قوله تعالى : " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " نهى عن الغلو . والغلو التجاوز في الحد ، ومنه غلا السعر يغلو غلاء ؛ وغلا الرجل في الأمر غلوا ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها{[5159]} ، ويعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم ، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه ربا ، فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر ؛ ولذلك قال مطرف بن عبدالله : الحسنة بين سيئتين ، وقال الشاعر :
وأوفِ ولا تَسْتَوْفِ حَقَّكَ كله *** وصافح فلم يستوفِ قَطُّ كَرِيمُ
ولا تغلُ في شيء من الأمر *** واقتصد كِلاَ طَرَفَيْ قَصْدِ الأمورِ ذميمُ وقال آخر :
عليك بأوساط الأمور فإنها نجاة *** ولا تركب ذلولا ولا صعبا
وفي صحيح البخاري عنه عليه السلام : ( لا تطروني{[5160]} كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبدالله ورسوله ) .
قوله تعالى : " ولا تقولوا على الله إلا الحق " أي لا تقولوا إن له شريكا أو ابنا . ثم بين تعالى حال عيسى عليه السلام وصفته فقال : " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته "
الأولى : قوله تعالى : " إنما المسيح " المسيح رفع بالابتداء ؛ و " عيسى " بدل منه وكذا " ابن مريم " . ويجوز أن يكون خبر الابتداء ويكون المعنى : إنما المسيح ابن مريم . ودل بقوله : " عيسى ابن مريم " على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها ، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا . ويكون " رسول الله " خبرا بعد خبر .
الثانية : لم يذكر الله عز وجل امرأة وسماها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران ، فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة ذكرها بعض الأشياخ ، فإن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في الملأ ، ولا يبتذلون أسماءهن ، بل يكنون عن الزوجة بالعرس والأهل والعيال ونحو ذلك ، فإن ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر والتصريح بها ، فلما قالت النصارى في مريم ما قالت ، وفي ابنها صرح الله باسمها ، ولم يكن عنها بالأموة والعبودية التي هي صفة لها ، وأجرى الكلام على عادة العرب في ذكر إمائها .
الثالثة : اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب ، فإذا تكرر اسمه{[5161]} منسوبا للام استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفي الأب عنه ، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله . والله أعلم .
قوله تعالى : " وكلمته ألقاها إلى مريم " أي هو مكون بكلمة " كن " فكان بشرا من غير أب ، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا كان صادرا عنه . وقيل : " كلمته " بشارة الله تعالى مريم عليها السلام ، ورسالته إليها على لسان جبريل عليه السلام{[5162]} ؛ وذلك قوله : " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه " {[5163]} [ آل عمران : 45 ] . وقيل : " الكلمة " ههنا بمعنى الآية ، قال الله تعالى : " وصدقت بكلمات ربها{[5164]} " [ التحريم : 12 ] و " ما نفدت كلمات الله{[5165]} " [ لقمان : 27 ] . وكان لعيسى أربعة أسماء : المسيح وعيسى وكلمة وروح ، وقيل غير هذا مما ليس في القرآن . ومعنى " ألقاها إلى مريم " أمر بها مريم{[5166]} .
قوله تعالى : " وروح منه " هذا الذي أوقع النصارى في الإضلال ، فقالوا : عيسى جزء منه فجهلوا وضلوا ، وعنه أجوبة ثمانية : الأول : قال أبي بن كعب : خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ، ثم ردها إلى صلب آدم وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام ، فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم ، فكان منه عيسى عليه السلام ، فلهذا قال : " وروح منه " . وقيل : هذه الإضافة للتفضيل وإن كان جميع الأرواح من خلقه ، وهذا كقوله : " وطهر بيتي للطائفين " {[5167]} [ الحج : 26 ] ، وقيل : قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا ، وتضاف إلى الله تعالى فيقال : هذا روح من الله أي من خلقه ، كما يقال في النعمة إنها من الله . وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فاستحق هذا الاسم . وقيل : يسمى روحا بسبب نفخة جبريل عليه السلام ، ويسمى النفخ روحا ؛ لأنه ريح يخرج من الروح . قال الشاعر - هو ذو الرمة :
فقلت له ارفَعْها إليك وأَحْيِها *** بروحك{[5168]} واقْتَتْهُ لها قيتَةً قَدْرَا
وقد ورد أن جبريل نفخ في درع مريم فحملت منه بإذن الله ، وعلى هذا يكون " وروح منه " معطوفا على المضمر الذي هو اسم الله في " ألقاها " التقدير : ألقى الله وجبريل الكلمة إلى مريم . وقيل : " روح منه " {[5169]} أي من خلقه ؛ كما قال : " وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه " [ الجاثية : 13 ] أي من خلقه . وقيل : " روح منه " أي رحمة منه ؛ فكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه ، ومنه قوله تعالى : " وأيدهم بروح منه " {[5170]} [ المجادلة : 22 ] أي برحمة ، وقرئ : " فروح وريحان " {[5171]} . وقيل : " وروح منه " وبرهان منه ؛ وكان عيسى برهانا وحجة على قومه صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : " فآمنوا بالله ورسله " أي آمنوا بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسله ، وآمنوا برسله ومنهم عيسى فلا تجعلوه إلها . " ولا تقولوا " آلهتنا " ثلاثة " عن الزجاج . قال ابن عباس : يريد بالتثليث الله تعالى وصاحبته وابنه . وقال الفراء وأبو عبيد : أي لا تقولوا هم ثلاثة ، كقوله تعالى : " سيقولون ثلاثة " {[5172]} [ الكهف : 22 ] . قال{[5173]} أبو علي : التقدير ولا تقولوا هو ثالث ثلاثة ؛ فحذف المبتدأ والمضاف . والنصارى مع فرقهم مجمعون على التثليث ويقولون : إن الله جوهر واحد وله ثلاثة أقانيم ، فيجعلون كل أقنوم إلها ويعنون بالأقانيم الوجود والحياة والعلم ، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس ؛ فيعنون بالأب الوجود ، وبالروح الحياة ، وبالابن المسيح ، في كلام لهم فيه تخبط بيانه في أصول الدين .
