يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا( 171 )
{ يأهل الكتاب } يا من تنتسبون إلى جنس الكتاب المنزل من قبل : التوراة والإنجيل .
{ لا تغلوا } لا تُفِْرطوا ، ولا تُفَرطوا ، فلا تجعلوا عيسى ربا ، ولا تجعلوه لغير رشدة .
{ المسيح } المبارك ، أو الممسوح بالبركة ، أو الذي يمسح المعتل فيبرأ بإذن الله .
{ وكلمته } كونه الله تعالى بكلمته الحكيمة( كن ) فكان بشرا من غير أب .
{ وروح منه } رحمة من الله ، وبرهان ، أو : روح من خلق الله سبحانه ، أو : رسول منه .
{ ولا تقولوا ثلاثة } لا تقولوا : آلهتنا ثلاثة ، أو : هو ثالث ثلاثة ، أو : الآلهة ثلاثة .
{ انتهوا خيرا لكم } انتهوا من التثليث يكن الانتهاء عنها خيرا لكم .
{ سبحانه } نزهوه وقدسوه وبرءوه عن كل عيب ونقص واتخاذ صاحبة أو ولد .
{ يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق } هذا بيان للناس وبلاغ لليهود والنصارى المنتسبين إلى التوراة والإنجيل ومن على شاكلتهم ، لينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد ، نهى لهم عن تجاوز الحد في الدين بالغلو فيه أو التجافي عنه ، بالإفراط أو التفريط في أماناته ؛ ومن الإفراط : غلو النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا ، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة ، ورموا مريم الطاهرة بيوسف النجار التقي العابد ؛ ولا تزعموا أن الله تعالى حل في بدن إنسان ، أو اتحد بروحه ، فهذا زور وباطل ؛ وذهب جماعة من المفسرين إلى أن في النداء تجريدا وفي الخطاب تخصيصا ، وأنه موجه إلى النصارى زجرا لهم عما عليه من الضلال البعيد ، من قولهم : عيسى إله ، أو ، ابن إله ، أو : ثالث ثلاثة ؛ في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبد الله ورسوله " ؛ - بل قد غلوا في أتباع عيسى عليه السلام وأشياعه ممن زعم أنه على النصرانية فادعوا فيهم العصمة ، واتبعوهم في كل ما قالوا سواء كان حقا أو باطلا ، أو ضلالا أو رشادا ، أو صحيحا أو كذبا ، ولهذا قال الله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله . . ) ( {[1627]} ) . . -( {[1628]} ) ؛ { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } قال قتادة : هو كقوله : ( . . كن فيكون ) ( {[1629]} ) ، وقال شاذ ابن يحيى : ليس الكلمة صارت عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى ؛ روى البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " ؛ فعيسى عليه السلام ليس إلا نبيا كسائر إخوانه النبيين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين : ( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . . ) ( {[1630]} ) ، ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه . . ) ( {[1631]} ) ؛ { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } ( {[1632]} ) ، وهكذا كل مراد الله تعالى يتحقق بأمره سبحانه ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ( {[1633]} ) ، { وروح منه } ( من هاهنا ) لابتداء الغاية ، أي من خلقه ومن عنده ، وليست للتبعيض كما تقول النصارى- عليهم لعائن الله- ومثل هذا في القرآن قول الحق جل شأنه : ( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه . . ) ( {[1634]} ) ، والروح قد تعني الرحمة ، كما في قوله تعالى : ( . . وأيدهم بروح منه . . ) ( {[1635]} ) ، وقد تعني الرسالة ، كما سمى جبريل عليه السلام ( روح القدس ) لأنه ينزل بالوحي المقدس على من يصطفيهم الله ، - وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله : ( . . هذه ناقة الله . . ) ( {[1636]} ) ، وفي قوله : ( . . وطهر بيتي للطائفين . . ) ( {[1637]} ) ، . . ، وهذا كله من قبيل ونمط واحد-( {[1638]} ) ؛ { فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة } فصدقوا واستيقنوا بجلال الله الذي ليس كمثله شيء ، وآمنوا برسله وأنهم رجال اصطفاهم من خلقه ، وبعثهم برسالاته ووحيه ، فهم بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، ليس لهم من الألوهية شيء ، وعيسى واحد منهم ؛ { ولا تقولوا ثلاثة }_ هي خبر مبتدأ محذوف ، أي : الله ثلاثة إن كان معتقدهم أن الذات جوهر واحد ، وأنه ثلاثة بالصفات ، ويسمونها : الأقانيم : أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ؛ وربما يقولون : أقنوم الذات ، وأقنوم العلم ، وأقنوم الحياة ؛ أو : الآلهة ثلاثة إن كان في اعتقادهم أنها ذوات قائمة بأنفسها : الأب والأم والابن ، . . - سورة الحج . من الآية 26 . ، ( ومحصول كلامهم يئول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته ؛ وقالوا : قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر ، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفا بالإلهية ؛ فيقال لهم : لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته ، وليس كذلك ؛ فإن اعترفت النصارى بذلك فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به ؛ وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضا ؛ لأنهم معارَضون بموسى عليه السلام ، وما كان يجري على يديه من الأمور العظام ، مثل قلب العصا ثعبانا ، وفلق البحر ، واليد البيضاء ، والمن والسلوى ، وغير ذلك ؛ وكذلك ما جرى على يد الأنبياء ) ( {[1639]} ) ؛ مما جاء في فتح القدير ، الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير : ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى : فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان ، وتارة يوصف بأنه ابن الله ، . . ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين ؛ والحق ما أخبرنا الله به في القرآن ؛ وما خالفه في التوراة أو الإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين ؛ ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام ؛ وحاصل ما فيها جميعا أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه ، وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم ، فاختلفت ألفاظهم ، واتفقت معانيها ، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط ، وذكر ما قاله عيسى وما قيل له ، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء ، ولا أنزل على عيسى من عنده كتابا ، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوارة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها ، وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام ؛ وكلام الله أصدق ، وكتابه أحق ، وقد أخبرنا أن الإنجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه . ا ه ؛ ومما نقل صاحب روح المعاني : ذهب الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم ، وأن كل واحد منها إله ، وصرحوا بإثبات التثليث ، وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة- سبحانه وتعالى عما يشركون- وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر ، وانقلبت الكثرة وحدة ، وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلي ، وأن مريم ولدت إلها أزليا ، مع اختلافهم في مريم أنها إنسان كلي أو جزئي ، واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم ، وأن القتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا ، . . .
ومن النسطورية من قال : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق موجود ، وصرحوا بالتثليث كالملكانية ، ومنهم من منع ذلك ، . . ، وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب ، وإنما تجسده وتوحده بجسد المسيح حين ولد ، والحدوث راجع إلى الناسوت ، فالمسيح إله تام ، وإنسان تام ، وهما قديم وحديث ، والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ولا لحدوث الحادث ، وقالوا : عن الصلب ورد على الناسوت دون اللاهوت ، . . . . . ، ومن النصارى من زعم أن معنى اتحاد اللاهوت بالناسوت : ظهور اللاهوت على الناسوت وإن لم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ولا حل فيه ، وذلك كظهور نقش الطابع على الشمع ، وحكى المؤرخون وأصحاب النقل أن أريوس أحد كبار النصارى كان يعتقد هو وطائفته توحيد الباري ولا يشرك معه غيره ، ولا يرى في المسيح ما يراه النصارى ، بل يعتقد رسالته ، وأنه مخلوق بجسمه وروحه ، ففشت مقالته في النصرانية ، فتكاتبوا واجتمعوا بمدينة نقية عند الملك قسطنطين وتناظروا ، فشرح أريوس مقالته ، فرد عليه الأكصيدروس بَطْريق الإسكندرية ، وشنع على مقالته عند الملك ، ثم تناظروا ، فطال تنازعهم ، فتعجب الملك من انتشار مقالتهم وكثرة اختلافهم ، وقام لهم البتِْرك وأمرهم أن يبحثوا عن القول المرضي ، فاتفق رأيهم على شيء فحرروه وسموه بالأمانة- وأكثرهم اليوم عليها ، وهي : نؤمن بالله تعالى الواحد الأب صانع كل شيء ، ملك كل