ، وخبره محذوف ، تقديره : لكم ، وعُدل عن إضافة { بلدة } إلى ضميرهم لتكون الجملة خفيفة على اللسان فتكون بمنزلة المثَل .
وجملة { ورب غفور } عطف على جملة { بلدة طيبة } .
وتنكير { رب } للتعظيم . وهو مبتدأ محذوف الخبر على وزان { بلدة طيبة } ، والتقدير : ورب لكم ، أي ربكم غفور .
والعدول عن إضافة { رب } لضمير المخاطبين إلى تنكير { رب } وتقديرِ لام الاختصاص لقصد تشريفهم بهذا الاختصاص ولتكون الجملة على وزان التي قبلها طلباً للتخفيف ولتحصل المزاوجة بين الفقرتين فتسيرا مسير المثل .
ومعنى { غفور } : متجاوز عنكم ، أي عن كفرهم الذي كانوا عليه قبل إيمان ( بلقيس ) بدين سليمان عليه السلام ، ولا يُعلم مقدار مدة بقائهم على الإِيمان .