التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا} (171)

ثم وجهت السورة الكريمة بعد ذلك نداء إلى أهل الكتاب حذرتهم فيه من المغالاة فى شأن عيسى - عليه السلام - وبينت لهم وللناس أن عيسى إنما هو عبد الله ورسوله ، وبشرت المؤمنين بالأجر الجزيل ، وأنذرت المستكبرين بالعذاب الأليم استمع إلى القرآن الكريم وهو يرشد إلى كل ذلك فيقول : { ياأهل . . . . صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( 171 ) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ( 172 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( 173 ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ( 174 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( 175 )

وقوله : { لاَ تَغْلُواْ } أى : لا تتجاوزوا الحد المشروع . مأخوذ من الغلو ، وهو - كما يقول القرطبى - التجاوز فى الحد ومنه : غلا السعر يغلو غلاء . وغلا الرجل فى الأمر غلوا . وغلا الجارية لحمها وعظمها ، إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها - أى : أترابها - .

وقد تجاوز أهل الكتاب الحد وغالوا فى شأن عيسى . أما اليهود فقد أنكروا رسولته واتهموا أمه مريم بما هى منه بريئة .

وأما النصارى فقد رفعوا عيسى - عليه السلام - إلى مرتبة فوق مرتبة البشرية ، واعتبروا بعضهم إلها ، واعتبره بعض آخر منهم ابنا لله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .

والمعنى : يا أهل الكتاب لا تتجاوزوا الحد المشروع والمعقول فى شأن دينكم ، ولا تقولوا على الله إلا القول الحق الذى شعره الله - تعالى - ، وارتضته العقول السليمة .

وقد ناداهم - سبحانه - بعنوان أهل الكتاب . للتعريض بهم ، حيث إنهم خالفوا كتبهم التى بين أيديهم .

والخطاب هنا وإن كان يشمل أهل الكتاب جميعا من يهود ونصارى ، إلا أن النصارى هم المقصودون هنا قصدا أوليا ، بدليل سياق الآية الكريمة ، فقد ذكرت حججا تبطل ما زعمه النصارى فى شأن عيسى ، ولذا قال ابن كثير ما ملخصه : قوله - تعالى - { ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ } : ينهى - سبحانه - أهل الكتاب عن الغلو والإِطراء . وهذا كثير فى النصارى ، فإنهم تجاوزا الحد فى عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التى أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه . بل قد غلوا فى أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم فى كل ما قالوه سواء أكان حقا أم باطلا ، أم ضلالا أم رشادا ، ولهذا قال - تعالى - { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } وفى الصحيح عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولا : عبد الله ورسوله " .

وقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } من باب عطف الخاص على العام ، للاهتمام بالنهى عن الافتراء الشنيع الذى افتروه على الله .

أى : لا تصفوه - سبحانه - بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد ، ولا تقولوا عليه - سبحانه - إلا القول الحق الثابت القائم على الدليل المقنع ، والبرهان الواضح .

وعدى - سبحانه - قولهم بحرف على ، لتضمنه معنى الافتراء والكذب ، فقد قالوا قولا وزعموا أنه من دينهم ، مع أن الأديان السماوية بريئة مما زعموه وافتروه .

ثم بين - سبحانه - القول الفصل فى شأن عيسى فقال : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } .

أى : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله . أرسله - سبحانه - لهداية الناس إلى الحق ، { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ } أى : أن عيسى مكون ومخلوق بكلمة من الله وكلمة ( كن ) من غير واسطة أب ولا نطفة . وهذه الكلمة ألقاها - سبحانه - إلى مريم ، أى : أوصلها إليها بنفخ جبريل فيها فكان عيسى بإذن الله بشراً سويا .

وقوله : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أى : ونفخة منه ، لأن عيسى حدث بسبب نفخة جبريل فى درع مريم فكان عيسى بإذن الله . فنسب إلى أنه روح من الله ، لأنه بأمره كان . وسمى النفخ روحاً لأنه ريح تخرج من الروح . قال - تعالى - : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقيل المراد بقوله : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أى : وذو روح من أمر الله ، لأنه - سبحانه - خلقه كما يخلق سائر الأرواح .

وقيل : الروح هنا بمعنى الرحمة . كما فى قوله - تعالى - { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } أى : برحمة منه . وصدر - سبحانه الجملة الكريمة بأداة القصر ( إنما ) للتنبيه على أن عيسى - عليه السلام - ليس إلا رسولا أرسله الله لهداية الناس إلى الحق .

وذكره - سبحانه بلقبه وباسمه وببنوته لمريم ، للاشارة إلى أنه إنسان كسائر الناس ، وبشر كسائر البشر ، فهو مولود خرج من رحم انثى كما يخرج الأولاد من أمهاتهم . وإذا كان لم يخرج من صلب أب ، فيكفى أنه قد خرج من رحم أم ، وكفى بذلك دليلا على بشريته .

قال بعض العلماء ما ملخصه : وقوله : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ } أى : خلقه بكلمة منه وهى ( كن ) كما خلق آدم . وكان عيسى بهذا كلمة الله لأنه خلقه بها ، فقد خلق من غير بذر ببذر فى رحم أمه ، فما كان تكوينه نماء لبذر وجد ، وللأسباب التى تجرى بين الناس ، بل كان السبب هو إرادة الله وحده وكلمته ( كن ) وبذلك سمى كلمة الله .

وتعلق النصارى بأن كون عيسى كلمة الله دليل على ألوهيته - تعلق باطل - فما كانت الكلمة من الله إلها يعبد . وإنما سمى بذلك ، لأنه نشأ بكلمة لا بمنى من الرجل يمنى . .

