قوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولاً } . أي : فضلاً وسعة .
قوله تعالى : { أن ينكح المحصنات المؤمنات } ، الحرائر .
قرأ الكسائي { المحصنات } بكسر الصاد حيث كان إلا قوله في هذه السورة { والمحصنات من النساء } . وقرأ الآخرون بفتح جميعها .
قوله تعالى : { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم } . إمائكم .
قوله تعالى : { المؤمنات } . أي : من لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة فليتزوج الأمة المؤمنة ، وفيه دليل على أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين : أحدهما :
أن لا يجد مهر حرة ، والثاني أن يكون خائفاً على نفسه من العنت وهو الزنا ، لقوله تعالى في آخر الآية : { ذلك لمن خشي العنت منكم } ، وهو قول جابر رضي الله عنه وبه قال طاووس وعمرو وابن دينار ، وإليه ذهب مالك والشافعي . وجوز أصحاب الرأي للحر نكاح الأمة إلا أن تكون في نكاحه حرة ، أما العبد : فيجوز له نكاح الأمة ، وإن كان في نكاحه حرة أو أمة ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز إذا كانت تحته حرة ، كما يقول في الحر ، وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية لأنه قال : { فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } . جوز نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة ، وقال في موضع آخر : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } . [ المائدة :5 ] أي : الحرائر ، جوز نكاح الكتابية ، بشرط أن تكون حرة ، وجوز أصحاب الرأي للمسلم نكاح الأمة الكتابية ، وبالاتفاق يجوز وطؤها بملك اليمين .
قوله تعالى : { والله أعلم بإيمانكم } . أي : لا تعترضوا للباطن في الإيمان ، وخذوا بالظاهر فإن الله أعلم بإيمانكم .
قوله تعالى : { بعضكم من بعض } ، قيل : بعضكم إخوة لبعض ، وقيل : كلكم من نفس واحدة ، فلا تستنكفوا من نكاح الإماء .
قوله تعالى : { فانكحوهن } ، يعني : الإماء .
قوله تعالى : { بإذن أهلهن } ، أي : مواليهن .
قوله تعالى : { وآتوهن أجورهن } ، مهورهن .
قوله تعالى : { بالمعروف } . من غير مطل وضرار .
قوله تعالى : { محصنات } . عفائف بالنكاح .
قوله تعالى : { غير مسافحات } ، أي : غير زانيات .
قوله تعالى : { ولا متخذات أخدان } ، أي أحباب . تزنون بهن في السر ، قال الحسن : المسافحة هي أن كل من دعاها تبعته ، وذات خدن أي : تختص بواحد لا تزني إلا معه ، والعرب كانت تحرم الأولى وتجوز الثانية .
قوله تعالى : { فإذا أحصن } ، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بفتح الألف والصاد ، أي :حفظن فروجهن ، وقال ابن مسعود : أسلمن ، وقرأ الآخرون : { أحصن } . بضم الألف وكسر الصاد أي تزوجن .
قوله تعالى : { فإن أتين بفاحشة } يعني : الزنا .
قوله تعالى : { فعليهن نصف ما على المحصنات } ، أي : ما على الحرائر الأبكار إذا زنين .
قوله تعالى : { من العذاب } . يعني : الحد ، فيجلد الرقيق إذا زنى خمسين جلدة ، وهل يغرب ؟ فيه قولان : فإن قلنا يغرب فيغرب نصف سنة على القول الأصح ، ولا رجم على العبيد .
روي عن عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة قال : أمرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه في فئة من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإماء ، خمسين في الزنا . ولا فرق في حد المملوك بين من تزوج أو لم يتزوج عند أكثر أهل العلم ، وذهب بعضهم إلى أنه لا حد على من لم يتزوج من المماليك إذا زنى ، لأن الله تعالى قال : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات } . وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه قال طاووس . ومعنى الإحصان عند الآخرين الإسلام ، وإن كان المراد منه التزويج فليس المراد منه أن التزويج شرط لوجوب الحد عليه ، بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصناً بالتزويج فلا رجم عليه ، إنما حده الجلد بخلاف الحر ، فحد الأمة ثابت بهذه الآية ، وبيان أنها تجلد في الحد هو :
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثني الليث عن سعيد يعني المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ، ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت فيجلدها الحد ، ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر .
قوله تعالى : { ذلك } ، يعني : نكاح الأمة عند عدم الطول .
قوله تعالى : { لمن خشي العنت منكم } ، ، يعني : الزنا ، يريد المشقة لغلبة الشهوة .
قوله تعالى : { وأن تصبروا } ، عن نكاح الإماء متعففين .
قوله تعالى : { خير لكم } ، لئلا يخلق الولد رقيقاً . { والله غفور رحيم } .
يقول [ تعالى ]{[7043]} ومن لم يجد { طَوْلا } أي : سعة وقدرة { أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } أي الحرائر .
وقال ابن وَهْب : أخبرني عبد الجبار ، عن ربيعة : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } قال ربيعة الطوْل الهوى ، ينكح الأمة إذا كان هواه فيها . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
ثم شرع يشنع على هذا القول ويَرُدّه { فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } أي : فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون ، ولهذا قال : { مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات } قال ابن عباس وغيره : فلينكح من إماء المؤمنين ، وكذا قال السدي ومقاتل بن حَيَّان .
ثم اعترض{[7044]} بقوله : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي : هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها ، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور .
ثم قال : { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } فدلَّ على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه ، وكذلك هو ولي عبده ، ليس لعبده أن يتزوج إلا{[7045]} بإذنه ، كما جاء في الحديث : " أيما عبد تَزَوّج بغير إذن مَوَاليه فهو عَاهِر " {[7046]} أي زان .
فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها ؛ لما جاء في الحديث : " لا تُزَوِّجُ المرأةُ [ المرأةَ ، ولا المرأةُ نفسها ]{[7047]} فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " {[7048]} .
وقوله : { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : وادفعوا{[7049]} مهورهن بالمعروف ، أي : عن طيب نفس منكم ، ولا تبخسوا{[7050]} منه شيئًا استهانة بهن ؛ لكونهن إماء مملوكات .
وقوله : { مُحْصَنَاتٍ } أي : عفائف عن الزنا لا{[7051]} يتعاطينه ؛ ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } وهن الزواني اللاتي لا يمتنعن من أرادهن بالفاحشة .
وقوله : { ولا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } قال ابن عباس : المسافحات ، هن الزواني المعالنات{[7052]} يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدًا أرادهن بالفاحشة . ( ومتخذات أخدان ) يعني : أخلاء .
وكذا روي عن أبي هريرة ، ومجاهد والشعبي ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ويحيى بن أبي كثير ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، قالوا : أخلاء . وقال الحسن البصري : يعني : الصديق . وقال الضحاك أيضا : { وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } ذات الخليل الواحد [ المسيس ]{[7053]} المقرة به ، نهى الله عن ذلك ، يعني [ عن ]{[7054]} تزويجها{[7055]} ما دامت كذلك .
وقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } اختلف{[7056]} القراءُ في { أُحْصِنَّ } فقرأه{[7057]} بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد ، مبني لما لم يسم فاعله ، وقُرئ بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ثم قيل : معنى القراءتين{[7058]} واحد . واختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أن المراد بالإحصان هاهنا الإسلام . رُوي ذلك عن عبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، والأسود بن يزيد ، وزِرّ بن حُبَيْش ، وسعيد بن جُبَير ، وعطاء ، إبراهيم النَّخعي ، والشعبي ، والسُّدِّي . وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب ، وهو منقطع . وهذا هو القول{[7059]} الذي نص عليه الشافعي [ رحمه الله تعالى ]{[7060]} في رواية الربيع ، قال : وإنما قلنا [ ذلك ]{[7061]} استدلالا بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم .
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثًا مرفوعًا ، قال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله [ الدمشقى ]{[7062]} حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن رجل ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قال : " إحصانها إسلامها وعفافها " . وقال{[7063]} المراد به هاهنا التزويج ، قال : وقال علي : اجلدوهن .
[ ثم ]{[7064]} قال ابن أبي حاتم : وهو حديث منكر .
قلت : وفي{[7065]} إسناده ضعف ، ومنهم من لم يسم ، و [ مثله ]{[7066]} لا{[7067]} تقوم به حجة{[7068]} .
وقال القاسم وسالم : إحصانها : إسلامها وعفافها .
وقيل : المراد به هاهنا : التزويج . وهو قولُ ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وطاوس ، وسعيد بن جُبَير ، والحسن ، وقتادة وغيرهم . ونقله أبو علي الطبري في كتابه " الإيضاح " عن الشافعي ، فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم عنه وقد رواه لَيْث بن أبي سليم ، عن مجاهد أنه قال : إحصان الأمة أن ينكحها الحر ، وإحصان العبد أن ينكح الحرة . وكذا رَوَى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير في تفسيره ، وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي .
وقيل{[7069]} معنى القراءتين متباين{[7070]} فمن قرأ { أُحْصِنَّ } بضم الهمزة ، فمراده التزويج ، ومن قرأ " أحصن " بفتحها ، فمراده الإسلام اختاره الإمام أبو جعفر ابن جرير في تفسيره ، وقرره ونصره .
والأظهر - والله أعلم - أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج ؛ لأن سياق الآية يدل عليه ، حيث يقول سبحانه وتعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ } والله أعلم . والآية الكريمة سياقها كلها{[7071]} في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } أي : تزوجن ، كما فسره ابن عباس ومن تبعه .
وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور ؛ وذلك أنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة أو كافرة ، مزوجة أو بكرا ، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنا من الإماء ، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك ، فأما الجمهور فقالوا : لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم . وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء ، فقدمناها على مفهوم الآية ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه خطب فقال : يا أيها الناس ، أقيموا على أرقَّائكم الحد من أحْصَنَ منهم ومن لم يُحْصَن ، فَإنَّ أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زَنَتْ فأمرني أن أجلدها ، فإذا هي حديثة عهد بنفاس ، فخشيت إنْ جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أحْسَنْتَ ، اتركها حتى تَماثَل{[7072]} " {[7073]} .
وعند عبد الله بن أحمد ، عن غير أبيه : " فإذا تَعالتْ من نَفْسِها{[7074]} حدَّها{[7075]} خمسين " .
وعن أبي هريرة قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها ، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زَنَتِ الثانية فليجلدها الحد ولا يُثَرِّبْ عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها ، فليبعها ولو بِحَبْل من شَعَر " ولمسلم{[7076]} إذا زَنتْ ثلاثا فليبعها في الرابعة " {[7077]} .
وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يَسار ، عن عبد الله بن عيَّاش{[7078]} بن أبي ربيعة{[7079]} المخزومي قال : أمَرَني عُمَر بن الخطاب في فتية من قريش ، فجلدنا من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا .
الجواب الثاني : جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها ، وإنما تضرب تأديبا ، وهو المحكي عن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنه ، وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جُبَير ، وأبو عُبَيد القاسم بن سلام ، وداود بن علي الظاهري في رواية عنه . وعمْدتهُم مفهوم الآية وهو من مفاهيم الشرط ، وهو حجة عند أكثرهم فهو مقدم على العموم عندهم . وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت ولم تحْصنْ ؟ قال : " إن زنت فحدوها{[7080]} ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير " {[7081]} قال ابن شهاب : لا أدري أبعد{[7082]} الثالثة أو الرابعة .
أخرجاه في الصحيحين{[7083]} وعند مسلم : قال ابن شهاب : الضفير{[7084]} الحبل .
قالوا : فلم يُؤَقَّت في هذا الحديث{[7085]} عدد كما وقت في المحصنة بنصف ما على المحصنات من العذاب ، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم .
وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس على أمة حد حتى تحصن - أو{[7086]} حتى تزوج - فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات " .
وقد رواه ابن خزيمة ، عن عبد الله بن عمران العابدي{[7087]} عن سفيان به مرفوعا . وقال : رفعه خطأ ، إنما هو من قول ابن عباس ، وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران ، وقال مثل ما قاله ابن خزيمة{[7088]} .
قالوا : وحديث علي وعمر [ رضي الله عنهما ]{[7089]} قضايا أعيان ، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة :
أحدها : أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث .
الثاني : أن لفظ الحد في قوله : فليجلدها{[7090]} الحد ، لفظ مقحم{[7091]} من بعض الرواة ، بدليل الجواب الثالث وهو :
أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط ، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقدم{[7092]} من رواية واحد ، وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم ، من حديث عَبَّاد بن تميم ، عن عمه - وكان قد شهد بدرًا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا زنت الأمة فاجلدوها ، ثم إذا زَنتِ فاجْلِدوها ، ثم إذا زنت فاجلدوها ، ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير " .
الرابع : أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ الحد في الحديث على الجلد ؛ لأنه لما كان الجلد اعتقد{[7093]} أنه حد ، أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب ، كما أطلق الحد على ضرب من زنى من المرضى بُعثْكال نخل فيه مائة شمراخ ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة ، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كالإمام أحمد وغيره من السلف . وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة ، ورجم الثيب أو اللائط ، والله أعلم .
وقد روى ابن جرير في تفسيره : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ؛ أنه سمع سعيد بن جبير يقول : لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج{[7094]} .
