فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

ولما ذكر سبحانه حال بعض الشاكرين لنعمه عقبه بحال بعض الجاحدين لها ، والمقصود من ذكر هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها لقومه لعلهم يتعظون وينزجرون ويعتبرون بها فقال : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَأ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( 15 )

{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَأ } المراد بها القبيلة التي هي من أولاد سبأ هو سبأ ابن يشجب بضم الجيم بن يعرب بن قحطان بن هود ، قرأ الجمهور : لسبأ بالتنوين على أنه اسم حي أي الحي الذين هم أولاد سبأ وقرئ : لسبأ ممنوع الصرف بتأويل القبيلة ويقوي القراءة الأولى قوله في مسكنهم ولو كان على تأويل القبيلة لقال في مسكنها ، وقرأ الجمهور على الجمع واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، ووجه الاختيار أنها كانت لهم منازل كثيرة ومساكن متعددة ، وقرئ بالإفراد ووجه الإفراد أنه مصدر يشمل القليل والكثير ، أو اسم مكان وأريد به معنى الجمع ، وهذه المساكن التي كانت لهم هي التي يقال لها الآن مأرب وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال ، وكانت أخصب البلاد .

وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم ، فأذن لي في قتالهم ، وأمرني ، فلما خرجت من عنده أرسل في إثري فردني فقال : ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك ، وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل : يا رسول الله وما سبأ أرض أم امرأة ؟ قال : ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستة ، وتشاءم منهم أربعة ، فأما الذين تشاءموا : فلخم وجذام وغسان وعاملة ، وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار ، فقال رجل : يا رسول الله وما أنمار ؟ قال : الذي منهم خثعم وبجيلة .

وأخرج أحمد وعبد بن حميد والطبراني وابن عدي والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه .

{ آيَةٌ } أي علامة دالة على كمال قدرة الله وبديع صنعه بملاحظة أحوالها السابقة وهي نضارتها وخصبها وثمارها ، واللاحقة كتبديلها وعدم ثمرها ثم بين هذه الآية فقال : { جَنَّتَانِ } أي جماعتان من البساتين .

{ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أي وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله قد أحاطتا به من جهتيه وقيل : عن يمين من أتاهما وشماله ، وكانت مساكنهم في الوادي ، وكل طائفة من تلك الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة ، والآية هي الجنتان كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها المكتل فيمتلئ من أنواع الفواكه التي يتساقط من غير أن تمسها بيدها .

وقال عبد الرحمن بن زيد : إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة ولا ذبابا ولا برغوثا ولا قملة ولا عقربا ولا حية ولا غير ذلك من الهوام ، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل ماتت عند رؤيتهم لبيوتهم ، قال القشيري : ولم يرد جنتين اثنتين بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة في كل جهة بساتين كثيرة وأشجار وثمار تستر الناس بظلالها .

{ أكُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ } أي قيل لهم ذلك وهذا الأمر للإذن والإباحة ، وقيل : لم يكن ثم أمر ولكن المراد تمكينهم من تلك النعم والأول أظهر ، وقيل : إنها قالت لهم الملائكة ، وقيل إنهم خوطبوا بذلك على لسان نبيهم ، والمراد بالرزق هو ثمار الجنتين .

{ اشْكُرُوا لَهُ } على ما رزقكم من هذه النعم واعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه .

{ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } مستأنفة لبيان موجب الشكر والمعنى : هذه بلدة طيبة فكثيرة أشجارها وطيبة ثمارها وقيل : معنى كونها طيبة أنها غير سبخة وقيل : ليس فيها هوام لطيب هوائها ، قال مجاهد : هي صنعاء ، وقيل : كانت على ثلاثة فراسخ من صنعاء وفي المصباح : يطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامرا كان أو خلاء .

{ وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي المنعم بها عليهم رب غفور لذنوبهم ، فجمع لهم بين المغفرة وطيب البلدة ، ولم يجمع ذلك لجميع خلقه ، وقال مقاتل : المعنى : وربكم أن شكرتم فيما رزقكم رب غفور للذنوب ، وقيل : إنما جمع لهم بين طيب البلدة والمغفرة للإشارة إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام ، قرئ بنصب بلدة وربا على تقدير اسكنوا بلدة واشكروا ربا .