قوله تعالى : { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض وكان الله عليماً حكيماً يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } ، نزلت في النصارى وهم أصناف أربعة : اليعقوبية ، والملكانية ، والنسطورية ، والمرقسية . فقالت اليعقوبية : عيسى هو الله ، وكذلك الملكانية ، وقالت النسطورية : عيسى هو ابن الله ، وقالت المرقسية : ثالث ثلاثة . فأنزل الله هذه الآية . ويقال : الملكانية يقولون : عيسى هو الله . واليعقوبية يقولون ابن الله ، والنسطورية يقولون : ثالث ثلاثة ، علمهم رجل من اليهود يقال له بولص ، سيأتي في سورة التوبة إن شاء الله تعالى ، وقال الحسن : يجوز أن تكون نزلت في اليهود والنصارى ، فإنهم جميعاً غلوا في أمر عيسى ، فاليهود بالتقصير ، والنصارى بمجاوزة الحد ، وأصل الغلو : مجاوزة الحد ، وهو في الدين حرام . قال الله تعالى : { لا تغلوا في دينكم } ، لا تشددوا في دينكم فتفتروا على الله الكذب .
قوله تعالى : { ولا تقولوا على الله إلا الحق } ، لا تقولوا إن له شريكاً وولداً .
قوله تعالى : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته } ، وهي قوله ( كن فكان ) بشراً من غير أب ، وقيل غيره .
قوله تعالى : { ألقاها إلى مريم } أي أعلمها وأخبرها بها ، كما يقال : ألقيت إليك كلمة حسنة .
قوله تعالى : { وروح منه } . قيل هو روح كسائر الأرواح ، إلا أن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفاً . وقيل : الروح هو النفخ الذي نفخه جبريل عليه السلام في درع مريم فحملته بإذن الله تعالى ، سمي النفخ روحاً لأنه ريح يخرج من الروح ، وأضافه إلى نفسه لأنه كان بأمره . وقيل : روح منه ، أي ورحمة ، فكان عيسى عليه السلام رحمةً لمن تبعه ، وآمن به . وقيل : الروح : الوحي ، أوحى إلى مريم بالبشارة ، وإلى جبريل عليه السلام أن كن فكان ، كما قال الله تعالى : { ينزل الملائكة بالروح من أمره } [ النحل :2 ] يعني : بالوحي ، وقيل :أراد بالروح جبريل عليه السلام ، معناه : كلمته ألقاها إلى مريم ، وألقاها أيضاً ، روح منه بأمره ، وهو جبريل عليه السلام ، كما قال : { تنزل الملائكة والروح فيها } [ القدر :4 ] يعني : جبريل فيها ، وقال :{ فأرسلنا إليها روحنا } [ مريم :17 ] يعني : جبريل .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد ابن إسماعيل ، أنا صدقة بن الفضل ، أنا الوليد عن الأوزاعي ، حدثنا عمرو بن هاني ، حدثني جنادة بن أمية ، عن عبادة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الجنة على ما كان من العمل ) . قوله تعالى : { فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة } ، أي : ولا تقولوا هم ثلاثة ، وكانت النصارى تقول : أب ، وابن ، وروح القدس .
قوله تعالى : { انتهوا خيراً لكم } تقديره : انتهوا يكن الانتهاء خيراً لكم .
قوله تعالى : { إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد } ، واعلم أن التبني لا يجوز لله تعالى ، لأن التبني إنما يجوز لمن يتصور له ولد .
قوله تعالى : { له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا } .
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، وهذا كثير في النصارى ، فإنهم تجاوزوا حد التصديق بعيسى ، حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ، ممن زعم أنه على دينه ، فادَّعوْا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه ، سواء كان حقًا أو باطلا أو ضلالا أو رشادًا ، أو صحيحًا أو كذبًا ؛ ولهذا قال تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم قال : زعم الزُّهْرِي ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد الله ورسوله " .