وهذا إسناد صحيح عنه ، ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب أصلا لا حدا ، وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث ، وإن كان أراد أنها لا تضرب حدا ، ولا ينفي ضربها تأديبا ، فهو{[7095]} كقول ابن عباس ومن تبعه في ذلك ، والله أعلم .
الجواب الثالث : أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة ، فأما قبل الإحصان فعمومات{[7096]} الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة ، كقوله تعالى{[7097]} { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] وكحديث عبادة بن الصامت : " خُذوا عَنِّي ، خذوا عني ، قد جَعلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البِكر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتَغْرِيبُ عام ، والثيب جَلْدُ مائة ورَجْمُهَا بالحجارة " والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث .
وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري ، وهو في غاية الضعف ؛ لأن الله تعالى{[7098]} إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة{[7099]} من العذاب وهو خمسون جلدة ، فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان . وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال ، وهذا الشارع عليه السلام يسأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فقال : " اجلدوها " ولم يقل مائة ، فلو كان حكمها كما قال{[7100]} داود لوجب بيان ذلك لهم ؛ لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم{[7101]} بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء ، وإلا فما الفائدة في قولهم : " ولم تحصن " لعدم الفرق
بينهما لو لم تكن الآية نزلت ، لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الحال الآخر ، فبينه لهم . كما [ ثبت ]{[7102]} في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه ، فذكرها لهم ثم قال : " والسلام ما قد{[7103]} علمتم " وفي لفظ : لما أنزل الله قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ الأحزاب : 56 ] قالوا : هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ وذكر الحديث ، وهكذا هذا السؤال{[7104]} .
الجواب الرابع - عن مفهوم الآية - : جواب أبي ثور ، فإن من مذهبه ما هو أغرب من قول داود من وجوه ، ذلك أنه يقول{[7105]} فإذا أحْصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات{[7106]} المزوجات وهو الرجم ، وهو لا يتناصف{[7107]} فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت ، وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين . فأخطأ في فهم الآية وخالف الجمهور في الحكم ، بل قد قال أبو عبد الله الشافعي ، رحمه الله : ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا ؛ وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، والألف واللام في المحصنات للعهد ، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } والمراد بهن الحرائر فقط ، من غير تعرض لتزويج غيره ، وقوله : { نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه{[7108]} وهو الجلد لا الرجم ، والله أعلم .
ثم قد روى الإمام أحمد [ حديثا ]{[7109]} نَصا في رَدِّ مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعد عن أبيه أن صفية{[7110]} كانت قد زنت برجل من الحمس ، فولدت غلاما ، فادعاه الزاني ، فاختصما إلى عثمان [ بن عفان ]{[7111]} فرفعهما{[7112]} إلى علي بن أبي طالب ، فقال علي : أقضي فيهما{[7113]} بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الولد للفِرَاش وللعَاهِر الحَجَر " وجلدهما خمسين خمسين{[7114]} .
وقيل : بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى ، أي : أن الإماء على النصف من{[7115]} الحرائر في الحد وإن كن محصنات ، وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده ، وإنما عليهن الجلد في الحالتين بالسنة . قال{[7116]} ذلك صاحب الإفصاح عن الشافعي ، فيما رواه ابن عبد الحكم ، عنه . وقد ذكره{[7117]} البيهقي في كتاب السنن والآثار ، وهو بعيد عن لفظ الآية ؛ لأنا إنما استفدنا تنصيف{[7118]} الحد من الآية لا من سواها ، فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها ، وقال : بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام ، ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه - وهو قول في مذهب الإمام أحمد رحمه الله - فأما قبل الإحصان فله ذلك ، والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة . وهذا أيضا بعيد ؛ لأنه{[7119]} ليس في لفظ الآية ما يدل عليه .
ولولا هذه لم ندر ما حكم الإمام{[7120]} في التنصيف ، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد{[7121]} مائة أو رجمهن ، كما{[7122]} أثبت في الدليل عليه ، وقد تقدم عن علي أنه قال : أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من{[7123]} أحصن منهم ومن لم يحصن ، وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة{[7124]} وغيرها ، لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور : " إذا زَنَتْ أمةُ أحدِكم فتبين زِناهَا فَليجْلِدها{[7125]} الحدَّ ولا يثرب عَلَيْها " .
ملخص الآية : أنها{[7126]} إذا زنت أقوال : أحدها : أنها{[7127]} بجلد خمسين قبل الإحصان وبعده ، وهل تنفى ؟ فيه ثلاثة أقوال :
[ أحدها ]{[7128]} أنها{[7129]} تنفى عنه{[7130]} والثاني : لا تنفى عنه{[7131]} مطلقًا . [ وهو قول علي وفقهاء المدينة ]{[7132]} والثالث : أنها تنفى نصف سنة وهو نفي نصف{[7133]} الحرة . وهذا الخلاف في مذهب الشافعي ، وأما أبو{[7134]} حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد ، وإنما هو{[7135]} رأي الإمام ، إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء ، وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال ، وأما{[7136]} النساء فلا{[7137]} ؛ لأن{[7138]} ذلك مضاد لصيانتهن ، [ وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا في النساء نعم حديث عُبَادَة وحديث أبي هريرة ]{[7139]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة{[7140]} الحد عليه ، رواه البخاري ، و [ كل ]{[7141]} ذلك مخصوص بالمعنى ، وهو أن المقصود من النفي الصون وذلك مفقود في نفي النساء والله أعلم .
والثاني : أن الأمة إذا زنت تُجلد خمسين بعد الإحصان ، وتضرب [ قبله ]{[7142]} تأديبا غير محدود بعدد محصور ، وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير : أنها لا تضرب قبل الإحصان ، وإن{[7143]} أراد نفيه فيكون مذهبًا بالتأويل{[7144]} وإلا فهو كالقول الثاني .
القول الآخر : أنها تجلد قبل الإحصان مائة وبعده خمسين ، كما هو المشهور عن داود ، و[ هو ]{[7145]} أضعف الأقوال : أنها تجلد قبل الإحصان خمسين وترجم بعده ، وهو قول أبي ثور ، وهو ضعيف أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
وقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } أي : إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا ، وشق عليه الصبر عن الجماع ، وعنت بسبب ذلك [ كله ، فحينئذ يتزوج الأمة ، وإن ترك تزوج الأمة ]{[7146]} وجاهد نفسه في الكف عن الزنا ، فهو خير له ؛ لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج عربيا فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي ، ولهذا قال : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهورُ العلماء في جواز نكاح الإماء ، على أنه لا بد من عدم الطَّوْل لنكاح الحرائر ومن خوف العنت ؛ لما في نكاحهن من مفْسَدة رق الأولاد ، ولما فيهن من الدناءة{[7147]} في العدول عن الحرائر إليهن . وخالف الجمهورَ أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين ، فقالوا : متى لم يكن الرجل مزوجا بحرّة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا ، سواء كان واجدًا الطول لحرة أم{[7148]} لا وسواء خاف العنت أم{[7149]} لا وعمدتهم{[7150]} فيما ذهبوا إليه [ عموم ]{[7151]} قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] أي : العفائف ، وهو يعم الحرائر والإماء ، وهذه الآية عامة ، وهذه{[7152]} أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور والله أعلم .
{ ومن لم يستطع منكم طولا } غنى واعتلاء وأصله الفضل والزيادة . { أن ينكح المحصنات المؤمنات } في موضع النصب بطولا . أو بفعل مقدر صفة له أي ومن لم يستطع منكم أن يعتلي نكاح المحصنات ، أو من لم يستطع منكم غنى يبلغ به نكاح المحصنات يعني الحرائر لقوله : { فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } يعني الإماء المؤمنات فظاهر الآية حجة للشافعي رضي الله تعالى عنه في تحريم نكاح الأمة على من ملك ما يجعله صداق حرة ، ومنع نكاح الأمة الكتابية مطلقا . وأول أبو حنيفة رحمه الله تعالى طول المحصنات بأن يملك فراشهن ، على أن النكاح هو الوطء وحمل قوله : { من فتياتكم المؤمنات } على الأفضل . كما حمل عليه في قوله : { المحصنات المؤمنات } ومن أصحابنا من حمله أيضا على التقييد وجوز نكاح الأمة لمن قدر على الحرة الكتابية دون المؤمنة حذرا عن مخالطة الكفار وموالاتهم ، والمحذور في نكاح الأمة رق الولد ، وما فيه من المهانة ونقصان حق الزوج . { والله أعلم بإيمانكم } فاكتفوا بظاهر الإيمان فإنه العالم بالسرائر وبتفاضل ما بينكم في الإيمان ، فرب أمة تفضل الحرة فيه ، ومن حقكم أن تعتبروا فضل الإيمان لا فضل النسب ، والمراد تأنيسهم بنكاح الإماء ومنعهم عن الاستنكاف منه ويؤيده . { بعضكم من بعض } أنتم وأرقاؤكم متناسبون نسبكم من آدم ودينكم الإسلام . { فانكحوهن بإذن أهلهن } يريد أربابهن واعتبار إذنهم مطلقا لا إشعار له ، على أن لهن أن يباشرن العقد بأنفسهم حتى يحتج به الحنفية . { وآتوهن أجورهن } أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن ! فحذف ذلك لتقدم ذكره أو إلى مواليهن فحذف المضاف للعلم بأن المهر للسيد لأنه عوض عن حقه فيجب أن يؤدي إليه ، وقال مالك رضي الله عنه : المهر للأمة ذهابا إلى الظاهر { بالمعروف } بغير مطل وإضرار ونقصان . { محصنات } عفائف . { غير مسافحات } غير مجاهرات بالسفاح . { ولا متخذات أخدان } أخلاء في السر { فإذا أحصن } بالتزويج . قرأ أبو بكر وحمزة بفتح الهمزة والصاد والباقون بضم الهمزة وكسر الصاد . { فإن أتين بفاحشة } زنى . { فعليهن نصف ما على المحصنات } يعني الحرائر . { من العذاب } من الحد لقوله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } وهو يدل على أن حد العبد نصف حد الحر ، وأنه لا يرجم لأن الرجم لا ينتصف . { ذلك } أي نكاح الإماء . { لمن خشي العنت منكم } لمن خاف الوقوع في الزنى ، وهو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر ، مستعار لكل مشقة وضرر ولا ضرر أعظم من مواقعه الإثم بأفحش القبائح . وقيل : المراد به الحد وهذا شرط آخر لنكاح الإماء . { وأن تصبروا خير لكم } أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين خير لكم . قال عليه الصلاة والسلام " الحرائر صلاح البيت والإماء هلاكه " . { والله غفور } لمن لم يصبر . { رحيم } بأن رخص له .
عطف قوله : { ومن لم يستطع منكم طولاً } على قوله : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] تخصيصاً لعمومه بغير الإماء ، وتقييداً لإطلاقه باستطاعة الطَّول .
والطَّول بفتح الطاء وسكون الواو القدرة ، وهو مصدر طال المجازي بمعنى قدر ، وذلك أنّ الطُّول يستلزم المقدرة على المناولة ؛ فلذلك يقولون : تطاول لكذا ، أي تمطَّى ليأخذه ، ثم قالوا : تطاول ، بمعنى تكلّف المقدرة « وأين الثريا من يد المتطاول » فجعلوا لطال الحقيقي مصدراً بضم الطاء وجعلوا لطال المجازي مصدراً بفتح الطاء وهو ممّا فرّقت فيه العرب بين المعنيين المشتركين .
{ والمحصنات } [ النساء : 24 ] قرأه الجمهور بفتح الصاد وقرأه الكسائي بكسر الصاد على اختلاف معنيي ( أحصن ) كما تقدّم آنفاً ، أي اللاَّتي أحصنّ أنفسهنّ ، أو أحصنهنّ أولياؤهن ، فالمراد العفيفات . والمحصنات هنا وصف خرج مخرج الغالب ، لأنّ المسلم لا يقصد إلاّ إلى نكاح امرأة عفيفة ، قال تعالى : { والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك } [ النور : 30 ] أي بحسب خلق الإسلام ، وقد قيل : إنّ الإحصان يطلق على الحرية ، وأنّ المراد بالمحصنات الحرائر ، ولا داعي إليه ، واللغة لا تساعد عليه .
وظاهر الآية أنّ الطوْل هنا هو القدرة على بذل مهر لامرأة حرّة احتاج لتزوّجها : أولى ، أو ثانية ، أو ثالثةً ، أو رابعة ، لأنّ الله ذكر عدم استطاعة الطوْل في مقابلة قوله : { أن تبتغوا بأموالكم } [ النساء : 24 ] { فأتوهن أجورهن فريضة } [ النساء : 24 ] ولذلك كان هذا الأصحّ في تفسير الطوْل . وهو قول مالك ، وقاله ابن عباس ، ومجاهد ، وابن جبير ، والسدّي ، وجابر بن زيد . وذهب أبو حنيفة إلى أنّ من كانت له زوجة واحدة فهي طَوْل فلا يباح له تزوّج الإماء ؛ لأنّه طالب شهوة إذْ كانت عنده امرأة تعفّه عن الزنا . ووقع لمالك ما يقرب من هذا في كتاب محمد بن الموّاز ، وهو قول ابن حبيب ، واستحسنه اللخمي والطبري ، وهو تضييق لا يناسب يسر الإسلام على أنّ الحاجة إلى امرأة ثانية قد لا يكون لشهوة بل لحاجة لا تسدّها امرأة واحدة ، فتعيّن الرجوع إلى طلب التزوّج ، ووجودِ المقدرة . وقال ربيعة ، والنخعي ، وقتادة ، وعطاء ، والثوري ، الطوْل : الصبر والجلَد على نكاح الحرائر .
