السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖۖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ} (15)

ولما بين تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان عليهما السلام ، بين حال الكافرين لأنعمه بحكاية أهل سبأ فقال تعالى : { لقد كان لسبأ } أي : القبيلة المشهور روى أبو سبرة النخعي عن أبي قرة بن مسيك القطيعي قال : قال رجل : يا رسول الله أخبرني عن سبأ أكان رجلاً أو امرأة أو أرضاً قال : «كان رجلاً من العرب وله عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة ، فأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير فقال رجل : وما أنمار قال : الذين منهم خثعم وبجيلة ، وأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان وسبأ يجمع هذه القبائل كلها » والجمهور على أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين : قحطانية وعدنانية ، فالقحطانية : شعبان سبأ وحضرموت ، والعدنانية : شعبان : ربيعة ومضر ، وأما قضاعة فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى قحطان ، وبعضهم إلى عدنان ، قيل : إن قحطان أول من قيل له أنعم صباحاً وأبيت اللعن ، قال بعضهم : وجميع العرب منسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم وليس بصحيح ، فإن إسماعيل عليه السلام نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عرباً ، والصحيح أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل عليه السلام منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأهم وجرهم والعماليق يقال : إن أهماً كان ملكاً ويقال : إنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور ، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة يقال لها وبار هلكوا بالرمل أساله الله عليهم فأهلكهم وطم مناهلهم وفي ذلك يقول بعض الشعراء :

وكر دهر على وبار *** فهلكت عنوة وبار

واسم سبأ : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وسمي سبأ قيل : لأنه أول من سبأ في العرب قاله السهيلي ، ويقال : إنه أول من تتوج ، وذكر بعضهم أنه كان مسلماً وله شعر يشير فيه بوجود النبي صلى الله عليه وسلم وقال في سليمان عليه السلام :

سيملك بعدنا ملك عظيم *** نبي لا يرخص في الحرام

ويملك بعده منهم ملوك *** يدينوه القياد بكل دامي

ويملك بعدهم منا ملوك *** يصير الملك فينا بانقسام

ويملك بعد قحطان نبي *** تقي مخبت خير الأنام

يسمى أحمداً يا ليت أني *** أعمر بعد مبعثه بعام

فأعضده وأحبوه بنصري *** بكل مدجج وبكل رامي

متى يظهر فيكونوا ناصريه *** ومن يلقاه يبلغه سلامي

وقرأ البزي وأبو عمرو بعد الموحدة بهمزة مفتوحة من غير تنوين لأنه صار اسم قبيلة ، وقنبل بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مكسورة منونة ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً ولهما أيضاً الروم مع التسهيل وقرأ { في مساكنهم } أي : التي هي في غاية الكثرة حمزة وحفص بسكون السين وفتح الكاف ولا ألف بينهما إشارة إلى أنها لشدة اتصال المنافع والمرافق كالمسكن الواحد ، وقرأ الكسائي كذلك إلا أنه يكسر الكاف والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الكاف إشارة إلى أنها في غاية الملائمة لهم واللين ، وكانت بأرض مأرب من بلاد اليمن قال حمزة الكرماني : قال ابن عباس : على ثلاثة فراسخ من صنعاء { آية } أي : علامة ظاهرة على قدرتنا ، ثم فسر الآية بقوله تعالى : { جنتان عن يمين وشمال } أي : عن يمين الوادي وشماله قد أحاطت الجنتان بذلك الوادي وقيل : عن يمين من أتاهما وبشماله .

فإن قيل : كيف عظم الله تعالى جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ورب قرية من قرى العراق يحتف بها من الجنات ما شئت ؟ أجيب : بأنه لم يرد بستانين اثنين فحسب ، وإنما أراد جماعتين من البساتين جماعة عن يمين بلدتهم ، وأخرى عن شمالها وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال تعالى { جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } ( الكهف : 32 ) فكانت أخصب البلاد وأطيبها وأكثرها ثماراً حتى كانت المرأة تضع على رأسها مكتلاً فتطوف به بين الأشجار فيمتلئ المكتل من جميع أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئاً بيدها مما يتساقط فيه من الثمر .

وقوله تعالى { كلوا من رزق ربكم } أي : المحسن إليكم الذي أخرج لكم منهما ما تشتهون { واشكروا له } أي : خصوه بالشكر بالعمل في كل ما يرضيه ليديم لكم النعمة حكاية لما قال لهم نبيهم ، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، ثم استأنف تعظيم ذلك بقوله { بلدة طيبة } أي : حسنة التربة ليس بها سباخ ، حسنة الهواء سليمة من الهوام ليس فيها بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث ولا عقرب ولا حية يمر الغريب بها وفي ثيابه القمل فيموت من طيب هوائها ، وأشار إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره بقوله تعالى : { ورب غفور } أي : لذنب من شكره وتقصيره فلا يعاقب عليه ولا يعاتب قال البقاعي : وأخبرني بعض أهل اليمن أنها اليوم مفازة قرب صنعاء قال : وفي بعضها عنب يعمل منه زبيب كبار جداً في مقدار دربلي بلاد الشام ، وهو في غاية الصفاء كأنه قطع المصطكي وليس له نوى أصلاً انتهى .