ثم رواه هو وعلي بن المديني ، عن سفيان بن عُيَيْنة ، عن الزُّهري كذلك . وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح سنده{[8761]} وهكذا رواه البخاري ، عن الحُميدي ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، به . ولفظه : " فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله " {[8762]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حمَّاد بن سَلَمَة ، عن ثابت البُناني ، عن أنس بن مالك : أن رجلا قال : محمد يا سيدنا وابن سيدنا ، وخيرنا وابن خيرنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس ، عليكم بقولكم ، ولا يَسْتَهْويَنَّكُمُ الشيطانُ ، أنا محمدُ بنُ عبد الله ، عبد الله ورسوله ، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللَّهُ عز وجل " . تفرد به من هذا الوجه{[8763]} .
وقوله : { وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } أي : لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولدا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته - فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه ؛ ولهذا قال : { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } أي : إنما هو عبد من عباد الله وخَلق من خلقه ، قال له : كن فكان ، ورسول من رسله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، أي : خَلقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل ، عليه السلام ، إلى مريم ، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه ، عز وجل ، فكان عيسى بإذن الله ، عز وجل ، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جَيْب درعها ، فنزلت حتى وَلَجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأم{[8764]} والجميع مخلوق لله ، عز وجل ؛ ولهذا قيل لعيسى : إنه كلمة الله وروح منه ؛ لأنه لم يكن له أب تولد{[8765]} منه ، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها : كن ، فكان . والروح التي أرسل بها جبريل ، قال الله تعالى : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } [ المائدة : 75 ] . وقال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] . وقال تعالى : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا{[8766]} مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] وقال تعالى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ]{[8767]} } [ التحريم : 12 ] . وقال تعالى إخبارا عن المسيح : { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ]{[8768]} } [ الزخرف : 59 ] .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } هو كقوله : { كُنْ } [ آل عمران : 59 ] فكان وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال : سمعت شَاذَّ بن يحيى يقول : في قول الله : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } قال : ليس الكلمةُ صارت عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى .
وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير{[8769]} في قوله : { أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } أي : أعلمها بها ، كما زعمه في قوله : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } [ آل عمران : 45 ] أي : يعلمك بكلمة منه ، ويجعل ذلك كما قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } [ القصص : 86 ] بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم ، فنفخ فيها بإذن الله ، فكان عيسى ، عليه السلام .
وقال البخاري : حدثنا صَدَقَةُ بن الفضل ، حدثنا{[8770]} الوليد ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عُمَيْر بن هانئ ، حدثني جُنَادةُ بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه ، والجنةَ حق ، والنارَ حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " . قال الوليد : فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن عُمير بن هانئ ، عن جُنَادة زاد : " من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء " .
وكذا رواه مسلم ، عن داود بن رُشَيد ، عن الوليد ، عن ابن جابر ، به{[8771]} ومن وجه آخر ، عن الأوزاعي ، به{[8772]} .
فقوله في الآية والحديث : { وَرُوحٌ مِنْهُ } كقوله { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } الجاثية : 13 ] ي : مِنْ خَلْقه ومن عنده ، وليست " مِنْ " للتبعيض ، كما تقوله النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة - بل هي لابتداء الغاية ، كما في الآية الأخرى .
وقد قال مجاهد في قوله : { وَرُوحٌ مِنْهُ } أي : ورسول منه . وقال غيره . ومحبة منه . والأظهر الأول أنَّه مخلوق من روح مخلوقة ، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله ، في قوله : { هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ } [ هود : 64 ] . وفي قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [ الحج : 26 ] ، وكما ورد في الحديث الصحيح : " فأدخل على رَبِّي في داره " أضافها إليه إضافة تشريف لها ، وهذا كله من قبيل واحد ونمَط واحد .
وقوله : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي : فصدقوا بأن الله واحد أحد ، لا صاحبة له ولا ولد ، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله ؛ ولهذا قال : { وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ } أي : لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .
وهذه الآية والتي تأتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ المائدة : 73 ] . وكما قال في آخر السورة المذكورة : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [ وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ]{[8773]} } الآية [ المائدة : 116 ] ، وقال في أولها : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } الآية [ المائدة : 72 ] ، فالنصارى - عليهم لعنة الله - من جهلهم ليس لهم ضابط ، ولا لكفرهم حد ، بل أقوالهم وضلالهم منتشر ، فمنهم من يعتقده إلهًا ، ومنهم من يعتقده شريكا ، ومنهم من يعتقده ولدًا . وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة ، وأقوال غير مؤتلفة ، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال : لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا على أحد عشر قولا . ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير ، وهو سعيد بن بَطْرِيق - بتْرَكُ الإسكندرية - في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية ، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم ، وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة ، وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة ، وأنهم اختلفوا عليه اختلافًا لا ينضبط ولا ينحصر ، فكانوا أزيد من ألفين أَسْقُفًا ، فكانوا أحزابًا كثيرة ، كل خمسين منهم على مقالة ، وعشرون على مقالة ، ومائة على مقالة ، وسبعون على مقالة ، وأزيد من ذلك وأنقص . فلما رأى عصابة منهم قد زادوا على الثلاثمائة بثمانية عشر نفرًا ، وقد توافقوا على مقالة ، فأخذها الملك ونصرها وأيدها - وكان فيلسوفًا ذا هيئة{[8774]} - ومَحَقَ ما عداها من الأقوال ، وانتظم دَسْتُ{[8775]} أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر ، وبنيت لهم الكنائس ، ووضعوا لهم كتبًا وقوانين ، وأحدثوا الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار{[8776]} - ليعتقدوها - ويُعَمّدونهم عليها ، وأتباع هؤلاء هم الملكية . ثم إنهم اجتمعوا مجمعا ثانيًا فحدث فيهم اليعقوبية ، ثم مجمعًا ثالثًا فحدث فيهم النسطورية . وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ، ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم ! هل اتحدا ، أو ما اتحدا ، بل امتزجا أو حل فيه ؟ على ثلاث مقالات ، وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى ، ونحن نكفر الثلاثة ؛ ولهذا قال تعالى : { انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ } أي : يكن خيرا لكم { إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي : تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } ي : الجميع ملكه وخلقه ، وجميع ما فيها عبيده ، وهم تحت تدبيره وتصريفه ، وهو وكيل على كل شيء ، فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد ؟ كما قال في الآية الأخرى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 101 ] ، {[8777]} وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . [ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا . إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ]{[8778]} } [ مريم : 88 : 95 ] .
{ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إل مريم وروح منه } .
استئناف ابتدائي بخطاب موجّه إلى النصارى خاصّة . وخوطبوا بعنوان أهل الكتاب تعريضاً بأنَّهم خالفوا كتابهم . وقرينةُ أنَّهم المراد هي قوله : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } إلى قوله : { أن يكون عبداً لله } [ النساء : 172 ] فإنّه بيان للمراد من إجمال قوله : { لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ } وابتدئت موعظتهم بالنّهي عن الغلوّ لأنّ النّصارى غلَوا في تعظيم عيسى فادّعوا له بنوّة الله ، وجعلوه ثالث الآلهة .