ووقع لمالك في كتاب محمد : أنّ الذي يجد مهر حرّة ولا يقدر على نفقتها ، لا يجوز له أن يتزوّج أمة ، وهذا ليس لكون النفقة من الطوْل ولكن لأنّ وجود المهر طول ، والنفقة لا محيص عنها في كليهما ، وقال أصبغ : يجوز لهذا أن يتزوّج أمة لأنّ نفقة الأمة على أهلها إن لم يضمَّها الزوج إليه ، وظاهرٌ أنّ الخلاف في حالٍ . وقوله : { أن ينكح } معمول ( طَوْلا ) بحذف ( اللاَّم ) أو ( على ) إذ لا يتعدّى هذا المصدر بنفسه .
ومعنى { أن ينكح المحصنات } أي ينكح النساء الحرائر أبكاراً أو ثيّبات ، دلّ عليه قوله : { فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } .
وإطلاق المحصنات على النساء اللاتي يتزوجهنّ الرجال إطلاق مجازي بعلاقة المآل ، أي اللائي يَصِرن محصنات بذلك النكاح إن كنّ أبكاراً ، كقوله تعالى : { قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً } [ يوسف : 36 ] أي عنباً آيلا إلى خمر ؛ أو بعلاقة ما كان ، إن كنّ ثيّبات كقوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] وهذا بيِّن ، وفيه غنية عن تأويل المحصنات بمعنى الحرائر ، فإنّه إطلاق لا تساعد عليه اللغة ، لا على الحقيقة ولا على المجاز ، وقد تساهل المفسّرون في القول بذلك .
وقد وُصف المحصنات هنا بالمؤمنات ، جريا على الغالب ، ومُعظم علماء الإسلام على أنّ هذا الوصف خرج للغالب ولعلّ الذي حملهم على ذلك أنّ استطاعة نكاح الحرائر الكتابيات طول ، إذْ لم تكن إباحة نكاحهنّ مشروطة بالعجز عن الحرائر المسلمات ، وكان نكاح الإماء المسلمات مشروطاً بالعجز عن الحرائر المسلمات ، فحصل من ذلك أن يكون مشروطاً بالعجز عن الكتابيات أيضاً بقاعدة قياس المساواة . وعلّة ذلك أنّ نكاح الأمة يُعرّض الأولاد للرقّ ، بخلاف نكاح الكتابية ، فتعطيل مفهوم قوله : { المؤمنات } مع { المحصنات } حصل بأدلّة أخرى ، فلذلك ألغَوْا الوصف هنا ، وأعملوه في قوله : { من فتياتكم المؤمنات } . وشذّ بعض الشافعية ، فاعتبروا رخصة نكاح الأمة المسلمة مشروطة بالعجز عن الحرّة المسلمة ، ولو مع القدرة على نكاح الكتابية ، وكأنَّ فائدة ذكر وصف المؤمنات هنا أنّ الشارع لم يكترث عند التشريع بذكر غير الغالب المعتبر عنده ، فصار المؤمنات هنا كاللَّقب في نحو ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ) .
والفتيات جمع فتاة ، وهي في الأصل الشابّة كالفتى ، والمراد بها هنا الأمة أطلق عليها الفتاة كما أطلق عليها الجَارية ، وعلى العبد الغلام ، وهو مجاز بعلاقة اللزوم ، لأنّ العبد والأمة يعاملان معاملة الصغير في الخدمة ، وقلّة المبالاة . ووصف المؤمنات عقب الفتيات مقصود للتقييد عند كافّة السلف ، وجمهور أيّمة الفقه ، لأنّ الأصل أن يكون له مفهوم ، ولا دليل يدلّ على تعطيله ، فلا يجوز عندهم نكاح أمة كتابية . والحكمة في ذلك أنّ اجتماع الرقّ والكفر يُباعد المرأة عن الحرمة في اعتبار المسلم ، فيقلّ الوفاق بينهما ، بخلاف أحد الوصفين . ويظهر أثر ذلك في الأبناء إذ يكونون أرقّاء مع مشاهدة أحوال الدّين المخالف فيمتدّ البون بينهم وبين أبيهم . وقال أبو حنيفة : موقع وصف المؤمنات هنا كموقعه مع قوله : { المحصنات المؤمنات } ، فلم يشترط في نكاح الأمة كونها مؤمنة ، قال أبو عُمر بن عبد البرّ : ولا أعرف هذا القول لأحد من السلف إلاّ لعَمْرو بن شرحبيل وهو تابعيّ قديم روى عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ؛ ولأنَّ أبا حنيفة لا يرى إعمال المفهوم .
وتقدّم آنفاً معنى { ملكت أيمانكم } .
والإضافة في قوله : { أيمانكم } وقوله : { من فتياتكم } للتقريب وإزالة ما بقي في نفوس العرب من احتقار العبيد والإماء والترفّع عن نكاحهم وإنكاحهم ، وكذلك وصف المؤمنات ، وإن كنّا نراه للتقيد فهو لا يخلو مع ذلك من فائدة التقريب ، إذ الكفاءة عند مالك تعتمد الدين أوَّلاً .
وقوله : { والله أعلم بإيمانكم } اعتراض جمع معاني شتّى ، أنّه أمر ، وقيدٌ للأمر في قوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولاً } إلخ ؛ وقد تَحول الشهوة والعجلة دون تحقيق شروط الله تعالى ، فأحالهم على إيمانهم المطلّع عليه ربّهم . ومن تلك المعاني أنّه تعالى أمر بنكاح الإماء عند العجز عن الحرائر ، وكانوا في الجاهلية لا يرضون بنكاح الأمة وجعْلَها حليلة ، ولكن يقضون منهنّ شهواتهم بالبغاء ، فأراد الله إكرام الإماء المؤمنات ، جزاء على إيمانهنّ ، وإشعاراً بأنّ وحدة الإيمان قرّبت الأحرار من العبيد ، فلمَّا شَرَع ذلك كلّه ذيّله بقوله : { والله أعلم بإيمانكم } ، أي بقوّته ، فلمّا كان الإيمان ، هو الذي رفع المؤمنين عند الله درجات كان إيمان الإماء مُقنعا للأحرار بترك الاستنكاف عن تزوجهنّ ، ولأنّه رُبّ أمةٍ يكون إيمانها خيراً من إيمان رجل حرّ ، وهذا كقوله { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] . وقد أشار إلى هذا الأخير صاحب « الكشاف » ، وابن عطية .
وقوله : { بعضكم من بعض } تذييل ثان أكّد به المعنى الثاني المراد من قوله : { والله أعلم بإيمانكم } فإنّه بعد أن قرّب إليهم الإماء من جانب الوحدة الدينية قرّبهنّ إليهم من جانب الوحدة النوعية ، وهو أنّ الأحرار والعبيد كلّهم من بني آدم ف ( مِن ) اتّصالية .
وفرّع عن الأمر بنكاح الإماء بيان كيفية ذلك فقال : { فأنكحوهن بإذن أهلهن } وشرط الإذن لئلاّ يكون سرّا وزني ، ولأنّ نكاحهنّ دون ذلك اعتداء على حقوق أهل الإماء .
والأهْل هنا بمعنى السَّادة المالكين ، وهو إطلاق شائع على سادة العبيد في كلام الإسلام . وأحسب أنّه من مصطلحات القرآن تلطّفا بالعبيد ، كما وقع النهي أن يقول العبد لسيّده : سيّدي ، بل يقول : مولاي . ووقع في حديث بريرة « أنّ أهلها أبوا إلاّ أن يكون الولاء لهم » .
والآية دليل على ولاية السيّد لأمته ، وأنّه إذا نَكحت الأمة بدون إذن السيّد فالنكاح مفسوخ ، ولو أجازه سيّدها . واختلف في العبد : فقال الشعبي : والأوزاعي ، وداود : هو كالأمة . وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وجماعة من التابعين : إذا أجازه السيد جاز ، ويُحتجّ بها لاشتراط أصل الولاية في المرأة ، احتجاجاً ضعيفاً ، واحتجّ بها الحنفية على عكس ذلك ، إذ سمّى الله ذلك إذناً ولم يسمّه عقداً ، وهو احتجاج ضعيف ، لأنّ الإذن يطلق على العقد لا سيما بعد أن دخلت عليه باء السببية المتعلّقة ب ( انكحوهنّ ) .
والقول في الأجور والمعروف تقدّم قريباً . غير أنّ قوله : { وأتوهن } وإضافة الأجور إليهنّ ، دليل على أنّ الأمة أحقّ بمهرها من سيّدها . ولذلك قال مالك في كتاب الرهون ، من المدونة : إنّ على سيّدها أن يجهّزها بمهرها . ووقع في كتاب النكاح الثاني منها : إنّ لسيّدها أن يأخذ مَهرها ، فقيل : هو اختلاف من قول مالك ، وقيل : إنّ قوله في كتاب النكاح : إذا لم تُبَوَّأ أو إذا جهّزها من عنده قبل ذلك ، ومعنى تُبَوَّأ إذا جعل سكناها مع زوجها في بيت سيّدها .
وقوله : { محصنات } حال من ضمير الإماء ، والإحصان التزوّج الصحيح ، فهي حال مقدّرة ، أي ليصرن محصنات .
وقوله : { غير مسافحات } صفة للحال ، وكذلك { ولا متخذات أخدان } قصد منها تفظيع ما كانت ترتكبه الإماء في الجاهلية بإذن مواليهنّ لاكتساب المَال بالبغاء ونحوه ، وكان الناس يومئذ قريبا عصرهم بالجاهلية .
والمسافحات الزواني مع غير معيّن . ومتّخذاتُ الأخذَان هنّ متّخذات أخلاّء تتّخذ الواحدة خليلاً تختصّ به لا تألف غيره . وهذا وإن كان يشبه النكاح من جهة عدم التعدّد ، إلاّ أنّه يخالفه من جهة التستّر وجهل النسب وخلع برقع المروءة ، ولذلك عطفه على قوله : { غير مسافحات } سدّ المداخل الزني كلّها . وتقدّم الكلام على أنواع المعاشرة التي كان عليها أهل الجاهلية في أول هذه السورة .
وقرأه الكسائي بكسر الصاد وقرأه الجمهور بفتح الصاد .
وقوله : { فإذا أُحْصنّ } أي أحصنهنّ أزواجُهن ، أي فإذا تزوجن . فالآية تقتضي أنّ التزوّج شرط في إقامة حدّ الزنا على الإماء ، وأنّ الحدّ هو الجلد المعيّن لأنّه الذي يمكن فيه التنصيف بالعدد . واعلم أنّا إذا جرينا على ما حقّقناه ممّا تقدّم في معنى الآية الماضية تعيّن أن تكون هذه الآية نزلت بعد شرع حدّ الجلد للزانية والزاني بآية سورة النور . فتكون مخصّصة لعموم الزانية بغير الأمة ، ويكون وضع هذه الآية في هذا الموضع ممّا ألحق بهذه السورة إكمالا للأحكام المتعلّقة بالإماء كما هو و اقع في نظائر عديدة ، كما تقدّم في المقدّمة الثامنة من مقدّمات هذا التفسير . وهذه الآية تحيّر فيها المتأوّلون لاقتضائها أن لا تحدّ الأمة في الزنى إلاّ إذا كانت متزوّجة ، فتأوّلها عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، وابن عُمَر بأنّ الإحصان هنا الإسلام ، ورأوا أنّ الأمة تحدّ في الزنا سواء كانت متزوّجة أم عزبى ، وإليه ذهب الأيّمة الأربعة . ولا أظنّ أنّ دليل الأيّمة الأربعة هو حمل الإحصان هنا على معنى الإسلام ، بل ما ثبت في « الصحيحين » أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ؛ فأوجب عليها الحدّ . قال ابن شهاب فالأمة المتزوّجة محدودة بالقرآن ، والأمة غير المتزوّجة محدودة بالسنّة . ونِعْم هذا الكلام . قال القاضي إسماعيل بن إسحاق : في حمل الإحصان في الآية على الإسلام بُعد ؛ لأنّ ذكر إيمانهن قد تقدّم في قوله : { من فتياتكم المؤمنات } وهو تدقيق ، وإن أباه ابن عطية .
وقد دلّت الآية على أنّ حدّ الأمة الجلد ، ولم تذكر الرجم ، فإذا كان الرجم مشروعاً قبل نزولها دلّت على أنّ الأمة لا رجم عليها ، وهو مذهب الجمهور ، وتوقّف أبو ثور في ذلك ، وإن كان الرجم قد شرع بعد ذلك فلا تدلّ الآية على نفي رجم الأمة ، غير أنّ قصد التنصيف في حدّها يدلّ على أنّها لا يبلغ بها حدّ الحرّة ، فالرجم ينتفي لأنّه لا يقبل التجزئة ، وهو ما ذَهِل عنه أبو ثور .
