فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمَن لَّمۡ يَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن يَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِيمَٰنِكُمۚ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۚ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذۡنِ أَهۡلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِ مُحۡصَنَٰتٍ غَيۡرَ مُسَٰفِحَٰتٖ وَلَا مُتَّخِذَٰتِ أَخۡدَانٖۚ فَإِذَآ أُحۡصِنَّ فَإِنۡ أَتَيۡنَ بِفَٰحِشَةٖ فَعَلَيۡهِنَّ نِصۡفُ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ مِنَ ٱلۡعَذَابِۚ ذَٰلِكَ لِمَنۡ خَشِيَ ٱلۡعَنَتَ مِنكُمۡۚ وَأَن تَصۡبِرُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (25)

{ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخذان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم ( 25 ) }

{ ومن } شرطية أو موصلة { لم يستطع منكم طولا } الطول الغنى والسعة قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي وأبو زيد ومالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبو الثور وجمهور أهل العلم ، وإنما سمي الغنى طولا لأنه ينال به من المراد ما لا ينال مع الفقر ، والطول كناية عما يصرف إلى المهر والنفقة يقال طال طولا في الأفضال والقدرة ، وفلان ذو طول أي ذو قدرة في ماله ، والطول بالضم ضد القصر ، وقال قتادة والنخعي وعطاء والثوري : إن الطول الصبر .

ومعنى الآية عندهم أن كمن كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها فإن له أن يتزوجها إذا لم يملك نفسه ، وخاف أن يبغي بها ، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة ، وقال أبو حنيفة وهو يروي عن مالك : إن الطول المرأة الحرة فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ولو كان غنيا ، وبه قال أبو يوسف واختاره ابن جرير واحتج له .

والقول الأول هو المطابق لمعنى الآية ولا يخلو ما عداه عن تكلف ، فلا يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر وغيره .

{ أن ينكح المحصنات } الحرائر { المؤمنات } هو جري على الغالب فلا مفهوم له ، ومعنى الآية فمن لم يستطع منكم غنى وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات { فمما } فلينكح مما { ملكت أيمانكم } يعني جارية أخيك المؤمن ، ودخلت الفاء في قوله { فمما ملكت } لتضمن المبتدأ معنى الشرط وقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحر أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرة كما ذهب الشافعي ، والشرط الثاني ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله { ذلك لمن خشي العنت منكم } فلا يحل للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت .

والمراد هنا الأمة المملوكة للغير ، وأما أمة الإنسان فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز له أ يتزوجها وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها .

{ من فتياتكم المؤمنات } وقد استدل بهذه الآية على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية ، وبه قال أهل الحجاز وجوزه أهل العراق ، والفتيات جمع فتات وهي الشابة من النساء والعرب تقول للمملوك فتى وللمملوكة فتاة ، وفي الحديث الصحيح : لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن ليقلن فتاي وفتاتي{[445]} .

{ والله أعلم بإيمانكم } فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران أي كلكم بنو آدم وأكرمكم عند الله أتقاكم فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عند الضرورة فربما كان إيمان بعض الإيماء أفضل من إيمان بعض الحرائر ، والجملة اعتراضية تفيد أن الإيمان كاف في نكاح الأمة المؤمنة ولو بظاهر ، ولا يشترط في ذلك أن يعلم إيمانها علما يقينا فإن في ذلك لا يطلع عليه إلا الله تعالى .

{ بعضكم من } جنس { بعض } أي أنهم متصلون في الأنساب ، لأنهم جميعا بنو آدم في الدين لأنهم جميعا أهل ملة واحدة وكتابهم واحد ونبيهم واحد ، والمراد بهذا توطية نفوس العرب لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإمام ويستصغرونهم ويغضون منهم ويسمون ابن الأمة الهجين ، فأعلم الله أن ذلك أمر لا يلتفت إليه فلا يتداخلنكم شموخ وأنفة من التزويج بالإمام فإنكم متساوون في النسب إلى آدم .