والغلوّ : تجاوز الحدّ المألوف ، مشتقّ من غَلْوَة السهم ، وهي منتهى اندفاعه ، واستُعير للزيادة على المطلوب من المعقول ، أو المشْرُوع في المعتقدات ، والإدراكات ، والأفعال . والغلوّ في الدّين أن يُظهر المتديّن ما يفوت الحدّ الّذي حدّد له الدينُ . ونهاهم عن الغلوّ لأنَّه أصل لكثير من ضلالهم وتكذيبهم للرسل الصّادقين . وغلّو أهل الكتاب تجاوزُهم الحدّ الذي طلبه دينهم منهم : فاليهود طولبوا باتّباع التّوراة ومحبّة رسولهم ، فتجاوزوه إلى بِغضة الرسل كعيسى ومحمدّ عليهما السّلام ، والنّصارى طولبوا باتّباع المسيح فتجاوزوا فيه الحدّ إلى دعوى إلهيّته أو كونه ابنَ الله ، مع الكفر بمحمدّ صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ } عطف خاصّ على عامّ للاهتمام بالنهي عن الافتراء الشنيع . وفعل القول إذا عدّي بحرف ( على ) دلّ على أنّ نسبة القائل القول إلى المجرور ب ( على ) نسبة كاذبة ، قال تعالى : { ويقولون على الله الكذب } [ آل عمران : 78 ] . ومعنى القول على الله هنا : أن يقولوا شيئاً يزعمون أنَّه من دينهم ، فإنّ الدين من شأنه أن يتلقّى من عند الله .
وقوله : { إنما المسيح عيسى ابن مريم } جملة مبيّنة للحدّ الذي كان الغلوّ عنده ، فإنَّه مجمل ؛ ومبيّنة للمراد من قول الحقّ .
ولكونها تتنزّل من الَّتي قبلها منزلة البيان فُصلت عنها . وقد أفادت الجملة قصر المسيح على صفات ثلاث : صفة الرسالة ، وصفةِ كونه كلمة الله ألقيت إلى مريم ، وصفة كونه روحاً من عند الله . فالقصر قصر موصوف على صفة . والقصد من هذا القصر إبطال ما أحدثه غلوّهم في هذه الصّفات غلوّاً أخرجها عن كنهها ؛ فإنّ هذه الصّفات ثابتة لعيسى ، وهم مثبتون لها فلا يُنكر عليهم وصفُ عيسى بها ، لكنّهم تجاوزوا الحدّ المحدود لها فجعلوا الرسالة البُنوّة ، وجعلوا الكلمة اتِّحادَ حقيقة الإلهيّة بعيسى في بطن مريم فجعلوا عيسى ابناً لله ومريم صاحبة لله سبحانه ، وجعلوا معنى الروح على ما به تكوّنت حقيقة المسيح في بطن مريم من نفْس الإلَهية .
والقصر إضافي ، وهو قصر إفرادٍ ، أي عيسى مقصور على صفة الرسالة والكلمة والروح ، لا يتجاوز ذلك إلى ما يُزاد على تلك الصّفات من كون المسيح ابناً لله واتِّحاد الإلهيّة به وكون مريم صاحبة .
ووصف المسيح بأنّه كلمة الله وصف جاء التّعبير به في الأناجيل ؛ ففي صدر إنجيل يوحنا « في البدء كان الكلمةُ ، والكلامة كان عند الله ، وكان الكلمة الله ثم قال والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا » . وقد حكاه القرآن وأثبته فدلّ على أنّه من الكلمات الإنجيلية ، فمعنى ذلك أنّه أثَر كلمة الله . والكلمةُ هي التكوين ، وهو المعبّر عنه في الاصطلاح ب ( كُن ) . فإطلاق الكلمة على التكوين مجاز ، وليس هو بكلمة ، ولكنّه تعلّقُ القدرة . ووصف عيسى بذلك لأنَّه لم يكن لتكوينه التّأثيرُ الظاهرُ المعروف في تكوين الأجنّة ، فكان حدوثه بتعلّق القدرة ، فيكون في { كلمته } في الآية مجازان : مجاز حذف ، ومجاز استعارة صار حقيقة عرفيّة .
ومعنى { ألقاها إلى مريم } أوصلها إلى مريم ، وروعي في الضمير تأنيث لفظ الكلمة ، وإلاّ فإنّ المراد منها عيسى ، أو أراد كلمة أمر التكوين . ووصف عيسى بأنّه روح الله وصفٌ وقع في الأناجيل . وقد أقرّه الله هنا ، فهو ممّا نزل حقّاً .