وقد روي عن عمر بن الخطاب : أنّه سئل عن حدّ الأمة فقال : « الأمة ألقت فَروة رأسها من وراء الدار » أي ألقت في بيت أهلها قناعها ، أي أنّها تخرج إلى كلّ موضع يرسلها أهلها إليه لا تقدر على الامتناع من ذلك ، فتصير إلى حيث لا تقدر على الامتناع من الفجور ، قالوا : فكان يرى أن لا حدّ عليها إذا فجرت ما لم تتزوّج ، وكأنّه رأى أنّها إذا تزوّجت فقد منعها زوجها . وقولُه هذا وإن كان غير المشهور عنه ، ولكنّنا ذكرناه لأنّ فيه للمتبصّر بتصريف الشريعة عبرة في تغليظ العقوبة بمقدار قوّة الخيانة وضعف المعذرة .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب : { أحصن } بضمّ الهمزة وكسر الصاد مبنيّا للنائب ، وهو بمعنى مُحْصَنات المفتوح الصاد . وقرأه حمزة ، والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، وخلَف : بفتح الهمزة وفتح الصاد ، وهو معنى محصِنات بكسر الصاد .
وقوله : { ذلك لمن خشى العنت منكم } إشارة إلى الحكم الصالح لأن يتقيّد بخشية العنت ، وذلك الحكم هو نكاح الإماء .
والعنت : المشقّة ، قال تعالى : { ولو شاء الله لأعنتكم } [ البقرة : 220 ] وأريد به هنا مشقّة العُزبة التي تكون ذريعة إلى الزنا ، فلذلك قال بعضهم : أريد العَنت الزنا .
وقوله : { وأن تصبروا خير لكم } أي إذا استطعتم الصبر مع المشقّة إلى أن يتيسّر له نكاح الحرّة فذلك خير ، لئلا يوقع أبناءه في ذلّ العبودية المكروهة للشارع لولا الضرورة ، ولئلا يوقع نفسه في مذّلة تصرّف الناس في زوجه .
وقوله : { والله غفور رحيم } أي إن خفتم العَنت ولم تصبروا عليه ، وتزوّجتم الإماء ، وعليه فهو مؤكّد لمعنى الإباحة . مؤذن بأنّ إباحة ذلك لأجل رفع الحرج ، لأنّ الله رحيم بعباده . غفور فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عمّا ما يقتضي مقصدُ الشريعة تحريمَه ، فليس هنا ذنب حتّى يغفر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن لم يستطع منكم طولا}: من لم يجد منكم سعة من المال، {أن ينكح المحصنات المؤمنات}، يعني الحرائر، فليتزوج من الإماء، {فمن ما ملكت أيمانكم}، يعني الولائد، فتزوجوا {من فتياتكم المؤمنات}، يعني الولائد. {والله أعلم بإيمانكم} من غيره، فيكره للعبد المسلم أن يتزوج وليدة من أهل الكتاب، لأن ولده يصير عبدا، فإن تزوجها وولدت له، فإنه يشتري من سيده رضى أو كره، ويسعى في ثمنه، {بعضكم من بعض} يتزوج هذا وليدة هذا، وهذا وليدة هذا.
{فانكحوهن بإذن أهلهن}: تزوجوا الولائد بإذن أربابهن، {وآتوهن أجورهن}، يقول: وأعطوهن مهورهن {بالمعروف محصنات} عفائف لفروجهن، {غير مسافحات} غير معلنات بالزنا، {ولا متخذات أخدان}، يعني أخلاء في السر، فيزني بها سرا.
{فإذا أحصن}، يعني أسلمن، {فإن أتين بفاحشة}: فإن جئن بالزنا، {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب}، يعني خمسين جلدة، نصف ما على الحرة إذا زنت، {ذلك} التزويج للولائد، {لمن خشي العنت منكم}، يعني الإثم في دينه، وهو الزنا، {وأن}، يعني ولئن {تصبروا} عن تزويج الأمة، {خير لكم} من تزويجهن، {والله غفور} لتزويجه الأمة، {رحيم} به حين رخص له في تزويجها إذا لم يجد طولا، يعني سعة في تزويج الحرة...
قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولا} [النساء: 25]. قوله تعالى: {فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25].
- يحيى: قال مالك: هن الإماء المؤمنات. قال مالك: فإنما أحل الله، فيما نرى، نكاح الإماء المؤمنات. ولم يحلل نكاح إماء أهل الكتاب؛ اليهودية والنصرانية.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى الطول الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية؛
فقال بعضهم: هو الفضل والمال والسعة... الطّوْل: الغنى.
وقال آخرون: معنى الطول في هذا الموضع: الهَوَى.
عن جابر أنه سئل عن الحرّ يتزوّج الأمة، فقال: إن كان ذا طول فلا. قيل: إن وقع حبّ الأمة في نفسه؟ قال: إن خشي العنت فليتزوّجها.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى الطول في هذا الموضع: السعة والغنى من المال، لإجماع الجميع على أن الله تبارك وتعالى لم يحرّم شيئا من الأشياء سوى نكاح الإماء لواجد الطول إلى الحرّة، فأحلّ ما حرّم من ذلك عند غلبته المحرم عليه له لقضاء لذة. فإذ كان ذلك إجماعا من الجميع فيما عدا نكاح الإماء لواجد الطول، فمثله في التحريم نكاح الإماء لواجد الطول: لا يحلّ له من أجل غلبة هوى سرّه فيها، لأن ذلك مع وجوده الطول إلى الحرة منه قضاء لذة وشهوة وليس بموضع ضرورة تدفع ترخصه كالميتة للمضطر الذي يخاف هلاك نفسه فيترخص في أكلها ليحيى بها نفسه، وما أشبه ذلك من المحرّمات اللواتي رخص الله لعباده في حال الضرورة والخوف على أنفسهم الهلاك منه ما حرم عليهم منها فيغيرها من الأحوال. ولم يرخص الله تبارك وتعالى لعبد في حرام لقضاء لذة، وفي إجماع الجميع على أن رجلاً لو غلبه هوى امرأة حرة أو امرأة أنها لا تحلّ له إلا بنكاح أو شراء على ما أذن الله به، ما يوضح فساد قول من قال: معنى الطول في هذا الموضع: الهوى، وأجاز لواجد الطول لحرة نكاح الإماء.
فتأويل الآية إذ كان الأمر على ما وصفنا: ومن لم يجد منكم سعة من مال لنكاح الحرائر، فلينكح مما ملكت أيمانكم. وأصل الطّوْل: الإفضال، يقال منه: طال عليه يَطُول طَوْلاً في الإفضال، وطال يَطُول طُولاً في الطول الذي هو خلاف القصر.
{إنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ}
يعني بذلك: ومن لم يستطع منكم أيها الناس طولاً، يعني: من الأحرار أن ينكح المحصنات وهنّ الحرائر المؤمنات اللواتي قد صدّقن بتوحيد الله وبما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحقّ.
عن ابن عباس، قوله: {أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ} يقول: أن ينكح الحرائر، فلينكح من إماء المؤمنين.
قال ابن زيد في قوله: {أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمْ المُؤْمِناتِ} قال: من لم يجد ما ينكح به حرة فينكح هذه الأمة فيتعفف بها ويكفيه أهلها مؤنتها، ولم يحل الله ذلك لأحد إلا لمن لا يجد ما ينكح به حرّة وينفق عليها، ولم يحلّ له حتى يخشى العنت...
وأما الفتيات فإنهنّ جمع فتاة، وهنّ الشواب من النساء، ثم يقال لكل مملوكة ذات سنّ أو شابة فتاة، والعبد فتى.
ثم اختلف أهل العلم في نكاح الفتيات غير المؤمنات، وهل عنى الله بقوله: {مِنْ فَتَياتِكُمْ المُؤْمناتِ} تحريم ما عدا المؤمنات منهنّ، أم ذلك من الله تأديب للمؤمنين؟
فقال بعضهم: ذلك من الله تعالى ذكره دلالة على تحريم نكاح إماء المشركين. عن مجاهد: {مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ} قال: لا ينبغي للحرّ المسلم أن ينكح المملوكة من أهل الكتاب.
وقال آخرون: ذلك من الله على الإرشاد والندب، لا على التحريم. وممن قال ذلك جماعة من أهل العراق. واعتلوا لقولهم بقول الله: {أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ وَالمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ} قالوا: فقد أحلّ الله محصنات أهل الكتاب عاما، فليس لأحد أن يخصّ منهنّ أمة ولا حرّة. قالوا: ومعنى قوله: {فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ}: غير المشركات من عبدة الأوثان.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: هو دلالة على تحريم نكاح إماء أهل الكتاب فإنهن لا يحللن إلا بملك اليمين¹، وذلك أن الله جلّ ثناؤه أحلّ نكاح الإماء بشروط، فما لم تجتمع الشروط التي سماها فيهنّ، فغير جائز لمسلم نكاحهنّ.
فإن قال قائل: فإن الآية التي في المائدة تدلّ على إباحتهنّ بالنكاح؟ قيل: إن التي في المائدة قد أبان أن حكمها في خاصّ من محصناتهم، وأنها معنّى بها حرائرهم دون إمائهم، قوله: {مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ} وليست إحدى الآيتين دافعة حكمها حكم الأخرى، بل إحداهما مبينة حكم الأخرى، وإنما تكون إحداهما دافعة حكم الأخرى لو لم يكن جائزا اجتماع حكميهما على صحة، فأما وهما جائز اجتماع حكمهما على الصحة، فغير جائز أن يحكم لإحداهما بأنها دافعة حكم الأخرى إلا بحجة التسليم لها من خبر أو قياس، ولا خبر بذلك ولا قياس، والآية محتملة ما قلنا: والمحصنات من حرائر الذين أوتوا الكتاب من قبلكم دون إمائهم.
{وَاللّهُ أعْلَمُ بإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}: وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم وتأويل ذلك: ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، فلينكح بعضكم من بعض، بمعنى: فلينكح هذا فتاة هذا. ف«البعض» مرفوع بتأويل الكلام، ومعناه إذ كان قوله: {فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ} في تأويل: فلينكح مما ملكت أيمانكم، ثم ردّ بعضكم على ذلك المعنى فرفع. ثم قال جلّ ثناؤه: {واللّهُ أعْلَمُ بإيمَانِكُمْ}: أي والله أعلم بإيمان من آمن منكم بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله، فصدق بذلك كله منكم، يقول: فلينكح من لم يستطع منكم طولاً لحرة من فتياتكم المؤمنات، لينكح هذا المقتر الذي لا يجد طولاً لحرّة من هذا الموسر فتاته المؤمنة التي قد أبدت الإيمان فأظهرته وكِلوا سرائرهنّ إلى الله، فإن علم ذلك إلى الله دونكم، والله أعلم بسرائركم وسرائرهن.
{فانْكِحُوهُنّ بإذْنِ أهْلِهِنّ وآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ بالمَعْرُوفِ}: فتزوّجوهنّ بإذن أربابهن وأمرهم إياكم بنكاحهنّ ورضاهم وأعطوهنّ مهورهنّ، ويعني بقوله {بالمَعْرُوفِ}: على ما تراضيتم به مما أحلّ الله لكم وأباحه لكم أن تجعلوه مهورا لهن.
{مُحْصَناتٍ}: عفيفات، {غيرَ مُسافِحاتٍ}: غير مزانيات، {ولا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ}: ولا متخذات أصدقاء على السفاح. وقد ذكر أن ذلك قيل كذلك، لأن الزواني كنّ في الجاهلية في العرب: المعلنات بالزنا. والمتخذات الأخدان: اللواتي قد حبسن أنفسهنّ على الخليل والصديق للفجور بها سرّا دون الإعلان بذلك. عن ابن عباس، قوله: {مُحْصَناتٍ غيرَ مُسافِحَاتٍ وَلا مُتّخذَاتِ أخْدَانٍ} يعني: تنكحوهنّ عفائف غير زواني في سرّ ولا علانية. {وَلا مُتّخِذَاتِ أخْدَانٍ} يعني: أخلاّء.
{فإذَا أُحْصِنّ}؛ اختلفت القراء في قراءة ذلك؛
فقرأه بعضهم: «فإذا أَحْصَنّ» بفتح الألف، بمعنى: إذا أسلمن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالإسلام.
وقرأه آخرون: {فإذَا أُحْصِنّ} بمعنى: فإذا تزوجن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج.