شيء ، صانع ما يُرى وما لا يُرى ، بالرب الواحد المسيح ابن الله تعالى الواحد ، بكر الخلائق كلها ، الذي ولد من أبيه قبل العوالم ، وليس بمصنوع ، إله حق ، من إله حق ، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم ، وخلق كل شيء ، الذي من أجلنا معاشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومريم وصار إنسانا ، وحُبل به وولد من مريم البتول واتجع وصلب أيام فيلاطس ودفن في اليوم الثالث ، . . ، ثم شرع في الرد على إفكهم ، وأطال في الرد( {[1640]} ) ، ومما قال : قولهم : إن اللاهوت ظهر بالناسوت فصار هو هو ، فأما أن يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت ، . . . فيرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق وهو محال ، وإما أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت فهوأيضا محال ، لما ثبت من امتناع حلول الحادث بالحادث ، وأما الأمانة التي هم بها متقربون وبما حوته متعبدون ، فبيان اضطرابها وتناقضها وتهافتها من وجوه : الأول أن قولهم : نؤمن بالواحد الأب صانع كل شيء ، يناقض قولهم : وبالرب الواحد المسيح مناقضة لا تكاد تخفى ، الثاني أن قولهم إن يسوع المسيح ابن الله تعالى البكرمشعر بحدوث المسيح ، إذ لا معنى لكونه ابنه إلا تأخره عنه ، إذ الوالد والولد لا يكونان معا في الوجود ، وكونهما معا مستحيل ببداهة العقول ، لأن الأب لا يخلو إما أن يكون ولد ولداً لم يزل أو : لم يكن ، فإن قالوا : ولد ولدا لم يزل ، قلنا : فما ولد شيئا ، إذ الابن لم يزل ، وإن ولد شيئا لم يكن فالولد حادث مخلوق ، وذلك مكذب لقولهم : حق من إله حق من جوهر أبيه ، . . ، الثالث أن قولهم إله حق من إله حق من جوهر أبيه يناقضه قول المسيح في الإنجيل : وقد سئل عن يوم القيامة فقال : لا أعرفه ولا يعرف إلا الأب وحده ، . . الرابع أن قولهم إن يسوع أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء ، باطل مكذب لما في الإنجيل ، إذ يقول متى : هذا مولد يسوع المسيح ابن داود ، وأيضا خالق العالم لابد وأن يكون سابقا عليه ، وأني بسبق المسيح وقد ولدته مريم ؟ وأيضا في الإنجيل إن إبليس قال للمسيح ، اسجد لي وأعطيك جميع العالم وأملكك كل شيء ، ولا يزال يسحبه من مكان إلى مكان ؛ ويحول بينه وبين مراده ، ويطمع في تعبده له ، فكيف يكون خالق العالم محصورا في يد بعض العالم ؟ نعوذ بالله تعالى من الضلالة ، . . . ، قولهم : إنما نزل لخلاص معشر الناس يريدون به آدم عليه السلام لما عصى أوثق سائر ذريته في حبالة الشيطان وأوجب عليهم الخلود في النار فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به ، وذلك دعوى لا دلالة عليها ، هب أنا سلمناها لهم ، لكن يقال : أخبرونا ! مم هذا الخلاص الذي تعنّى الإله الأزلي له وفعل ما فعل بنفسه لأجله ؟ ولم خلصكم ؟ وممن خلصكم ؟ وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينهما ؟ وكيف ابتذل وامتهن في خلاصكم دون الأب والروح ؟ قولهم : ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الذنوب فيه مناقضة لأصولهم ، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لم نغفر خطاياهم بدون قتل المسيح ، . . ودعوه مخلص العالم من الخطيئة ، فإذا آمنوا بأن المعمودية الواحدة هي التي تغفر خطاياهم وتخلص من ذنوبهم فقد حرصوا بأنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة فإن كان التعميد كافيا للمغفرة فقد اعترفوا أن وقوع القتل عبث ، وإن كانت لا تحصل إلا بقتله فما فائدة التعميد ، وما هذا الإيمان ؟ . ! ه .
{ إنما الله إلَه واحد سبحانه أن يكون له ولد } نزهوا الله تعالى وبرئوه ، وقدسوه أن يتخذ صاحبة أو ولدا ؛ - ثم أخبر جل ثناؤه عباده أن عيسى وأمه ومن في السموات ومن في الأرض عبيده وملكه وخلقه ، وأنه رازقهم وخالقهم ، وأنهم أهل حاجة وفاقة إليه ، احتجاجا منه بذلك على من ادعى أن المسيح ابنه ، وأنه لو كان ابنه كما قالوا لم يكن ذا حاجة إليه ، ولا كان له عبدا مملوكا ، فقال : { له ما في السموات وما في الأرض } يعني : لله ما في السموات وما في الأرض من الأشياء كلها ملكا وخلقا ، وهو يرزقهم ويقوتهم ويدبرهم ، فكيف يكون المسيح ابنا لله وهو في السموات أو في الأرض غير خارج من أن يكون في بعض هذه الأماكن ، وقوله : { وكفى بالله وكيلا } وحسب ما في السموات وما في الأرض بالله قيما ومدبرا ورازقا من الحاجة معه إلى غيره-( {[1641]} ) .