وقال ابن عباس : يريد أن المؤمنين بعضهم أكفاء بعض ، أي فلا يترفع الحر عن نكاح الأمة عند الحاجة إليه .

{ فانكحوهن بإذن أهلهن } أي بإذن المالكين لهن ومواليهن لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء إلا بإذن من هي له ، واتفق أهل العلم على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها باطل لأن الله تعالى جعل إذن السيد شرطا في جواز نكاح الأمة .

{ وآتوهن أجورهن بالمعروف } أي أدوا إليهن مهورهن بما هو المعروف في الشرع من غير مطل ولا نقص ولا ضرار ، وقيل مهور أمثالهن ، وقد استدل بهذا من قال إن الأمة أحق بمهرها من سيدها ، وإليه ذهب مالك وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد وإنما أضافها إليهن لأن التأدية إليهن تأدية إلى سيدهن لكونهن ماله .

{ محصنات } عفائف حال { غير مسافحات } زانيات جهرا أي غير معلنات بالزنا ، وهذا الشرط على سبيل الندب بناء على المشهور من جواز نكاح الزواني ولو كن إماء ، قاله الخطيب .

{ ولا متخذات أخدان } أخلاء يزنون بهن سرا ، والأخدان الأخلاء ، والخدن والخدين والمخادن أي المصاحب ، وقيل ذات الخدن هي التي تزني سرا فهو مقبل للمسافحة ، وهي التي تجاهر بالزنا وقيل المسافحة المبذولة وذات الخدن التي تزني بواحد . وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ولا تعيب اتخاذ الأخدان ، ثم رفع الإسلام جميع ذلك فقال الله { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } وقال أبو زيد الأخدان الأصدقاء على الفاحشة .

{ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } المراد بالإحصان هنا الإسلام ، روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأنس والأسود ابن زيد . وزر بن حبيس وسعيد بن جبير وعطاء والنخعي والشعبي والسدي ، وروى عن عمر ابن الخطاب بإسناد منقطع وهو الذي نص عليه الشافعي ، وبه قال الجمهور ، وقال ابن عباس وأبو الدرداء ومجاهد وعكرمة وطاوس والحسن وقتادة وغيرهم أنه التزويج ، وروى عن الشافعي .

فعلى القول الأول لا حد على الأمة الكافرة ، وعلى الثاني لا حد على الأمة التي لم تتزوج ، وقال القاسم : وسالم إحصانها إسلامها وعفافها ، وقال ابن جرير : إن معنى القراءتين مختلف ، فمن قرأ أحصن بضم الهمزة فمعناه التزويج ، ومن قرأ بفتح الهمزة فمعناه الإسلام .

قال قوم إن الإحصان المذكور في الآية هو التزوج ولكن الحد واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أ تتزوج بالسنة ، وبعه قال الزهري .

قال ابن عبد البر : ظاهر قول الله عز وجل يقتضي أنه لا حد على الأمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج ، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن وكان ذلك زيادة بيان .

قال القرطبي : ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف لولا ما جاء في صحيح السنة من الجلد .

قال ابن كثير في تفسيره : والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان هنا التزويج لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه { ومن لم يستطع منكم طولا إلى قوله فإذا أحصن } الآية فالسياق كله في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله { فإذا أحصن } أي تزوجن كما فسره ابن عباس ومن تبعه{[446]} .

قال وعلا كلا القولين إشكال على مذهب الجمهور لأنهم يقولون إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة مزوجة أو بكرا مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء ، قد اختلفت أجوبتهم عن ذلك .

ثم ذكر أن منهم من أجاب وهم الجمهور بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم ، ومنهم من عمل على مفهوم الآية وقال إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها ، وإنما تضرب تأديبا قال وهو المحكي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد وداود الظاهري في رواية عنه .

فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم ، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، قال : إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير{[447]} ، فإن المراد بالجلد هنا التأديب وهو تعسف .