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في أمصار الإسلام، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصواب. فإن ظنّ ظانّ أن ما قلنا في ذلك غير جائز إذ كانتا مختلفتي المعنى، وإنما تجوز القراءة بالوجهين فيما اتفقت عليه المعاني فقد أغفل¹، وذلك أن معنيي ذلك وإن اختلفا فغير دافع أحدهما صاحبه، لأن الله قد أوجب على الأمة ذات الإسلام وغير ذات الإسلام على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم الحد، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذَا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْها كِتابَ اللّهِ وَلا يُثَرّبْ عَلَيْها، ثُمّ إنْ عادتْ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّهِ وَلاَ يُثرّبْ عَلَيْها، ثُمّ إنْ عادَتْ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّهِ وَلا يُثَرّبْ عَلَيْها، ثُمّ إنْ زنَتْ الرّابِعَةَ فَلْيَضْرِبْها كِتابَ اللّهِ ولْيَبِعها ولَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ». وقال صلى الله عليه وسلم: «أقِيمُوا الحُدُودَ على ما مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ». فلم يخصص بذلك ذات زوج منهنّ ولا غير ذات زوج، فالحدود واجبة على موالي الإماء إقامتها عليهنّ إذا فجرن بكتاب الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما: حدثكم به ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا مالك بن أنس عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة تزني ولم تحصن، قال: «اجْلِدْها، فإنْ زَنَتْ فاجْلِدْها، فإنْ زَنَتْ فاجْلِدْها، فإنْ زَنَتْ فقال في الثالثة أو الرابعة: فَبِعْهَا وَلَوْ بِضٍفِيرٍ» والضفير: الشعر.
فقد بين أن الحدّ الذي وجب إقامته بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإماء هو ما كان قبل إحصانهنّ فأما ما وجب من ذلك عليهنّ بالكتاب، فبعد إحصانهنّ؟ قيل له: قد بينا أن أحد معاني الإحصان: الإسلام، وأن الاَخر منه التزويج وأن الإحصان كلمة تشتمل على معان شتى، وليس في رواية من روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأمة تزنى قبل أن تحصن، بيان أن التي سئل عنها النبيّ صلى الله عليه وسلم هي التي تزنى قبل التزويج، فيكون ذلك حجة لمحتجّ في أن الإحصان الذي سنّ صلى الله عليه وسلم حدّ الإماء في الزنا هو الإسلام دون التزويج، ولا أنه هو التزويج دون الإسلام. وإذ كان لا بيان في ذلك، فالصواب من القول، أن كل مملوكة زنت فواجب على مولاها إقامة الحدّ عليها، متزوّجة كانت أو غير متزوّجة، لظاهر كتاب الله والثابت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من أخرجه من جوب الحدّ عليه منهنّ بما يجب التسليم له. وإذ كان ذلك كذلك تبين به صحة ما اخترنا من القراءة في قوله: {فإذَا أُحْصِنّ}. فإن ظنّ ظانّ أن في قول الله تعالى ذكره: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ} دلالة على أن قوله: {فإذَا أُحْصِنّ} معناه: تزوّجن، إذ كان ذكر ذلك بعد وصفهنّ بالإيمان بقوله: {مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ} وحسب أن ذلك لا يحتمل معنى غير معنى التزويج، مع ما تقدم ذلك من وصفهنّ بالإيمان، فقد ظنّ خطأ¹ وذلك أنه غير مستحيل في الكلام أن يكون معنى ذلك: ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فيتاتكم المؤمنات، فإذا هنّ آمن فإن أتين بفاحشة، فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب، فيكون الخبر بيانا عما يجب عليهنّ من الحدّ إذا أتين بفاحشة بعد إيمانهنّ بعد البيان عما لا يجوز لناكحهنّ من المؤمنين من نكاحهنّ، وعمن يجوز نكاحه له منهنّ. فإذ كان ذلك غير مستحيل في الكلام فغير جائز لأحد صرف معناه إلى أنه التزويج دون الإسلام، من أجل ما تقدّم من وصف الله إياهنّ بالإيمان غير أن الذي نختار لمن قرأ: «مُحْصَناتٍ غيَرَ مُسافِحاتٍ» بفتح الصاد في هذا الموضع أن يقرأ {فإذَا أُحْصِنّ فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ} بضم الألف، ولمن قرأ {مُحْصِناتٍ} بكسر الصاد فيه، أن يقرأ: «فإذَا أحْصَنّ» بفتح الألف، لتأتلف قراءة القارئ على معنى واحد وسياق واحد، لقرب قوله: «محصنات» من قوله: {فإذَا أُحْصِنّ} ولو خالف من ذلك لم يكن لحنا، غير أن وجه القراءة ما وصفت.
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك نظير اختلاف القراء في قراءته، فقال بعضهم: معنى قوله {فإذَا أُحْصِنّ}: فإذا أسلمن.
وقال آخرون: معنى قوله: {فإذا أُحْصِنّ}: فإذا تزوّجن.
وهذا التأويل على قراءة من قرأ: {فإذَا أُحْصِنّ} بضمّ الألف، وعلى تأويل من قرأ: «فإذا أَحْصَنّ» بفتحها. وقد بينا الصواب من القول والقراءة في ذلك عندنا.
{فإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ}: فإن أتت فتياتكم، وهنّ إماؤكم، بعد ما أَحْصنّ -بإسلام، أو أحصنّ بنكاح -بفاحشة، وهي الزنا، {فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ ما على المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ}: فعليهنّ نصف ما على الحرائر من الحدّ إذا هن زنين قبل الإحصان بالأزواج والعذاب الذي ذكره الله تبارك وتعالى في هذا الموضع هو الحدّ. وذلك النصف الذي جعله الله عذابا لمن أتى بالفاحشة من الإماء إذا هنّ أحصنّ خمسون جلدة، ونفي ستة أشهر، وذلك نصف عام، لأن الواجب على الحرّة إذا هي أتت بفاحشة قبل الإحصان بالزوج: جلد مائة، ونفي حَوْل، فالنصف من ذلك خمسون جلدة، ونفي نصف سنة، وذلك الذي جعله الله عذابا للإماء المحصنات إذا هن أتين بفاحشة... فإن قال قائل: وكيف {فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذَابِ} وهل يكون الجلد على أحد؟ قيل: إن معنى ذلك فلازم أبدانهنّ أن تجلد نصف ما يلزم أبدان المحصنات، كما يقال: عليّ صلاة يوم، بمعنى: لازم عليّ أن أصلي صلاة يوم، وعليّ الحجّ والصيام مثل ذلك، وكذلك عليه الحدّ بمعنى لازم له إمكان نفسه من الحدّ ليقام عليه.
{ذَلِكَ لَمِنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ}: هذا الذي أبحت أيها الناس من نكاح فتياتكم المؤمنات لمن لا يستطيع منكم طولاً لنكاح المحصنات المؤمنات، أبحته لمن خشي العنت منكم دون غيره ممن لا يخشى العنت.
واختلف أهل التأويل في هذا الموضع؛
فقال بعضهم: هو الزنا... العنت: الزنا.
وقال آخرون: معنى ذلك: العقوبة التي تُعْنِتُهُ، وهي الحدّ.
والصواب من القول في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ}: ذلك لمن خاف منكم ضررا في دينه وبدنه. وذلك أن العنت هو ما ضرّ الرجل، يقال منه: قد عَنِتَ فلان فهو يَعْنَتُ عَنتا: إذا أتى ما يضره في دين أو دنيا، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَدّوا ما عَنِتّمْ} ويقال: قد أعنتني فلان فهو يعنتني: إذا نالني بمضرّة¹ وقد قيل: العنت: الهلاك.
فالذين وجهوا تأويل ذلك إلى الزنا، قالوا: الزنا ضرر في الدين، وهو من العنت. والذين وجهوه إلى الإثم، قالوا: الآثام كلها ضرر في الدين وهي من العنت. والذين وجهوه إلى العقوبة التي تعنته في بدنه من الحدّ، فإنهم قالوا: الحدّ مضرّة على بدن المحدود في دنياه، وهو من العنت. وقد عمّ الله بقوله: {لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنْكُمْ} جميع معاني العنت، ويجمع جميع ذلك الزنا، لأنه يوجب العقوبة على صاحبه في الدنيا بما يعنت بدنه، ويكتسب به إثما ومضرّة في دينه ودنياه. وقد اتفق أهل التأويل الذي هم أهله، على أن ذلك معناه. فهو وإن كان في عينه لذّة وقضاء شهوة فإنه بأدائه إلى العنت منسوب إليه موصوف به أن كان للعنت سببا.
{وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: وأن تصبروا أيها الناس عن نكاح الإماء خير لكم، والله غفور لكم نكاح الإماء أن تنكحوهنّ على ما أحلّ لكم وأذن لكم به، وما سلف منكم في ذلك إن أصلحتم أمور أنفسكم فيما بينكم وبين الله، رحيم بكم، إذ أذن لكم في نكاحهنّ عند الافتقار وعدم الطول للحرة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الرخص جعلت للمستضعفين، فأما الأقوياء فأمرهم الجِدّ، والأخذ بالاحتياط والتضييق؛ إذ لا شغل لهم سوى القيام بحق الحق، فإن كان أمر الظاهر يشغلهم عن مراعاة القلوب فالأخذ في الأمور الظاهرة بالسهولة والأخف أوْلى من الاستقصاء فيما يمنع من مراعاة السر، لأنه ترك بعض الأمور لما هو الأهم والأجَلُّ، فمن نزلت درجته عن الأخذ بالأوثق والأحوط فمباح له الانحدار إلى وصف الترخص. ثم قال في آخر الآية: {وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ}: يعني على مقاساة ما فيه الشدة، وفي هذا نوع استمالة للعبيد حيث لم يقل اصبروا بل قال: {وَأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم كان نكاح الأمة منحطاً عن نكاح الحرة؟ قلت: لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين.
وقوله: {مّن فتياتكم} أي من فتيات المسلمين، لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين...
فإن قلت: فما معنى قوله: {والله أَعْلَمُ بإيمانكم}؟ قلت: معناه أن الله أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم، وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل وحق المؤمنين أن لا يعتبروا إلا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب، وهذا تأنيس بنكاح الإماء وترك الاستنكاف منه.
{بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} أي أنتم وأرقاؤكم متواصلون متناسبون لاشتراككم في الإيمان، لا يفضل حر عبداً إلا برجحان فيه.
{بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} اشتراط لإذن الموالي في نكاحهن...
{وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف} وأدّوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء واللز. فإن قلت: الموالي هم ملاك مهورهن لا هن، والواجب أداؤها إليهم لا إليهن، فلم قيل: وآتوهن؟ قلت: لأنهن وما في أيديهن مال الموالي، فكان أداؤها إليهن أداء إلى الموالي، أو على أن أصله: فآتوا مواليهن، فحذف المضاف...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حِكْمَةِ الْآيَةِ:
اُنْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إلَى مُرَاعَاةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ لِمَصَالِحِنَا وَحُسْنِ تَقْدِيرِهِ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَحْكَامِنَا؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ضَرَبَ الرِّقَّ عَلَى الْخَلْقِ عُقُوبَةً لِلْجَانِي وَخِدْمَةً لِلْمَعْصُومِ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعَلَّاقَةَ قَدْ تَنْتَظِمُ بِالرِّقِّ فِي بَابِ الشَّهْوَةِ الَّتِي رَتَّبَهَا جِبِلَّةً، وَرَتَّبَ النِّكَاحَ عَلَيْهَا فِي اتِّحَادِ الْقُرُونِ وَتَرْتِيبِ النَّظَرِ، وَشَرَّفَهُ لِشَرَفِ فَائِدَتِهِ وَمَقْصُودِهِ مِنْ وُجُودِ الْآدَمِيِّ عَلَيْهِ صَانَ عَنْهُ مَحِلَّ الْمَمْلُوكِيَّةِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ فِيهَا سَبَبَ الْحِلِّ وَطَرِيقَ التَّحْرِيمِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ يَكْفِي.
الثَّانِي: -وَهُوَ الْمَقْصُودُ- صِيَانَةُ النُّطْفَةِ عَنْ التَّصْوِيرِ بِصُورَةِ الْإِرْقَاقِ.