ومعنى كون عيسى روحاً من الله أنّ روحه من الأرواح الّتي هي عناصر الحياة ، لكنّها نسبت إلى الله لأنَّها وصلت إلى مريم بدون تكوّن في نطفةٍ فبهذا امتاز عن بقيّة الأرواح . ووُصف بأنّه مبتدأ من جانب الله ، وقيل : لأنّ عيسى لمّا غلبت على نفسه الملكية وصف بأنّه روح ، كأنّ حظوظ الحيوانية مجرّدة عنه . وقيل : الروح النفخة . والعرب تسمّى النفس روحاً والنفخ روحاً . قال ذو الرمّة يذكر لرفيقه أن يوقد ناراً بحطب :
فقلت له ارفعها إليك فأَحيها *** برُوحك واقتُتْه لها قِيتة قَدْرا
وتلقيب عيسى بالروح طفحت به عبارات الأناجيل . و ( مِن ) ابتدائية على التقادير .
فإن قلت : ما حكمة وقوع هذين الوصفين هنا على ما فيهما من شبهة ضلّت بها النّصارى ، وهلاّ وصف المسيح في جملة القصر بمثل ما وصف به محمّد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { قل إنَّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ } [ الكهف : 110 ] فكان أصرح في بيان العبوديّة ، وأنفى للضلال .
قلت : الحكمة في ذلك أنّ هذين الوصفين وقعا في كلام الإنجيل ، أو في كلام الحواريّين وصفاً لعيسى عليه السّلام ، وكانا مفهومين في لغة المخاطبين يومئذٍ ، فلمَّا تغيّرت أساليب اللّغات وساء الفهم في إدراك الحقيقة والمجاز تسرّب الضلال إلى النّصارى في سوء وضعهما فأريد التنبيه على ذلك الخطأ في التأويل ، أي أنّ قصارى ما وقع لديكم من كلام الأناجيل هو وصف المسيح بكلمة الله وبروح الله ، وليس في شيء من ذلك ما يؤدّي إلى اعتقاد أنَّه ابن الله وأنَّه إله .
وتصدير جملة القصر بأنّه { رسول الله } ينادي على وصف العبوديّة إذ لا يُرسل الإله إلهاً مثله ، ففيه كفاية من التنبيه على معنى الكلمة والروح .
{ فآمنوا بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة انتهوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إله واحد سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ ما فِى السماوات وَمَا فِى الارض وكفى بالله وَكِيلاً } .
الفاء للتفريع عن جملة القصر وما بنيت عليه . أي إذا وضح كلّ ما بيَّنه الله من وحدانيَّته ، وتنزيهه ، وصدق رسله ، يتفرّع أن آمُركم بالإيمان بالله ورسله . وأمروا بالإيمان بالله مع كونهم مؤمنين ، أي النصارى ، لأنّهم لمّا وصفوا الله بما لا يليق فقد أفسدوا الإيمان ، وليكون الأمر بالإيمان بالله تمهيداً للأمر بالإيمان برُسله ، وهو المقصود ، وهذا هو الظاهر عندي . وأريدَ بالرسل جميعهم ، أي لا تكفروا بواحد من رسله . وهذا بمنزلة الاحتراس عن أن يتوهّم متوهّمون أن يعرضوا عن الإيمان برسالة عيسى عليه السلام مبالغة في نفي الإلهية عنه .
وقوله : { ولا تقولوا ثلاثة } أي لا تنطقوا بهذه الكلمة ، ولعلّها كانت شعاراً للنصارى في دينهم ككلمة الشهادة عند المسلمين ، ومن عوائدهم الإشارة إلى التثليث بالأصابع الثلاثة : الإبهام والخنصر والبنصر . والمقصود من الآية النهي عن النطق بالمشتهر من مدلول هذه الكلمة وعن الاعتقاد . لأنّ أصل الكلام الصدق فلا ينطق أحد إلاّ عن اعتقاد ، فالنهي هنا كناية بإرادةِ المعنى ولازمه . والمخاطب بقوله : { ولا تقولوا } خصوص النّصارى .
و { ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف كانَ حذفه ليصلحَ لكلّ ما يصلحُ تقديره من مذاهبهم من التثليث ، فإنّ النصارى اضطربوا في حقيقة تثليث الإله كما سيأتي ، فيقدر المبتدأ المحذوف على حسب ما يقتضيه المردود من أقوالهم في كيفية التثليث ممّا يصحّ الإخبار عنه بلفظ { ثلاثة } من الأسماء الدّالة على الإله ، وهي عدّة أسماء . ففي الآية الأخرى { لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] . وفي آية آخر هذه السورة { أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ] ، أي إلهين مع الله ، كما سيأتي ، فالمجموع ثلاثة : كلّ واحد منهم إله ؛ ولكنّهم يقولون : أنّ مجموع الثلاثة إله واحد أو اتّحدت الثلاثة فصار إله واحد . قال في « الكشّاف » : ( ثلاثة ) خبر مبتدأ محذوف فإن صحّت الحكاية عنهم أنَّهم يقولون : هو جوهر واحد وثلاثة أقانيم ، فتقديره الله ثلاثة وإلاّ فتقديره الآلهة ثلاثة اهـ .
والتثليث أصل في عقيدة النصارى كلّهم ، ولكنّهم مختلفون في كيفيته . . ونشأ من اعتقاد قدماء الإلهيّين من نصارى اليونان أنّ الله تعالى ( ثَالُوث ) ، أي أنَّه جوهر واحد ، وهذا الجوهر مجموع ثلاثة أقانيم ، واحدها أقْنُوم بضم الهمزة وسكون القاف . قال في « القاموس » : هو كلمة رومية ، وفسّره القاموس بالأصل ، وفسّره التفتزاني في كتاب « المقاصد » بالصفة . ويظهر أنَّه معرّب كلمة ( قنوم بقاف معقد عجمي ) وهو الاسم ، أي ( الكلمة ) . وعبّروا عن مجموع الأقانيم الثلاثة بعبارة ( آبَا ابنَا رُوحا قُدُسا ) وهذه الأقانيم يتفرّع بعضها عن بعض : فالأقنوم الأول أقنوم الذات أو الوجود القديم وهو الأب وهو أصل الموجودات .
والأقنوم الثاني أقنوم العلم ، وهو الابن ، وهو دونَ الأقنوم الأول ، ومنه كان تدبير جميع القوى العقلية .
والأقنوم الثالث أقنوم الروح القُدس ، وهو صفة الحياة ، وهي دون أقنوم العلم ومنها كان إيجاد عالم المحسوسات .
وقد أهملوا ذكر صفات تقتضيها الإلهية ، مثل القِدم والبقاء ، وتركوا صفة الكلام والقدرة والإرادة ، ثمّ أرادوا أن يتأوّلوا ما يقع في الإنجيل من صفات الله فسمّوا أقنوم الذات بالأب ، وأقنوم العلم بالابن ، وأقنوم الحياة بالروح القدس ، لأنّ الإنجيل أطلق اسم الأب على الله ، وأطلق اسم الابن على المسيح رسوله ، وأطلق الروح القدس على ما به كُوّن المسيح في بطن مريم ، على أنَّهم أرادوا أن ينبّهوا على أنّ أقنوم الوجود هو مفيض الأقنومين الآخرين فراموا أن يدلّوا على عدم تأخّر بعض الصّفات عن بعض فعبّروا بالأب والابن ، ( كما عبّر الفلاسفة اليونان بالتولّد ) . وسمّوا أقنوم العلم بالكلمة لأنّ من عبارات الإنجيل إطلاق الكلمة على المسيح ، فأرادوا أنّ المسيح مظهر علم الله ، أي أنَّه يعلم ما علمه الله ويبلّغه ، وهو معنى الرسالة إذ كان العلم يوم تدوين الأناجيل مكلَّلاً بالألفاظ الاصطلاحية للحكمة الإلهية الروميّة ، فلمّا اشتبهت عليهم المعاني أخذوا بالظواهر فاعتقدوا أنّ الأرباب ثلاثة وهذا أصل النصرانيّة ، وقاربوا عقيدة الشرك .
