البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّۚ إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۖ وَلَا تَقُولُواْ ثَلَٰثَةٌۚ ٱنتَهُواْ خَيۡرٗا لَّكُمۡۚ إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ سُبۡحَٰنَهُۥٓ أَن يَكُونَ لَهُۥ وَلَدٞۘ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلٗا} (171)

الغلو : تجاوز الحد .

ومنه غلا السعر وغلوة السهم .

{ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } قيل : نزلت في نصارى نجران قاله مقاتل .

وقال الجمهور : في عامة النصارى ، فإنهم يعتقدون الثالوت يقولون : الأب ، والابن ، وروح القدس إله واحد .

وقيل : في اليهود والنصارى ، نهاهم عن تجاوز الحد .

والمعنى : في دينكم الذي أنتم مطلوبون به ، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل ، ولا أمروا بالثبوت عليه دون غلو ، وإنما أمروا بترك الغلو في دين الله على الإطلاق .

وغلت اليهود في حط المسيح عليه السلام عن منزلته حيث جعلته مولوداً لغير رشده .

وغلت النصارى فيه حيث جعلوه إلها .

والذي يظهر أنّ قوله : يا أهل الكتاب خطاب للنصارى ، بدليل آخر الآية .

ولما أجاب الله تعالى عن شبه اليهود الذين يبالغون في الطعن على المسيح أخذ في أمر النصارى الذين يفرطون في تعظيم المسيح حتى ادعوا فيه ما ادعوا .

{ ولا تقولوا على الله إلا الحق } وهو تنزيهه عن الشريك والولد والحلول والاتحاد .

{ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } قرأ جعفر بن محمد : إنما المسيح على وزن السكيت .

وتقدم شرح الكلمة في { بكلمة منه اسمه المسيح } ومعناها ألقاها إلى مريم أوجد هذا الحادث في مريم وحصله فيها .

وهذه الجملة قيل : حال .

وقيل : صفة على تقدير نية الانفصال أي : وكلمة منه .

ومعنى روح منه أي : صادرة ، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح ، كالنطفة المنفصلة من الأب الحي ، وإنما اخترع اختراعاً من عند الله وقدرته .

وقال أُبيّ بن كعب : عيسى روح من أرواح الله تعالى الذي خلقها واستنطقها بقوله : { ألست بربكم قالوا بلى } بعثه الله إلى مريم فدخل .

وقال الطبري وأبو روق : وروح منه أي نفخة منه ، إذا هي من جبريل بأمره .

وأنشد بيت ذي الرمة :

فقلت له اضممها إليك وأحيها *** بروحك واجعله لها قيتة قدرا

يصف سقط النار وسمي روحاً لأنه حدث عن نفخة جبريل .

وقيل : ومعنى وروح منه أي رحمة .

ومنه { وأيدهم بروح منه } .

وقيل : سمي روحاً لأحياء الناس به كما يحيون بالأرواح ، ولهذا سمي القرآن روحاً .

وقيل : المعنى بالروح هنا الوحي أي : ووحى إلى جبريل بالنفخ في درعها ، أو إلى ذات عيسى أن كن ، ونكر وروح لأن المعنى على تقدير صفة لا على إطلاق روح ، أي : وروح شريفة نفيسة من قبله تعالى .

ومن هنا لابتداء الغاية ، وليست للتبعيض كما فهمه بعض النصارى فادعى أنّ عيسى جزء من الله تعالى ، فرد عليه علي بن الحسين بن وافد المروزي حين استدل النصراني بأنّ في القرآن ما يشهد لمذهبه وهو قوله : وروح منه ، فأجابه ابن وافد بقوله : { وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه } وقال : إن كان يجب بهذا أن يكون عيسى جزأ منه وجب أن يكون ما في السموات وما في الأرض جزأ منه ، فانقطع النصراني وأسلم .

وصنف ابن فايد إذ ذاك كتاب النظائر .

{ فآمنوا بالله ورسله } أي الذين من جملتهم عيسى ومحمد عليهما السلام .

{ ولا تقولوا ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف أي : الآلهة ثلاثة .

قال لزمخشري : والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة ، وأن المسيح ولد الله من مريم .