الثَّالِثُ: صِيَانَةٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ حِينَ كَثَّرَ شُرُوطَهُ، وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ، وَكَمَّلَ صِفَتَهُ؛ وَقَدْ كَانَ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ أَحْوَالَ الْخَلْقِ سَتَسْتَقِيمُ بِقِسْمَتِهِ إلَى ضِيقٍ وَسَعَةٍ وَضَرُورَةٍ أَذِنَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ لِلْحُرِّ فِي تَعْرِيضِ نُطْفَتِهِ لِلْإِرْقَاقِ، لِئَلَّا يَكُونَ مُرَاعَاةَ أَمْرٍ مَوْهُومٍ يُؤَدِّي إلَى فَسَادٍ حَال مُتَوَقَّعَة، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الْهَوَى يُجِيزُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ، وَهَذَا مُنْتَهَى نَظَر الْمُحَقِّقِينَ فِي مُطَالَعَةِ الْأَحْكَامِ مِنْ بَحْرِ الشَّرْعِ وَسَاحِلِ الْعَقْلِ؛ فَاِتَّخَذُوهَا مُقَدِّمَةً لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي فَهْمِ سِيَاقِ الْآيَةِ:
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ الرُّخَصِ، كَقَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وَقَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وَنَحْوِهُ. فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تُلْحَقَ بِالرُّخَصِ الَّتِي تَكُونُ مَقْرُونَةً بِأَحْوَالِ الْحَاجَةِ وَأَوْقَاتِهَا، وَلَا يَسْتَرْسِلُ فِي الْجَوَازِ اسْتِرْسَالَ الْعَزَائِمِ؛ وَإِلَى هَذَا مَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَاخْتَارَهُ مَالِكٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا أَصْلًا، وَجَوَّزَ نِكَاحَ الْأَمَةِ مُطْلَقًا، وَمَالَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَدْ جَهلَ مَسَاقَ الْآيَةِ مَنْ ظَنَّ هَذَا؛ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ نِكَاحُ الْأَمَةِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ الطَّوْلِ. وَالثَّانِي خَوْفُ الْعَنَتِ؛ فَجَاءَ بِهِ شَرْطًا عَلَى شَرْطٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَرَائِرَ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْحَرَائِرَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ذِكْرًا مُطْلَقًا؛ فَلَمَّا ذَكَرَ الْإِمَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ ذَكَرَهَا ذِكْرًا مَشْرُوطًا مُؤَكَّدًا مَرْبُوطًا.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: لَمَّا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ الْمُحَرَّمَاتِ الْحَاضِرَاتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلتَّكْلِيفِ، وَقَالَ بَعْدَهُ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}، فَلَوْ وَقَعَ هَذَا الْإِحْلَالُ بِنَصٍّ لَكَانَ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي عَدَدْنَاهَا نَسْخًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عُمُومًا؛ فَجَرَى عَلَى عُمُومِهِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ أَلْفًا مَا أَثَّرَ فِي الْعُمُومِ، فَكَيْفَ وَهِيَ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ؟ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَهُوَ عُمُومٌ خَرَجَ مِنْهُ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ وَبَقِيَ تَحْتَهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَهُمُ الْمُحَارِبُونَ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ لَا فَصَاحَةً وَلَا حِكْمَةً وَلَا دِينًا وَلَا شَرِيعَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}
الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا شَرَطَ الْإِيمَانَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مَخْفِيٌّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ أَحَالَ عَلَى الظَّاهِرِ فِيهِ، وَقَالَ: {وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} فِيمَا أَضْمَرْتُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، كُلُّكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَبِظَاهِرِهِ مَعْصُومٌ، حَتَّى يَحْكُمَ فِيهِ الْحَكِيمُ؛ وَلِذَلِكَ لَمَّا جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ لَهُ: «عَلَيَّ رَقَبَةٌ وَأُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ. قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» حَمْلًا عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْإِيمَانِ، نَعَمْ وَعَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}.
قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فِي الشَّرَفِ، وَرَدٌّ عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تُسَمِّي وَلَدَ الْأَمَةِ هَجِينًا تَعْبِيرًا لَهُ بِنُقْصَانِ مَرْتَبَةِ أُمِّهِ، وَهَذَا أَمْرٌ أَدْخَلَتْهُ الْيَمَنِيَّةُ عَلَى الْمُضَرِيَّةِ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَشْعُرْ بِجَهْلِ الْعَرَبِ وَغَفلتهَا؛ فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ ابْنُ أَمَةٍ، فَلَوْ كَانَتْ عَلَى بَصِيرَةٍ مَا قَبِلَتْ هَذَا التَّعْبِيرَ، وَإِلَيْهَا يُرْجَعُ.
قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَةَ لَا تُنْكَحَ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا ينْكَحُ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ وَسَيِّدِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}: هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ يُسَمَّى أُجْرَةً، وَدَلِيلُ هَذَا أَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ الْبُضْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْمَنْفَعَةَ يُسَمَّى أُجْرَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ لِلْأَمَةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: إنَّهُ عِوَضُ مَنْفَعَةٍ لَا يَكُونُ لِلْأَمَةِ، أَصْلُهُ إجَازَةُ الْمَنْفَعَةِ فِي الرَّقَبَةِ.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ السَّيِّدَ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ فَقَدْ مَلَكَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ غَشَيَانِهَا بِالتَّزْوِيجِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَمْلِكُهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَهَذَا الْعَقْدُ لَهَا لَا لَهُ، فَعِوَضَهُ لَهَا بِخِلَافِ مَنَافِعِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهَا وَالْعَقْدُ عَلَيْهَا لِلسَّيِّدِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إطْنَابٍ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: مَا يَعْنِي بِالْمَعْرُوفِ؟ يَعْنِي الْوَاجِبَ، وَهُوَ ضِدُّ الْمُنْكَرِ، وَلَيْسَ يُرِيدُ بِهِ الْمَعْرُوفَ الَّذِي هُوَ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ؛ وَسَتَرَاهُ مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} يَعْنِي عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَا مَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ، وَهُوَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ إنَّهُ شَرَطَ فِي النِّكَاحِ الْإِحْصَانَ وَهُوَ الْعِفَّةُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ النُّورِ: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ: مُحْصَنَاتٍ، أَيْ بِنِكَاحٍ لَا بِزِنًى، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}، فَكَيْفَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْكُوحَاتٌ، فَيَكُونُ تَكْرَارًا فِي الْكَلَامِ قَبِيحًا فِي النِّظَامِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ اللَّهُ ذَلِكَ صِيَانَةً لِلْمَاءِ الْحَلَالِ عَنْ الْمَاءِ الْحَرَامِ؛ فَإِنَّ الزَّانِيَةَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا نِكَاحُهَا حَتَّى تُسْتَبْرَأَ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}:
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَتًى وَفَتَاةً وَصْفٌ لِلْعَبِيدِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي».
قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْإِحْصَانِ هَاهُنَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيه؛ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْإِسْلَامُ؛ قَائِلُهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: أُحْصِنَّ: تَزَوَّجْنَ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ حُرَّةً وَالْأَمَةُ حُرًّا، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ... وَالْإِحْصَانُ هُوَ الْإِسْلَامُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ دَرَجَاتِ الْإِحْصَانِ، فَلَا يَنْزِلُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْكِحَ الْحَرَائِرَ الْمُؤْمِنَاتِ فَلْيَنْكِحِ الْمَمْلُوكَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، فَإِذَا أَسْلَمْنَ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ الْحَدِّ. وَلَا يَتَنَصَّفُ الرَّجْمُ، فَلْيَسْقُط اعْتِبَارُهُ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ مَا يَتَشَطَّرُ وَهُوَ الْجَلْدُ، وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: فَإِذَا تَزَوَّجْنَ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْأَبْكَارِ مِنَ الْعَذَابِ، وَهُوَ الْجَلْدُ.
وَنَحْنُ أَسَدُّ تَأْوِيلًا لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: الْمُؤْمِنَاتُ، يَقْتَضِي الْإِسْلَامَ. فَقَوْلُهُ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَرَّدَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمَةَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}، فَتَنَاوَلَهَا عُمُومُ هَذَا الْخِطَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: دَخَلَ الذُّكُورُ تَحْتَ الْإِنَاثِ فِي قَوْلِهِ: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} بِعِلَّةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، كَمَا دَخَلَ الْإِمَاءُ تَحْتَ قَوْلِهِ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ»؛ بِعِلَّةِ سِرَايَةِ الْعِتْقِ وَتَغْلِيبِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ عَلَى حَقِّ الْمِلْكِ.
وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} دُخُولَ الْمُحْصَنِينَ فِيهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}.
يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ نِكَاحِ الْأَمَةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ إرْقَاقِ الْوَلَدِ وَجَوَازِ خَوْفِ هَلَاكِ الْمَرْءِ؛ فَاجْتَمَعَتْ فِيهِ مَضَرَّتَانِ دُفِعَت الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى، فَقُدِّمَ الْمُتَحَقِّقُ عَلَى الْمُتَوَهَّمِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما مضى ذلك على هذا الوجه الجليل عرف أنه كله في الحرائر لأنه الوجه الأحكم في النكاح، وأتبعه تعليم الحكمة في نكاح الإماء؛ فقال عاطفاً على ما تقديره: هذا حكم من استطاع نكاح حرة: {ومن لم يستطع منكم} أي أيها المؤمنون {طولاً} أي سعة وزيادة عبر فيما قبله بالمال تهويناً لبذله بأنه ميال، لا ثبات له، وهنا بالطول الذي معناه: التي قل من يجدها {أن} أي لأن {ينكح المحصنات} أي الحرائر، فإن الحرة مظنة العفة الجاعلة لها فيما هو كالحصن على مريد الفساد، لأن العرب كانوا يصونونهنَّ وهنَّ أنفسهن عن أن يكن كالإماء {المؤمنات} بسبب كثرة المؤنة وغلاء المهر {فمن} أي فلينكح إن أراد من {ما ملكت أيمانكم} أي مما ملك غيركم من المؤمنين {من فتياتكم} أي إمائكم، وأطلقت الفتوة -وهي الشباب- على الرقيق لأنه يفعل ما يفعل الشاب لتكليف السيد له إلى الخدمة وعدم توقيره وإن كان شيخاً، ثم وضح المراد بالإضافة فقال: {المؤمنات} أي لا من الحرائر الكافرات ولا مما ملكتم من الإماء الكافرات ولا مما ملك الكفار حذراً من مخالطة كافرة خوفاً من الفتنة -كما مضى في البقرة، ولئلا يكون الولد المسلم بحكم تبعية أمه في الرق ملكاً لكافر، هذا ما تفهمه العبارة ولكنهم قالوا: إن تقييد المحصنات بالمؤمنات لا مفهوم له، وإلا لصار نكاح الحرة الكتابية المباح بآية المائدة مشروطاً بعقد مسلمة، حرة كانت أو أمة، ولم يشترط ذلك؛ ومذهب الشافعي أنه لا يجوز نكاح الأمة مع القدرة على حرة كتابية، والظاهر أن فائدة التقييد الندب إلى مباعدة الكفار فلا ينكح منهن إلا لضرورة، فكأن هذه سورة المواصلة، أسقط فيها أهل المباعدة، والمائدة سورة تمام الدين، فذكر فيها ما يجوز لأهله فلا ضرر في القيد، لأن المفهوم لا يقوى لمعارضة المنطوق مع ما فيه من فائدة الندب إلى الترك، وهذا كما أن قيد الإحصان هنا للندب إلى عدم نكاح الزواني مع جوازه بآية النور {وانكحوا الأيامى منكم} [النور: 32] كما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى...
ولما شرط في هذا النكاح الإيمان، وعبر فيه بالوصف، وكان أمراً قلبياً، لا يطلع على حقيقته إلا الله؛ أعقبه ببيان أنه يكتفى فيه بالظاهر فقال: {والله} أي الذي له الإحاطة التامة بالمعلومات والمقدورات {أعلم بإيمانكم} فربما ظهر ضعف إيمان أحد والباطن بخلافه، لكن في التعبير به وبالوصف لا بالفعل إرشاد إلى مزيد التحري من جهة الدين "فاظفر بذات الدين، تربت يداك!". ولما اشترط الدين كان كأنه قيل: فالنسب؟ فأشير إلى عدم اشتراطه بقوله: {بعضكم من بعض} أي كلكم من آدم وإن تشعبتم بعده {فانكحوهن} أي بشرط العجز {بإذن أهلهن} أي من مواليهن، ولا يجوز نكاحهن من غير إذنهم...
ولما كان هذا التخفيف والتيسير خاصاً بالمؤمنين منا قيد بقوله: {منكم}. ولما بين إباحته وأشار إلى البعد عنه لما فيه من استرقاق الولد صرح بالندب إلى حبس النفس عنه فقال: {وإن تصبروا} أي عن نكاحهن متعففين {خير لكم} أي لئلا تعيروا بهن، أو تسترق أولادكم منهن، ثم أتبع ذلك بتأكيده لذوي البصائر والهمم في سياق دال على رفع الحرج فقال: {والله} أي الذي له الجلال والإكرام {غفور} أي لمن لم يصبر، والمغفرة تشير إلى نوع تقصير {رحيم *} أي فاعل به فعل الراحم منكم بالإذن في قضاء وطره واللطف فيما يتبع ذلك من المحذور...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} الاستطاعة أن يكون الشيء في طوعك لا يتعاصى على قدرتك وهو أوسع من الإطاقة، والطول الغنى والفضل من المال والحال أو القدرة على تحصيل المطالب والرغائب، والمحصنات فسرت هنا بالحرائر خاصة بدليل مقابلتها بالفتيات وهن الإماء والحرية كانت عندهم داعية الإحصان والبغاء شأن الإماء قالت هند للنبي (صلى الله عليه وسلم) أو تزني الحرة؟ وفي التعبير عنهن بهذا اللقب إرشاد إلى تكرمهن فإن الفتاة تطلق على الشابة وعلى الكريمة السخية كأنه يقول لا تعبروا عن عبيدكم وإمائكم بالألفاظ الدالة على الملك بل بلفظ الفتى والفتاة المشعر بالتكريم.