ثمّ جَرّهم الغُلوّ في تقديس المسيح فتوهَّموا أنّ علم الله اتّحد بالمسيح ، فقالوا : إنّ المسيح صار ناسوتُه لاَهُوتاً ، باتّحاد أقنُوم العلم به ، فالمسيح جوهران وأقنوم واحد ، ثمّ نشأت فيهم عقيدة الحلول ، أي حلول الله في المسيح بعبارات متنوّعة ، ثمّ اعتقدوا اتّحاد الله بالمسيح ، فقالوا : الله هو المسيح . هذا أصل التثليث عند النّصارى ، وعنه تفرّعت مذاهب ثلاثة أشار إلى جميعها قوله تعالى : { ولا تقولوا ثلاثة } وقولُه { لقد كفر الّذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } [ المائدة : 72 ] وقولُه : { أأنت قلت للنّاس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ] وكانوا يقولون : في عيسى لاهوتيةٌ من جهة الأب ونَاسوتيَّةٌ أي إنسانية من جهة الأمّ .
وظهر بالإسكندرية راهب اسمه ( آريوس ) قالو بالتوحيد وأنّ عيسى عبدُ الله مخلوق ، وكان في زمن ( قسطنطينوس سلطان الرّون باني القسطنطينية ) . فلمّا تديّن قسطنطينوس المذكور بالنصرانية سنة327 تبع مقالة ( آريوس ) ، ثمّ رأى مخالفةَ معظممِ الرهبان له فأراد أن يوحّد كلمتهم ، فجمع مجمعاً من علماء النصارى في أواخر القرن الرابع من التّاريخ المسيحي ، وكان في هذا المجمع نحو ألفي عالم من النصارى فوجدهم مختلفين اختلافاً كثيراً ووجد أكثر طائفة منهم على قول واحدٍ ثلاثَمائة وبضعةَ عشر عالماً فأخذ قولهم وجعله أصل المسيحيّة ونصَره ، وهذه الطائفة تلقّب ( المَلْكَانِيَّة ) نسبة للمَلِك .
واتَّفق قولهم على أنّ كلمة الله اتَّحدت بجسد عيسى ، وتقمَّصت في ناسوته ، أي إنسانيته ، ومازجته امتزاج الخمر بالماء ، فصارت الكلمةُ ذاتاً في بطن مريم ، وصارت تلك الذات ابناً لله تعالى ، فالإلهُ مجموع ثلاثة أشياء :
الأوّل الأب ذُو الوجود ، والثاني الابن ذُو الكلمة ، أي العلم ، والثالث روح القدس .
ثمّ حدثت فيهم فرقة اليَعْقوبية وفرقة النَّسْطُورِيَّة{[219]} في مجامع أخرى انعقدت بين الرهبان . فاليعقوبيّة ، ويسمّون الآن ( أرْثُودُكْسْ ) ، ظَهروا في أواسط القرن السادس المسيحي ، وهم أسبق من النسطورية ؛ قالوا : انقلبت الإلهية لَحْماً ودَماً ؛ فصار الإله هو المسيح فلأجل ذلك صدرت عن المسيح خوارق العادات من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فأشبه صُنْعه صنع الله تعالى ممّا يعجز عنه غير الله تعالى . وكان نصارى الحبشة يعاقبه ، وسنتعرّض لذكرها عند قوله تعالى : { لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن مريم } في سورة المائدة ( 72 ) ، وعند قوله تعالى : { فاختلف الأحزاب من بينهم } [ مريم : 37 ] .