ألا ترى إلى قوله : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون في المسيح لاهوتيته وناسوتيته من جهة الأب والأم ، ويدل عليه قوله : إنما المسيح عيسى ابن مريم ، فأثبت أنه ولد لمريم أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم ، وأنّ اتصاله بالله عز وجل من حيث أنه رسوله ، وأنه موجود بأمره ، وابتداعه جسداً حياً من غير أب ينفي أنه يتصل به اتصال الأبناء بالآباء .

وقوله : { سبحانه أن يكون له ولد } وحكاية الله أوثق من حكاية غيره ، وهذا الذي رجحه الزمخشري قول ابن عباس قاله يريد بالتثليث : الله تعالى ، وصاحبته ، وابنه .

وقال الزمخشري أيضاً إن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم : أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، وأنهم يريدون باقنوم الأب الذات ، وبأقنوم الابن العلم ، وبأقنوم روح القدس الحياة ، فتقديره الله ثلاثة انتهى .

وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون التقدير المعبود ثلاثة ، أو الآلهة ثلاثة ، أو الأقانيم ثلاثة .

وكيفما تشعب اختلاف عبارات النصارى فإنه يختلف بحسب ذلك التقدير انتهى .

وقال الزجاج : تقديره إلها ثلاثة .

وقال الفراء وأبو عبيد : تقديره ثلاثة كقوله : { سيقولون ثلاثة } وقال أبو علي : التقدير الله ثالث ثلاثة ، حذف المبتدأ والمضاف انتهى .

أراد أبو علي موافقة قوله : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } أي أحد آلهة ثلاثة والذي يظهر أن الذي أثبتوه هو ما أثبت في الآية خلافه ، والذي أثبت في الآية بطريق الحصر إنما هو وحدانية الله تعالى ، وتنزيهه أن يكون له ولد ، فيكون التقدير : ولا تقولوا الله ثلاثة .

ويترجح قول أبي علي بموافقته الآية التي ذكرناها ، وبقوله تعالى سبحانه أن يكون له ولد ، والنصارى وإن اختلفت فرقهم فهم مجمعون على التثليث .

{ انتهوا خيراً لكم } تقدم الكلام في انتصاب خيراً .

وقال الزمخشري في تقدير مذهب سيبويه في نصبه لما بعثهم على الإيمان يعني في قوله : { فآمنوا خيراً لكم } وعلى الانتهاء عن التثليث يعني في قوله : انتهوا خيراً لكم ، علم أنه يحملهم على أمر فقال : خيراً لكم أي اقصدوا وأتوا خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث ، وهو الإيمان والتوحيد انتهى .

وهو تقدير سيبويه في الآية .

{ إنما الله إله واحد } قال ابن عطية : إنما في هذه الآية حاصرة ، اقتضى ذلك العقل في المعنى المتكلم فيه ، وليست صيغة ، إنما تقتضي الحصر ، ولكنها تصلح للحصر والمبالغة في الصفة ، وإن لم يكن حصر نحو : إنما الشجاع عنترة وغير ذلك انتهى كلامه .

وقد تقدم كلامنا مشبعاً في إنما في قوله : { إنما نحن مصلحون } وكلام ابن عطية فيها هنا أنها لا تقتضي بوضعها الحصر صحيح ، وإن كان خلاف ما في أذهان كثير من الناس .

{ سبحانه أن يكون له ولد } معناه تنزيهاً له وتعظيماً من أن يكون له ولد كما تزعم النصارى في أمره ، إذ قد نقلوا أبوة الحنان والرأفة إلى أبوة النسل .

وقرأ الحسن : إن يكون له ولد بكسر الهمزة وضم النون من يكون ، على أنّ أن نافية أي : ما يكون له ولد فيكون التنزيه عن التثليث ، والإخبار بانتفاء الولد ، فالكلام جملتان ، وفي قراءة الجماعة جملة واحدة .

{ له ما في السموات وما في الأرض } إخبار لملكه بجميع من فيهن ، فيستغرق ملكه عيسى وغيره .

ومن كان ملكاً لا يكون جزءاً من المالك على أن الجزئية لا تصحّ إلا في الجسم ، والله تعالى نزه عن الجسم والعرض .

{ وكفى بالله وكيلاً } أي كافياً في تدبير مخلوقاته وحفظها ، فلا حاجة إلى صاحبة ولا ولد ولا معين .

وقيل : معناه كفيلاً لأوليائه .

وقيل : المعنى يكل الخلق إليه أمورهم ، فهو الغني عنهم ، وهم الفقراء إليه .

/خ176