وقوله : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أى أنه - سبحانه - أنشأه بروح مرسل منه وهو جبريل الأمين . وقد يقال : إنه نشأ بروح منه - سبحانه - أنه أفاض بروحه فى جسمه كما أفاض بها على كل إنسان كما قال - تعالى - : { الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } والرأى الأول أولى . وعلى ذلك يكون معنى قوله : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أى : أنه نشأ بنفخ الله الروح فيه من غير توسيط سلالة بشرية ، ونطفة تتكشل إنسانا ، وذلك بالملك الذى أرسله وهو جبريل .

.

وسمى الله - تعالى - عيسى روحا باعتباره نشأ من الروح مباشرة ، ولأنه غلبت عليه الروحانية . .

وبهذا يزول الوهم الذى سيطر على عقول من غالوا فى شأن عيسى فنحلوه ما ليس له ، وما ليس من شأنه ، إذ جعلوه إلها ، أو ابن إله . . .

وقوله { المسيح } مبتدأ ، و { عِيسَى } عطف بيان أو بدل منه . وقوله { ابن مَرْيَمَ } صفة له وقوله { رَسُولُ الله } خبر للمبتدأ . . وقوله { وَكَلِمَتُهُ } معطوف على ما قبله وهو رسول الله . أو قوله { أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ } جملة حالية من الضمير المجرور فى { كَلِمَتُهُ } بتقدير قد ، والعامل فيها معنى الإِضافة . والتقدير . وكلمته ملقيا إياها إلى مريم .

وقوله { وَرُوحٌ مِّنْهُ } معطوف على { كَلِمَتُهُ } والجار والمجرور متعلق بمحذف صفة لروح . ومن لابتدائه الغاية مجازا وليست بتبعيضية ، أى أن الروح كائن من عند الله - تعالى - ونافخ بإذنه .

وبعد أن بين - سبحانه - القول الحق فى شأن عيسى ، دعا أهل الكتاب إلى الإِيمان به وبجميع رسله . ونهاهم عن التمسك بالضلال والوهم فقال - تعالى - { فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتهوا خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً } .

والفاء فى قوله : { فَآمِنُواْ } للافصاح عن جواب شرط مقدر .

أى : إذا كان ذلك هو الحق فى شأن عيسى ، فآمنوا بالله إيمانا حقا بأن تفردوه بالألوهية والعبادة ، وآمنوا برسله جميعا بدون تفريق بينهم ، ولا تغالوا فى أحدهم منهم بأن تخرجوه عن طبيعته وعن وظيفته . .

وقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } نهى لهم عن النطق بالكلام بالباطل .

أى : ولا تقولوا الآلهة ثلاثة ، أو المعبودات ثلاثة . فثلاثة خبر لمبتدأ محذوف وغبر - سبحانه - بقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } بدل قوله - مثلا - : ولا تؤمنن بثلاثة ؛ لأن أمر الثلاثة قول يقولونه ، فإن سألتهم عن معناه قالوا تارة معناه : الآب والإِبن والروح والقدس ، أى أنهم ثلاثة متفرقون . وتارة يقولون معناه : أن القانيم ثلاثة والذات واحدة . . إلى غير ذلك من الأقوال التى ما أنزل الله بها من سلطان .

قال صاحب الكشاف : والذى يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة . وأن المسيح ولد الله من مريم . ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } { وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله } والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون : فى المسيح لاهوتيه وناسوتيه من جهة الأب والأم . .

هذا ، وقد أفاض بعض العلماء فى الرد على مزاعم أهل الكتاب فى عقائدهم . .

وقوله : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } أمر لهم بسلوك الطريق الحق ، والإِقلاع عن الضلالات والأوهام .

أى : انتهوا عما أنتم فيه من ضلال يا معشر أهل الكتاب ، واتركوا القول بالتثليث ، يكن انتهاؤكم خيرا لكم ، بعبادتكم لله وحده تكونون قد خرجتم من ظلمات الشرك إلى نور الوحدانية .

وقوله : { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ } إثبات لوحدانية الله - تعالى - بأقوى طريق . أى : إن المعبود بحق ليس إلا واحد ، وهو الله - تعالى - ذو الجلال والإِكرام ، الخالق لهذا الكون ، والمدبر لأمره .

وقوله : { سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } تنزيه له - جل وعلا - عن صفات المخلوقين ، وتوبيخ لمن وصفه بصفات لا تليق به .

وسبحان منصوب بفعل مقدر من لظفه : أى : أسبحه تسبيحا وأنزهه تنزيها عن أن يكون له ولد ، لأن الأبوة والبنوة من صفات المخلوقين ، وهو - سبحانه - منزله عن صفات المخلوقين ، قال - تعالى - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } وقوله : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } جملة مستأنفة مسبوقة لتعليل التنزيه أى أنه - سبحانه - مالك لجميع الموجودات علويها وسفليها ، ولا يخرج من ملكه منها شئ .

قال - تعالى - { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً } ومن كان شأنه كذلك تنزه عن أن يلد أو يولد أو يكون له شريك فى ملكه .

وقوله : { وكفى بالله وَكِيلاً } تذييل قصد به بيان سعة قدرته - سبحانه وهيمنته على هذا الكون . والوكيل : هو الحافظ والمدبر لأم غيره .

أى : وكفى بالله وكيى يكل إليه الخلق كلهم أمورهم ، فهو الغنى عنهم وهم الفقراء إليه .

ومفعول كفى محذوف للعموم . أى : كفى كل أحد وكالة الله وحفظه وتدبيره ، فتوكلوا عليه وحده ، ولا تتوكلوا على من تزعمونه ابنا له .