ومحصول كلامهم يؤول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله سبحانه وتعالى على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته ؛ وقالوا : قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر ، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفا بالإلهية ، فيقال لهم : لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته ، وليس كذلك ، فإن اعترفت النصارى بذلك فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به ، وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضا ؛ لأنهم معارضون بموسى عليه السلام ، وما كان يجري على يديه من الأمور العظام ، مثل قلب العصا ثعبانا ، وفلق البحر واليد البيضاء والمن والسلوى ، وغير ذلك ، وكذلك ما جرى على يد الأنبياء ، فإن أنكروا ذلك فننكر ما يدعونه هم أيضا من ظهوره على يد عيسى عليه السلام ، فلا يمكنهم إثبات شيء من ذلك لعيسى ، فإن طريق إثباته عندنا نصوص القرآن وهم ينكرون القرآن ، ويكذبون من أتى به ، فلا يمكنهم إثبات ذلك بأخبار التواتر . وقد قيل : إن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعدما رفع عيسى ، يصلون إلى القبلة ، ويصومون شهر رمضان ، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب ، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له : بولس ، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال : إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا ، ونحن مغبونون{[5174]} إن دخلوا الجنة ودخلنا النار ، وإني أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار ، وكان له فرس يقال لها : العقاب ، فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى : أنا بولس عدوكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر ، فأدخلوه في الكنيسة بيتا فأقام فيه سنة لا يخرج ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ، فخرج وقال : نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه ، ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم نسطورا وأعلمه أن عيسى ابن مريم إله ، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال : لم يكن عيسى بإنس فتأنس ولا بجسم فتجسم ولكنه ابن الله . وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك ، ثم دعا رجلا يقال له الملك{[5175]} فقال له : إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا وقال له : أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عني ، وقال لكل واحد منهم : إني غدا أذبح نفسي وأتقرب بها ، فادع الناس إلى نحلتك ، ثم دخل المذبح فذبح نفسه ، فلما كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته ، فتبع كل واحد منهم طائفة ، فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا ، فجميع النصارى من الفرق الثلاث ، فهذا كان سبب شركهم فيما يقال ، والله أعلم . وقد رويت هذه القصة في معنى قوله تعالى : " فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " [ المائدة : 14 ] وسيأتي{[5176]} إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : " انتهوا خيرا لكم " " خيرا " منصوب عند سيبويه بإضمار فعل ؛ كأنه قال : ائتوا خيرا لكم ؛ لأنه إذا نهاهم عن الشرك فقد أمرهم بإتيان ما هو خير لهم . قال سيبويه : ومما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره " انتهوا خيرا لكم " لأنك إذا قلت : انته فأنت تخرجه من أمر وتدخله في أخر ، وأنشد :
فواعديه سَرْحتي{[5177]} مالك *** أو الرُّبَا بينهما أسهلا
ومذهب أبي عبيدة : انتهوا يكن خيرا لكم . قال محمد بن يزيد : هذا خطأ ؛ لأنه يضمر الشرط وجوابه{[5178]} ، وهذا لا يوجد في كلام العرب . ومذهب الفراء أنه نعت لمصدر محذوف ؛ قال علي بن سليمان : هذا خطأ فاحش ؛ لأنه يكون المعنى : انتهوا الانتهاء الذي هو خير لكم .
قوله تعالى : " إنما الله إله واحد " هذا ابتداء وخبر ؛ و " واحد " نعت له . ويجوز أن يكون " إله " بدلا من اسم الله عز وجل و " واحد " خبره ؛ التقدير إنما المعبود واحد . " سبحانه أن يكون له ولد " أي تنزيها{[5179]} عن أن يكون له ولد ، فلما سقط " عن " كان " أن " في محل النصب بنزع الخافض ، أي كيف يكون له ولد ؟ وولد الرجل مشبه له ، ولا شبيه لله عز وجل . " له ما في السماوات وما في الأرض " فلا شريك له ، وعيسى ومريم{[5180]} من جملة ما في السموات وما في الأرض ، وما فيهما مخلوق ، فكيف يكون عيسى إلها وهو مخلوق ! وإن جاز ولد فليجز أولاد حتى يكون كل من ظهرت عليه معجزة ولدا له . " وكفى بالله وكيلا " أي لأوليائه ، وقد تقدم .