الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

قرىء : { لِسَبَإٍ } بالصرف ومنعه ، وقلب الهمزة ألفاً . ومسكنهم : بفتح الكاف وكسرها ، وهو موضع سكناهم ، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها ، أو مسكن كل واحد منهم . وقرىء : «مساكنهم » و { جَنَّتَانِ } بدل من آية . أو خبر مبتدإ محذوف ، تقديره : الآية جنتان . وفي الرفع معنى المدح ، تدلّ عليه قراءة من قرأ : «جنتين » ، بالنصب على المدح .

فإن قلت : ما معنى كونهما ؟ آية ، قلت : لم يجعل الجنتين في أنفسهما آية ، وإنما جعل قصتهما ، وأنّ أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما ، وأبدلهم عنهما الخمط والأثل : آية ، وعبرة لهم ، ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم . ويجوز أن تجعلهما آية ، أي : علامة دالة على الله ، وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره ،

فإن قلت : كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ، ورب قرية من قريات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت ؟ قلت : لم يرد بستانين اثنين فحسب ، وإنما أراد جماعتين من البساتين : جماعة عن يمين بلدهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها . كأنها جنة واحدة ، كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال : جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ } إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم ، أو لما قال لهم لسان الحال ، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، ولما قال : { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ } { واشكروا لَهُ } أتبعه قوله : { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } يعني : هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة ، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت أخصب البلاد وأطيبها : تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر ، فيمتلىء المكتل بما يتساقط فيه من الثمر { طَيّبَةً } لم تكن سبخة . وقيل : لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية . وقرىء : «بلدة طيبة ورباً غفوراً » بالنصب على المدح . وعن ثعلب : معناه اسكن واعبد .