والمعنى ومن لم يستطع منكم طولا في المال أو الحال لنكاح المحصنات أو من لم يستطع استطاعة طول أو من جهة الطول نكاح المحصنات اللواتي أحل لكم أن تبتغوا نكاحهن بأموالكم وأمرتم أن تقصدوا بالاستمتاع والانتفاع بنكاحهن الإحصان لهن ولأنفسكم فلينكح امرأة من نوع ما ملكتم من فتياتكم أي إمائكم المؤمنات. وهذا يؤيد ما قررناه تبعا لجمهور السلف والخلف من كون الاستمتاع في الآية السابقة هو النكاح الثابت، لا المتعة التي هي استئجار عارض، وتقدم أن الاستمتاع الانتفاع ومنه قوله (صلى الله عليه وسلم) للرجل الذي شكا من امرأته ولم تسمح نفسه بطلاقها (فاستمتع بها) رواه أبو داود والنسائي، ولو كانت تلك الآية تجيز المتعة بالحرائر لما كان لوصل هذه الآية بها فائدة وأي امرئ لا يستطيع المتعة لعدم طول حتى يتزوج الأمة فيجعل بها نسله مملوكا لمولاها؟ فإن قيل إنه ربما لا يستطيعها لعدم رغبة النساء فيها لأنها من العار. قلنا: إن صح هذا من عدم استطاعة الطول فهو لا يفيد هذا القائل لأن سبب عد المتعة عارا في الغالب هو تحريمها ومن لا يحرمها كالشيعة فإنما يبيحونها في الغالب اعتقادا وجدلا، لا استحسانا وعملا، فكأنها محرمة عليهم بالفعل لغلبة شعور سائر المسلمين واعتقادهم في ذلك عليهم، ولا شك أن عار الزنا المطلق أشد عندهم وعند سائر الناس عن عار المتعة وقلما يتركه أحد لعدم استطاعة الطول وإنما يتركه من يتركه تدينا في الغالب وخوفا من الأمراض التي تنشأ منه عند بعض الناس. ومن قدر على الزنا كان على المتعة أقدر. ومن الغفلة أن تقيد الأحكام بعادات بعض الناس وأحوالهم الاجتماعية لتوهم أن كل الناس كذلك في كل زمن حتى زمن التشريع.
فسروا الطّول هنا بالمال الذي يدفع مهرا وهو تحكم ضيقوا به معنى الكلمة وهي من مادة الطول بالضم فمعناها الفضل والزيادة، والفضل يختلف باختلاف الأشخاص والطبقات وقد قدر بعضهم (كالحنفية) المهر بدراهم معدودة فقال بعضهم ربع دينار وقال بعضهم عشرة دراهم وليس في الكتاب ولا في السنة ما يؤيده بل ورد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لمريد الزواج (التمس ولو خاتما من حديد) (رواه البخاري بلفظ تزوج ولو بخاتم من حديد وهو في الصحيحين والسنن) وروي أن بعضهم تزوج بتعليم الزوجة شيئا من القرآن مهرا (والحديث في الصحيحين والسنن وهو الذي أمره النبي بالتماس خاتم الحديد) وتزوج بعضهم بنعلين (وأجازه النبي (صلى الله عليه وسلم) صححه الترمذي) ولم يقيد السلف المهر بقدر معين.
وتفسير الطول بالغنى لا يلائم تحديد المحددين فإنه لا يكاد أحد يجد أمة يرضى أن يزوجها سيدها بأقل من ربع دينار أو عشرة دراهم أو نعلين. وفسره أبو حنيفة أو قال بعض الحنفية بأن يكون عنده حرة يستمتع بنكاحها بالفعل، أي ومن لم يكن منكم متزوجا امرأة حرة مؤمنة فله أن يتزوج أمة. فحاصله عدم الجمع بين الحرة والأمة.
(قال): والطول أوسع من كل ما قالوه وهو الفضل والسعة المعنوية والمادية فقد يعجز الرجل عن التزوج بحرة وهو ذو مال يقدر به على المهر المعتاد لنفور النساء منه، لعيب في خلقه أو خلقه، وقد يعجز عن القيام بغير المهر من حقوق المرأة الحرة، فإن لها حقوقا كثيرة في النفقة والمساواة وغير ذلك وليس للأمة مثل تلك الحقوق كلها، ففقد استطاعة الطول له صور كثيرة. والمؤمنات ليس بقيد في الحرائر ولا في الإماء أيضا وإن قيل به، وإنما لبيان الواقع، فإنه كان نهاهم عن نكاح المشركات في سورة البقرة وهن أولئك الوثنيات اللواتي لا كتاب لقومهن وسكت عن نكاح الكتابيات، والنهي عن نكاح المشركات لا يشملهن (كما تقدم في تفسير سورة البقرة ج2 تفسير) فكان الزواج محصورا في المؤمنات فذكره لأنه الواقع، أي ولأنهم لم يكونوا معرضين لنكاح الكتابيات ثم صرح بحل زواجهن في سورة المائدة وهي قد نزلت بعد سورة النساء بلا خلاف. وفي الوصف بالمؤمنة إرشاد إلى ترجيحها على الكتابية عند التعارض.
أقول: في هذا أحسن تخريج وتوجيه لما عليه الحنفية وهم يبنونه على عدم الاحتجاج بمفهوم الشرط ومفهوم اللقب وإلا فظاهر الشرط أن من قدر على نكاح الحرة المؤمنة لا يحل له أن ينكح الأمة المؤمنة بله غير المؤمنة. وظاهر وصف الفتيات بالمؤمنات أنه لا يحل نكاح الأمة غير المؤمنة. وقد أحل الله في سورة المائدة نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب وهن الحرائر في قول مجاهد وغير واحد من مفسري السلف وقال غيرهم هن العفائف وعلى هذا تكون آية المائدة دليلا عن أن الوصف هنا لا مفهوم له أو ناسخة لمفهومه أو مخصصة لعمومه إن قلنا أنه عام وسيأتي أنه خاص. وعندي أن مفهوم الصفة تارة يكون مرادا وتارة لا يكون مرادا فإذا قلت وزع هذا المال أو نسخ هذا الكتاب على طلاب العلم الفقراء. تعين أن يوزع على الأغنياء منهم شيء منه. لأن الصفة مقصودة لمعنى فيها كان هو سبب العطاء وإذا قلت وزع هذه الدراهم على الخدم الواقفين بالباب جاز أن يعطي منها للواقف منهم والقاعد لأن الصفة ههنا ذكرت لبيان الواقع المعتاد لا لمعنى في الوقوف يقتضي العطاء. فبالقرآن تعرف الصفة التي يراد مفهومها والصفة التي لا يراد مفهومها.
و قد يقال إن من القرينة على اعتبار مفهوم الوصف بالمؤمنات هنا أنه لم يكن عندهم في مقابلته إلا المشركات وهن محرمات بنص آية البقرة فلولا القيد هنا لتوهم نسخ ذلك التحريم، ولم يذكر مثل هذا القيد في قوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} ففهم منها أن المسببات المشركات حلال فاستمتعوا بهن يوم أوطاس فالمفهوم هنا خاص بالمشركات والصواب أن المشركات المحرمات في آية البقرة هن مشركات العرب كما رواه ابن جرير عن بعض مفسري السلف فحرم نكاحهن حتى يؤمن لأن للإسلام سياسة خاصة بالعرب وهي عدم إقرارهم على الشرك ليكونوا كلهم مسلمين. وأما أهل الكتاب فإنه يقرهم على دينهم ويرضى من الداخلين في ذمة المسلمين منهم أن يؤدوا الجزية ولذلك أجاز للمسلمين في موادتهم أن يؤاكلوهم ويتزوجوا منهم وكذلك أقر المجوس على دينهم ومن كان مثلهم فله حكمهم كالبراهمة والبوذيين والله أعلم وأحكم.
ويدل على اعتبار مفهوم الصفة أيضا قوله تعالى: {والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض} فهو يبين أن الإيماء قد رفع شأن الفتيات المؤمنات وساوى بينهن وبين الأحرار والحرائر في الدين وهو أعلم بحقيقة هذا الإيمان ودرجات قوته وكماله فرب أمة أكمل إيمانا من حرة فتكون أفضل منها عند الله تعالى أي فلا يصح مع هذا أن تعدو نكاح الأمة عارا عند الحاجة إليه فأنتم أيها المؤمنون إخوة في الإيمان بعضكم من بعض كما قال تعالى: {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض} [آل عمران:195] وقال: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} [التوبة:72] وقال في غيرهم: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} [التوبة:68] الخ وقيل بعضكم من بعض في النسب وهو ضعيف كما ترى فالإيمان هو المراد إذ لا ينبغي للمؤمن أن ينكح من اجتمع فيها نقص الشرك ونقص الرق...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين "الغفور والرحيم "لكون هذه الأحكام رحمةً بالعباد وكرمًا وإحسانًا إليهم فلم يضيق عليهم، بل وسع غاية السعة. ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر الحد إشارة إلى أن الحدود كفارات، يغفر الله بها ذنوب عباده كما ورد بذلك الحديث. وحكم العبد الذكر في الحد المذكور حكم الأمة لعدم الفارق بينهما...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فإذا كانت ظروف المسلم تحول بينه وبين الزواج من حرة تحصنها الحرية وتصونها، فقد رخص له في الزواج من غير الحرة، إذا هو لم يصبر حتى يستطيع الزواج من حرة، وخشي المشقة؛ أو خشي الفتنة:
(ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات -والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض- فانكحوهن بإذن أهلهن؛ وآتوهن أجورهن بالمعروف -محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان- فإذا أحصن. فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب. ذلك لمن خشي العنت منكم. وأن تصبروا خير لكم. والله غفور رحيم).
إن هذا الدين يتعامل مع "الإنسان" في حدود فطرته، وفي حدود طاقته. وفي حدود واقعه، وفي حدود حاجاته الحقيقية.. وحين يأخذ بيده ليرتفع به من حضيض الحياة الجاهلية إلى مرتقى الحياة الإسلامية لا يغفل فطرته وطاقته وواقعه وحاجاته الحقيقية، بل يلبيها كلها وهو في طريقه إلى المرتقى الصاعد.. إنه فقط لا يعتبر واقع الجاهلية هو الواقع الذي لا فكاك منه. فواقع الجاهلية هابط، وقد جاء الإسلام ليرفع البشرية من وهدة هذا الواقع! إنما هو يعتبر واقع "الإنسان" في فطرته وحقيقته.. واقتدار الإنسان على الترقي واقع من هذا الواقع.. فليس الواقع فقط هو مجرد تلبطه في وحل الجاهلية.. أية جاهلية.. فمن الواقع كذلك مقدرته -بما ركب في فطرته- على الصعود والتسامي عن ذلك الوحل أيضا! والله -سبحانه- هو الذي يعلم "واقع الإنسان" كله، لأنه يعلم "حقيقة الإنسان" كلها. هو الذي خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه.. (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)؟
وقد كان في المجتمع المسلم الأول رقيق يتخلف من الحروب؛ ريثما يتم تدبير أمره.. إما بإطلاق سراحه امتنانا عليه بلا مقابل. وإما فداء مقابل إطلاق سراح أسارى المسلمين، أو مقابل مال -حسب الملابسات والظروف المنوعة فيما بين المسلمين وأعدائهم المحاربين- وقد عالج الإسلام هذا الواقع بإباحة مباشرة ملك اليمين -كما جاء في الآية السابقة- لمن هن ملك يمينه. لمواجهة واقع فطرتهن كما أسلفنا. مباشرتهن إما بزواج منهن -إن كن مؤمنات- أو بغير زواج، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن في دار الحرب، بحيضة واحدة.. ولكنه لم يبح لغير سادتهن مباشرتهن إلا أن يكون ذلك عن طريق الزواج. لم يبح لهن أن يبعن أعراضهن في المجتمع لقاء أجر؛ ولا أن يسرحهن سادتهن في المجتمع يزاولن هذه الفاحشة لحسابهم كذلك!
وفي هذه الآية ينظم طريقة نكاحهن والظروف المبيحة لهذا النكاح:
(ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات)..
إن الإسلام يؤثر الزواج من حرة في حالة الطول -أي القدرة على نكاح الحرة- ذلك أن الحرة تحصنها الحرية؛ وتعلمها كيف تحفظ عرضها، وكيف تصون حرمة زوجها. فهن (محصنات) هنا -لا بمعنى متزوجات، فقد سبق تحريم نكاح المتزوجات- ولكن بمعنى حرائر، محصنات بالحرية؛ وما تسبغه على الضمير من كرامة، وما توفره للحياة من ضمانات. فالحرة ذات أسرة وبيت وسمعة ولها من يكفيها، وهي تخشى العار، وفي نفسها أنفة وفي ضميرها عزة، فهي تأبى السفاح والانحدار. ولا شيء من هذا كله لغير الحرة. ومن ثم فهي ليست محصنة، وحتى إذا تزوجت، فإن رواسب من عهد الرق تبقى في نفسها، فلا يكون لها الصون والعفة والعزة التي للحرة. فضلا على أنه ليس لها شرف عائلي تخشى تلويثه.. مضافا إلى هذا كله أن نسلها من زوجها كان المجتمع ينظر إليهم نظرة أدنى من أولاد الحرائر. فتعلق بهم هجنة الرق في صورة من الصور.. وكل هذه الاعتبارات كانت قائمة في المجتمع الذي تشرع له هذه الآية..
لهذه الاعتبارات كلها آثر الإسلام للمسلمين الأحرار ألا يتزوجوا من غير الحرائر، إذا هم استطاعوا الزواج من الحرائر. وجعل الزواج من غير الحرة رخصة في حالة عدم الطول. مع المشقة في الانتظار.
ولكن إذا وجدت المشقة، وخاف الرجال العنت. عنت المشقة أو عنت الفتنة. فإن الدين لا يقف أمامهم يذودهم عن اليسر والراحة والطمأنينة. فهو يحل -إذن- الزواج من المؤمنات غير الحرائر اللواتي في ملك الآخرين.