وأيضا قد ثبت في الصحيحين من حديث أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ) ، الحديث{[448]} .

ولمسلم عن حديث علي : يا أيها الناس أقيموا على أرقادكم الحد من أحصن ومن لم يحصن ، فإن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها ، الحديث .

وأما ما أخرجه سعيد ابن منصور وابن خزيمة والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( وليس على الأمة حد حتى تحصن بزوج فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب ) فقد قال ابن الخزيمة والبيقهي إن رفعه خطأ والصواب وقفه .

والفاحشة هنا الزنا فعليهن نصف ما على المحصنات أي الحرائر الأبكار إذا زنين ، لأن الثيب عليها الرجم ، وهو لا يبعض ، وقيل المراد بالمحصنات هنا المزوجات لأن عليها الجلد والرجم ، والرجم لا يتبعض فصار عليهن نصف ما عليهن من الجلد ، فيجلدن خمسين ويغربن نصف سنة .

والمراد بالعذاب هنا الجلد ، وإنما نقص حد الإماء عن حد الحرائر لأنهن أضعف ، وقيل لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر ، وقيل لأن العقوبة تجب على قدر النعمة كما في قوله تعالى { يضاعف لها العذاب ضعفين } ولم يذكر الله سبحانه في هذه الآية العبيد وهم لاحقون بالإماء بطريق القياس كما يكون على الإماء والعبيد نصف الحد في الزنا كذلك يكون عليهم نصف الحد في القذف والشرب .

{ ذلك } أي نكاح المملوكات عند عدم الطول { لمن خشي العنت } العنت الوقوف في الإثم وقيل الزنا وأصله في اللغة انكسار العظم بعد الجبر ثم استعير لكل مشقة ، وأريد به هنا ما يجر إليه الزنا من العقاب الدنيوي والأخروي ، والمعنى ذلك لمن خاف أن تحمله شدة الشبق والغلمة والشهوة على الزنا .

وإنما سمي الزنا بالعنت لما يعقبه من المشقة وهي شدة العزوبة فأباح الله تعالى نكاح الأمة بثلاث شروط : عدم القدرة على نكاح الحرة وخوف العنت وكون الأمة مؤمنة ، وفي القاموس العنت الفساد والإثم والهلاك ودخول المشقة على الإنسان ولقاء الشدة والزنا والوهي والانكسار واكتساب المآثم ، وأعنته غيره وعنته تعنيتا شدد عليه وألزمه ما يصعب عليه{[449]} .

{ منكم } بخلاف من لا يخالفه من الأحرار فلا يحل له نكاحها ، وكذا من استطاع طول حرة ، وعليه الشافعي وكذا مالك وأحمد .

{ أن تصبروا } أي صبركم عن نكح الإماء { خير لكم } من نكاحهم لأن نكاحهن يفضي إلى إرقاق الولد والغض من النفس { والله غفور رحيم } هذا كالتأكيد لما تقدم{[450]} .


[445]:مسلم2249- البخاري1251.
[446]:ابن كثير1/476.
[447]:مسلم1703- البخاري1088.
[448]:مسلم1703- البخاري1088.
[449]:وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه. يعني يصير ولده رقيقا، فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق الولد. وقال سعيد ابن جبير: ما نكاح الأمة من الزنا إلا قريب، قال الله تعالى: {وأنم تصبروا خير لكم} أي عن نكاح الإماء، وفي سنن ابن ماجه عن الضحاك بن مزاحم قال: سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أراد أن يلقى الله مطهرا فليتزوج الحرائر"، ورواه أبو إسحاق الثعلبي من حديث يونس بن مرداس، وكان خادما لأنس، وزاد: فقال أبو هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت أو قال: فساد البيت".
[450]:قال القرطبي: والصواب من القول في قوله {ذلك لمن خشي العنت منكم} ذلكن لمن خاف منكم ضررا في دينه وبدنه.