والنَّسطوريّة قالت : اتَّحدت الكلمة بجسد المسيح بطريق الإشراق كما تشرق الشّمس من كوة مِن بلّور ، فالمسح إنسان ، وهو كلمة الله ، فلذلك هو إنسان إله ، أو هو له ذاتيتان ذات إنسانيّة وأخرى إلهيّة ، وقد أطلق على الرئيس الديني لهذه النّحلة لقب ( جَاثِليق ) . وكانت النحلة النسطورية غالبة على نصارى العرب . وكان رهبان اليعاقبة ورهبان النسطوريين يتسابقون لبث كلّ فريقٍ نحلتَه بين قبائل العرب . وكان الأكاسرة حُماة للنسطورية . وقياصرةُ الرّوم حُمَاة لليعقوبية . وقد شاعت النّصرانيّة بنحْلتيْها في بَكْر ، وتَغلب ، وربيعة ، ولخم ، وجُذام ، وتَنُوخ ، وكَلْب ، ونَجْران ، واليَمَن ، والبحرين . وقد بَسَطْتُ هذا ليعلم حُسن الإيجاز في قوله تعالى : { ولا تقولوا ثلاثة } وإتيانه على هذه المذاهب كلّها . فللّه هذا الإعجاز العلمي .
والقول في نَصب ( خيراً ) من قوله : { انتهوا خيراً لكم } كالقول في قوله تعالى : { فآمنوا خيراً لكم } [ النساء : 170 ] . والقصر في قوله : { إنَّما الله إله واحد } قصر موصوف على صفة ، لأنّ ( إنّما ) يليها المقصور ، وهو هنا قصر إضافي ، أي ليس الله بثلاثة .
وقوله : { سبحانه أن يكون له ولد } إظهار لغلطهم في أفهامهم ، وفي إطلاقاتهم لفظَ الأب والابن كيفما كان محملهما لأنَّهما إمّا ضلالة وإمّا إيهامُها ، فكلمة ( سبحانه ) تفيد قوة التنزيه لله تعالى عن أن يكون له ولد ، والدلالةَ على غلط مثبتيهِ ، فإنّ الإلهية تنافي الكون أبا واتّخاذَ ابن ، لاستحالة الفناء ، والاحتياج ، والانفصال ، والمماثلة للمخلوقات عن الله تعالى . والبنوّة تستلزم ثبوت هذه المستحيلات لأنّ النسل قانون كوني للموجودات لحكمة استبقاء النوع ، والناس يتطلّبونها لذلك ، وللإعانةِ على لوازم الحياة ، وفيها انفصال المولود عن أبيه ، وفيها أنّ الابن مماثلة لأبيه فأبُوه مماثل له لا محالة .
و ( سبحان ) اسم مصدر سَبَّح ، وليس مصدراً ، لأنَّه لم يسمع له فعل سالم . وجزم ابن جني بأنّه علَم على التسبيح ، فهو من أعلام الأجناس ، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والزيادة . وتقدّم الكلام عليه عند قوله تعالى : { قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا } في سورة البقرة ( 32 ) .
وقوله : { أنْ يكونَ له وَلَدَ } متعلّق ب ( سبحان ) حرف الجرّ ، وهو حرف ( عَن ) محذوفاً .
وجملة { له ما في السموات وما في الأرض } تعليل لقوله : { سبحانه أن يكون له ولد } لأنّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض قد استغنى عن الولد ، ولأنّ من يُزْعَم أنَّه ولدٌ له هو ممّا في السماوات والأرض كالملائكة أو المسيح ، فالكلّ عبيده وليس الابن بعبد .
وقوله : { وكفى بالله وكيلا } تذييل ، والوكيل الحافظ ، والمراد هنا حافظ ما في السماوات والأرض ، أي الموجودات كُلّها . وحُذف مفعول ( كفى ) للعموم ، أي كفى كلّ أحد ، أي فتوكّلوا عليه ، ولا تتوكّلوا على من تزعمونه ابناً له . وتقدّم الكلام على هذا التركيب عند قوله تعالى : { وكفى بالله وكيلاً } في هذه السورة .