ويعين الصورة الوحيدة التي يرضاها للعلاقة بين الرجال الأحرار وغير الحرائر. وهي ذاتها الصورة التي رضيها من قبل في زواج الحرائر:
(فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات)..
وثانيا: يجب أن يعطين أجورهن فريضة لهن لا لسادتهن. فهذا حقهن الخالص.
وثالثا: يجب أن تكون هذه الأجور في صورة صداق: وأن يكون الاستمتاع بهن في صورة نكاح. لا مخادنة ولا سفاح: والمخادنة أن تكون لواحد. والسفاح أن تكون لكل من أراد. محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان.
وقد كان المجتمع إذ ذاك يعرف هذه الأنواع من الاتصال الجنسي بين الحرائر كما سلف من حديث عائشة -رضي الله عنها- كما كان يعرف كذلك بين غير الحرائر أنواعا من البغاء. وقد كان سادة من أشراف القوم يرسلون رقيقاتهم يكسبن بأجسامهن في هذا السبيل القذر، لحساب سادتهن. وكان لعبدالله بن أبي بن سلول -رأس المنافقين في المدينة وهو من سادة قومه- أربع جوار يكسبن له من هذا السبيل! وكانت هذه بقايا أو حال الجاهلية، التي جاء الإسلام ليرفع العرب منها، ويطهرهم ويزكيهم، كما يرفع منها سائر البشرية كذلك!
وكذلك جعل الإسلام طريقا واحدة للمعاشرة بين الرجال الأحرار وهؤلاء "الفتيات"، هي طريق النكاح، الذي تتخصص فيه امرأة لرجل لتكوين بيت وأسرة، لا الذي تنطلق فيه الشهوات انطلاق البهائم. وجعل الأموال في أيدي الرجال لتؤدى صداقا مفروضا، لا لتكون أجرا في مخادنة أو سفاح.. وكذلك طهر الإسلام هذه العلاقات حتى في دنيا الرقيق من وحل الجاهلية، الذي تتلبط فيه البشرية كلما ارتكست في الجاهلية! والذي تتلبط فيه اليوم في كل مكان، لأن رايات الجاهلية هي التي ترتفع في كل مكان، لا راية الإسلام!
ولكن -قبل أن نتجاوز هذا الموضع من الآية- ينبغي أن نقف أمام تعبير القرآن عن حقيقة العلاقات الإنسانية التي تقوم بين الأحرار والرقيق في المجتمع الإسلامي، وعن نظرة هذا الدين إلى هذا الأمر عندما واجهه المجتمع الإسلامي. إنه لا يسمي الرقيقات: رقيقات. ولا جواري. ولا إماء. إنما يسميهن "فتيات".
(فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات)..
وهو لا يفرق بين الأحرار وغير الأحرار تفرقة عنصرية تتناول الأصل الإنساني -كما كانت الاعتقادات والاعتبارات السائدة في الأرض كلها يومذاك- إنما يذكر بالأصل الواحد، ويجعل الآصرة الإنسانية والآصرة الإيمانية هما محور الارتباط:
(والله أعلم بإيمانكم، بعضكم من بعض)..
وهو لا يسمي من هن ملك لهم سادة. إنما يسميهم "أهلا":
وهو لا يجعل مهر الفتاة لسيدها. فمهرها إنما هو حق لها. لذلك يخرج من قاعدة أن كسبها كله له. فهذا ليس كسبا، إنما هو حق ارتباطها برجل:
وهو يكرمهن عن أن يكن بائعات أعراض بثمن من المال، إنما هو النكاح والإحصان:
(محصنات غير مسافحات ولامتخذات أخدان)..
وكلها لمسات واعتبارات تحمل طابع التكريم لإنسانية هؤلاء الفتيات، حتى وهن في هذا الوضع، الذي اقتضته ملابسات وقتية، لا تطعن في أصل الكرامة الإنسانية.
وحين يقاس هذا التكريم إلى ما كان سائدا في جاهلية الأرض كلها يومذاك من النظرة إلى الرقيق، وحرمانه حق الانتساب إلى "إنسانية" السادة! وسائر الحقوق التي تترتب على هذه "الإنسانية".. يبدو مدى النقلة التي نقل الإسلام إليه كرامة "الإنسان" وهو يرعاها في جميع الأحوال، بغض النظر عن الملابسات الطارئة التي تحد من أوضاع بعض الأناسي، كوضع الاسترقاق.
ويبدو مدى النقلة البعيدة حين يقاس صنيع الإسلام هذا، وتنظيمه لأوضاع هذه الحالة الطارئة بما تصنعه الجيوش الفاتحة في هذه الجاهلية الحديثة بنساء وفتيات البلاد المفتوحة. وكلنا يعرف حكاية "الترفيه" أو قصة الوحل الذي تلغ فيه جيوش الجاهلية الفاتحة في كل مكان! وتخلفه وراءها للمجتمع حين ترحل يعاني منه السنوات الطوال!
ثم يقرر الإسلام عقوبة مخففة على من ترتكب الفاحشة من هؤلاء الفتيات بعد إحصانها بالزواج، واضعا في حسابه واقعها وظروفها التي تجعلها أقرب إلى السقوط في الفاحشة، وأضعف في مقاومة الإغراء من الحرة، مقدرا أن الرق يقلل من الحصانة النفسية، لأنه يغض من الشعور بالكرامة، والشعور بشرف العائلة -وكلاهما شعور يثير الإباء في نفس الحرة- كما يقدر الحالة الاجتماعية والاقتصادية، واختلافها بين الحرة والأمة. وأثرها في جعل هذه أكثر تسامحا في عرضها، وأقل مقاومة لإغراء المال وإغراء النسب ممن يراودها عن نفسها! يقدر الإسلام هذا كله فيجعل حد الأمة -بعد إحصانها- نصف حد الحرة المحصنة بالحرية قبل زواجها.
(فإذا أحصن. فإن أتين بفاحشة، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)
ومفهوم أن النصف يكون من العقوبة التي تحتمل القسمة. وهي عقوبة الجلد. ولا يكون في عقوبة الرجم. إذ لا يمكن قسمتها! فإذا زنت الجارية المؤمنة المتزوجة عوقبت بنصف ما تعاقب به الحرة البكر. أما عقوبة الجارية البكر فمختلف عليها بين الفقهاء. هل تكون هذا الحد نفسه -وهو نصف ما على الحرة البكر- ويتولاه الإمام؟ أم تكون تأديبا يتولاه سيدها ودون النصف من الحد؟ وهو خلاف يطلب في كتب الفقه.
أما نحن -في ظلال القرآن- فنقف أمام مراعاة هذا الدين لواقع الناس وظروفهم، في الوقت الذي يأخذ بأيديهم في المرتقى الصاعد النظيف.
إن هذا الدين يأخذ في اعتباره -كما قلنا- واقع الناس، دون أن يدعهم يتلبطون في الوحل باسم هذا الواقع!
وقد علم الله ما يحيط بحياة الرقيق من مؤثرات. تجعل الواحدة -ولو كانت متزوجة- أضعف من مقاومة الإغراء والوقوع في الخطيئة. فلم يغفل هذا الواقع ويقرر لها عقوبة كعقوبة الحرة. ولكن كذلك لم يجعل لهذا الواقع كل السلطات، فيعفيها نهائيا من العقوبة.
قوام وسط. يلحظ كل المؤثرات وكل الملابسات.
كذلك لم يجعل من انحطاط درجة الرقيق سببا في مضاعفة العقوبة، كما كانت قوانين الجاهلية السائدة في الارض كلها تصنع مع الطبقات المنحطة والطبقات الراقية؛ أو مع الوضعاء والأشراف تخفف عن الأشراف، وتقسو على الضعاف.
كان المعمول به في القانون الروماني الشهير أن تشدد العقوبة كلما انحطت الطبقة. فكان يقول: "ومن يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء، فعقوبته -إن كان من بيئة كريمة- مصادرة نصف ماله. وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض"
وكان المعمول به في القانون الهندي الذي وضعه "منو" وهو القانون المعروف باسم "منوشاستر" أن البرهمي إن استحق القتل، فلا يجوز للحاكم إلا أن يحلق رأسه. أما غيره فيقتل! وإذا مد أحد المنبوذين إلى برهمي يدا أو عصا ليبطش به قطعت يده... الخ
وكان اليهود إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد.
وجاء الإسلام ليضع الحق في نصابه؛ وليأخذ الجاني بالعقوبة، مراعيا جميع اعتبارات "الواقع". وليجعل حد الأَمة -بعد الإحصان- نصف حد الحرة قبل الإحصان. فلا يترخص فيعفيها من العقوبة، ويجعل إرادتها ملغاة كلية من ارتكاب الفعل تحت وطأة الظروف. فهذا خلاف الواقع. ولا يغفل واقعها كذلك فيعاقبها عقاب الحرة -وواقعها يختلف عن واقع الحرة. ولا يتشدد تشدد الجاهلية مع الضعاف دون الأشراف!!!
وما تزال الجاهلية الحديثة في أمريكا وفي جنوب أفريقية وفي غيرها تزاول هذه التفرقة العنصرية، وتغفر للأشراف "البيض" ما لا تغفره للضعاف "الملونين" والجاهلية هي الجاهلية حيث كانت. والإسلام هو الإسلام.. حيث كان..
ثم تنتهي الآية ببيان أن الزواج من الإماء رخصة لمن يخشى المشقة أو الفتنة. فمن استطاع الصبر- في غير مشقة ولا فتنة -فهو خير. لما أسلفناه من الملابسات التي تحيط بالزواج من الإماء:
(ذلك لمن خشي العنت منكم. وأن تصبروا خير لكم. والله غفور رحيم)
إن الله لا يريد أن يعنت عباده، ولا أن يشق عليهم، ولا أن يوقعهم في الفتنة. وإذا كان دينه الذي اختاره لهم، يريد منهم الاستعلاء والارتفاع والتسامي، فهو يريد منهم هذا كله في حدود فطرتهم الإنسانية، وفي حدود طاقتهم الكامنة، وفي حدود حاجاتهم الحقيقية كذلك.. ومن ثم فهو منهج ميسر، يلحظ الفطرة، ويعرف الحاجة، ويقدر الضرورة. كل ما هنالك أنه لا يهتف للهابطين بالهبوط، ولا يقف أمامهم- وهم غارقون في الوحل -يبارك هبوطهم، ويمجد سقوطهم. أو يعفيهم من الجهد في محاولة التسامي، أو من التبعة في قلة مقاومة الإغراء!
وهو هنا يهيب بالصبر حتى تتهيأ القدرة على نكاح الحرائر؛ فهن أولى أن تصان نفوسهن بالزواج، وان تقوم عليهن البيوت، وأن ينجبن كرام الأبناء، وأن يحسن الإشراف على الجيل الناشِئ، وأن يحفظن فراش الأزواج.. فأما إذا خشي العنت: عنت المشقة عند الصبر، وعنت الفتنة التي لا تقاوم، فهناك الرخصة، والمحاولة لرفع مستوى الإماء، بذلك التكريم الذي يضفيه عليهن. فهن (فتياتكم) وهم (أهلهن). والجميع بعضهم من بعض يربطهم الإيمان. والله أعلم بالإيمان. ولهن مهورهن فريضة. وهو نكاح لا مخادنة ولا سفاح.. وهن مسؤولات إن وقعن في الخطيئة.. ولكن مع الرفق والتخفيف ومراعاة الظروف:
يعقب بها على الاضطرار لنكاح غير الحرائر. ويعقب بها على تخفيف عقوبة الإماء.. وهي في موضعها المناسب عقب هذه وتلك، فمغفرة الله ورحمته وراء كل خطيئة، ووراء كل اضطرار.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} المحصنات الحرائر، والفتيات الإماء، فإن الإسلام لا يعبر عن العبد إذا أضيف إلى مولاه بالعبد، بل يعبر عنه بالفتى، وهذا من أدب الإسلام وتكريم الإنسان... {والله اعلم بإيمانكم بعضكم من بعض} هذه جملة معترضة بين إباحة نكاح الفتيات المؤمنات، وصورة العقد عليهن. وهذه الجملة السامية فيها فائدتان: أولاهما: التفتيش النفسي عن القلب، وما تخفيه الصدور بحيث يكون الشخص دائم التفتيش عن عيوبه، لأن الله تعالى أعلم بإيماننا منا، وهو سيحاسبنا على ما يعلم، وأفعل التفضيل في قوله تعالى:"أعلم" على بابه، فهو أعلم منا بأنفسنا... {فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخذان} النكاح العقد ولا يستعمل في القرآن إلا بهذا المعنى، والمعنى: فاعقدوا عليهن عقد الزواج بإذن أهلهن، وأهلهن في هذا المقام هم المالكون لهن. وعبر عن المالكين بالأهل حملا للناس على الأدب في التعبير، ولأنه يجب أن تكون العلاقة بين العبد ومالكه علاقة أهل لا علاقة رق، ولذا يجب عليه أن يعطيه كل حقوق قرابته من مأكل ومسكن وملبس، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إخوانكم خولكم (أي مكنكم الله من رقابهم) قد ملككم الله إياهم، ولو شاء لملكهم إياكم، أطعموهم مما تطعمون، واكسوهم مما تكسون"...